قضايا وآراء

الإمكانات المستحثة للتعبير السينمي

بعد أن تحررت من قيود التمثيل التي كانت تثقلها منذ نشأتها الأولى. ويلاحظ / متري / إن السينما مجرد كتابة بيد انه يستطرد قائلا: إنها كتابة ذات ألفاظ تؤلف عناصر للمشاهدة. وحتى تشبع السينما القواعد الروائية بقدر ما تلتزم بقواعد الكتابة، فأن عليها أن تشبع قواعد ومستلزمات المشهد،  ولكن إذا كان من الضروري إضافة التنسيق الشكلي للقصة لمعطيات التعبير السينمي الأولى , وليس إلى تطور هذه المعطيات، فعند ذلك يصبح التمييز بين الإخراج السينمي والإخراج المسرحي مستحيلا.  وهكذا لا نستطيع أن نقترب من تعريف السينما إلا بواسطة  الصورة، وكذلك لا نستطيع أن نربطها بالنصوص الروائية إلا عن طريق إخراج سينمي ذي قواعد محكمة بعيدا عن البناء الروائي الخاص بالقصة. وقد يبدو لنا- على العكس من ذلك -  إن العديد من الأفلام الحديثة وجدت معناها في نص لا يقترب من الصورة بدلا من أن يكملها، والأمثلة على ذلك كثيرة. فطريق الفن السينمي الذي يفرض على الواقع مفهوما معنويا قد يتصدى لهذا الواقع بدلا من أن يكمله. ومن الملاحظ أيضا انه في مثل هذه الأمثلة جميعا يوحي الفلم بعد نهايته بفقد كل معنى أظهره وجود الصورة. وهنا تنشأ المعاني بواسطة بنيان جمالي تؤكد الرواية فيه سردها لأحداث القصة بواسطة علاقة الصور بعضها مع البعض الآخر. ولا يمكن إدراك المعنى بمضمون الصورة وإلا تعرض للخطأ. إن هذا التغيير في الصورة الذي يحدث بعد المونتاج ينهي استبدال السرد الأدبي للإحداث بالسرد التمثيلي، واختلاف هذه الألفاظ يدور حول عامل الزمن، بينما نجد في الرؤية المسرحية إن الزمن مجرد إطار للمشاهد إذ تكون هذه المشاهد ثابتة ومتتالية. وعلى العكس من ذلك نجد في القصة الأدبية الخالصة إن الزمن يؤلف مادة ذاتية للموضوع مما تعطي للشخوص مرونة وقابلية على التغيير. وينطبق هذا الرأي على شخصيات / فلوبير /، وعلى القائمين على سرد روايات / بروست / الذي يبعث من جديد ليجعل من الزمن مصدرا لتأملاته. وإذا استطاع التعبير السينمي  أن يصبح قصصيا فلا يتم ذلك إلا إذا توصلنا إلى العامل الزمني الخاص بالرواية، فأن العلاقة تتغير بين المكان والزمان. هذه العلاقة هي التي كانت تضع تعريفا لهذا التغيير منذ نشأته الأولى، والسبب في ذلك هو إن المكان الذي نشاهده يحتوي على الصور السينمية التي تحدث إثناء الزمن نفسه. هذا الزمن الذي لا نلاحظ نهايته هو العامل المميز للمثيل المسرحي، لهذا ينبغي إنهاء وجوده حتى ندرك عامل الزمن في واقعه المحسوس، وقد بذلت السينما المعاصرة جهودا عظيمة لتحقيق ذلك حتى وصلت إلى قدرة تفوق الفكرة ذاتها. وفي غضون هذا التطور التدريجي أصبح من المستحيل أن نفرق بين الإخراج السينمي والإخراج المسرحي، لأن الفصل المسرحي أعطى اهتماما كبيرا لبقاء الإنسان وليس لزمن الإحداث، ولم يصبح التكوين ألبنياني للرواية محسوسا إلا بتحديد أنماط الحركة جميعا التي تسمح – في السينما – باستبعاد النظر من الصورة والتركيز على انتظار وقوع الإحداث، أو على صدى هذه الإحداث، وفي هذا الإلغاء التدريجي لصورة المكان إمام الحركة الدالة على الزمن، ينبغي التمييز بين ثلاث مراحل لهذا التحرك والذي تسببه المعايير الآتية :

 

التعبير السينمي:

إن المرحلة الأولى هي التي تحدد حركة الشخصية نفسها في الفترة الزمنية المناسبة، فحتمية هذه المرحلة أكيدة، خاصة أنها تستلزم إدخال خطة الإحداث لتصبح محسوسة، وهي أكثر المراحل خطورة لأنها تكثر مما تنوه هبه الواقعية جميعا، فإذا كان استعمال الخطة يطمح لاستبدال الزمن المسرحي بزمن الواقع فلا بد من أن ندخل في هذا الوصف نص المغامرة الذاتية بإطالة حركات الشخصيات بواسطة الإحداث بين الفصول وبإطالة مرورهم في شوارع ليس لها نهاية، بمعنى آخر، إذا ما مرّرنا الأشخاص في الزمن  لن يصبح العالم الذي ندركه غير انعكاس للرؤية الداخلية التي تتخلله تدريجيا. مثل هذا التحريك اللازم لنقل معنى ذاتي يتطلب إطالته فيما يخص الملاحظة المعتادة للحركة أي لحدود استعمالها. إن تحديد اتجاهات الكاميرا، يشكل المظهر الثاني للحركة الخاصة بالتعبير السينمي، فتحريك الكاميرا المستمر وتسليطها على أشياء معينة لا يوضح استمرارية المنظر بل يوضح استمرارية المشاعر لتلك الأشياء. وللكتابة السينمية مظهر ثالث أقدم واهم مما سيق فهو الذي يجعل الحركة التي تربط الصورة ملموسة. ولا نعني هنا الحركة داخل الصورة ولا حركة الصورة نفسها بل أن ذلك كله يتم بواسطة مونتاج مفكك لموضوع الإحداث. وهكذا يكمل المونتاج القدرة الديناميكية للتعبير السينمي. ومنذ عام 1964 و (بريسون) يربط بين التعبير الذي يحدث داخل الشخصيات وبين إبداع الحركة الخاصة بكل فيلم. وكذلك نجد (أستروك) يعرّف وظيفة الكاميرا ويعهد إليها قبل كل شيء بنقل المعنى غير المحسوس في تتابع الصور. وقد أنتظم هذا التتابع تدريجا في إعمال (بريسون) وأصبح له صلة هندسية حقيقية، إذ تتغير فيه الصور في اتصال بعضها بالبغض الآخر، أما التعبير فلا يتحقق عن طريق الحركات أو الكلمات أو التمثيل وإنما بواسطة النغمة وتداخل الصور والمواقف والعلاقات. هذا المونتاج الذي يدلي بتلميحات وإشارات لا يبالي بوحدة الاستمرارية في التمثيل ليخلق استمرارية خفية تعكس رؤية وتفهم ما بداخل الإنسان، ومثال على ذلك تجوال المسجونين في الفناء الخاص بالإعدام، والألعاب اليدوية للنشالين. ذلك كله يفقد بالتكرار الموسيقي للمعنى المرئي ولا يوحي إلا بتحريك الروح طبقا لتحريك النغم. وعلى العكس من ذلك تماما فالتكبير المبالغ فيه لبعض المناظر يحول دون رؤية التفاصيل. ولتركيبة بعض المواضيع المعقدة ذات الواقع والزمن المتغير أعطى (رينيه) للسينما إمكانية التعبير عن الذكريات التي لم يتمكن احد حتى ذلك الوقت من التعبير عنها في التمثيل إلا بواسطة العودة إلى الماضي (فلاش باك) والإفصاح عن صور في الذاكرة تبدو حتى ذلك الوقت ذات طابع خيالي يجعلها لا تتساوق مع التمثيل السينمي. هذه الإشكال الحركية الثلاثة تُستعمل دائما – بنحو أو آخر – في كل نص سينمي،, بيد أن الفيلم يكون في البنيان التمثيلي نفسه متناسيا هذا التحريك بإخضاعه لهيكل نظري لقصة أو لأخرى. وهذا ما يظُهر لنا إن السينما المبنية على سرد الإحداث الروائية يمكن إن تولد من التمديد المحسوس لهذا التحريك. وهكذا يدنو بنيان الفيلم من بنيان الرواية في الحدود التي يسمح لها المكان في ارتباطه بالزمن. وليس هنالك من شك في أن  الشكل الأخير من هذه الإشكال الثلاثة يبدو أكثر إثراء في قدراته الأدبية، فالمونتاج الذي يحدد وضع خطة سينمية في منتصف الطريق بين الصورة والجملة التي تحتويها يسمح بتنظيم أسلوب مشابه للأسلوب نفسه الذي يجعل من الكتابة الأدبية في منتصف الطريق بين المعنى والرواية. وقد ينشأ هذا المعنى الثاني الذي يميز العمل الأدبي في كمله الجمالي من بين الصورة مثلما ينشأ من بين الكلمات. إن الكتابة السينمية تستفيد من عنصر الزمن العقلي الذي يعيد بدقة متناهية الكتابة الأدبية للرواية. هنالك نقطة مشتركة  عند الروائيين الجدد، وهي من دون شك الرغبة في هدم استمرارية الزمن  فيترتب على ذلك تكوين المسافة إذ تعود كل رؤية إلى وجودها المفاجئ والى فقدان معناها.، ولكن ما يجعل الرواية تنتهي إلى شعر (مثال على ذلك التغييرات التي قام بها الآن روب غرييه) عن بعض الصور المؤثرة التي من الممكن أن توجد في السينما في غضون الحفاظ على النص. وإذا ما افترضنا إن المعنى الثاني للعمل يمكن أن يتعارض مع الصورة المتحررة من ارتباطاتها الذاتية بالفواصل التي يقوم بها المونتاج، تجد أن المعنى أكثر حضورا وازدواجا، هكذا نجد تعددا في المعاني يساوي التعبير عن الزمكانية ويسمح للسينما بإكمال تطلعات متناقضة لا تستطيع الرواية الجديدة القيام بها من دون ان تفقد خاصيتها الروائية. إن إكمال التطلعات الأدبية، أو تخطيها (وبالفعل نحن لم نركز حتى الآن على إمكانات السرد الأدبي  الذي يتمسك بالصورة الحية وحدها، والذي بمقتضاه تعرف السينما غالبا). معنى هذا أن ننسى إن السينما وان لم تكن في بادئ الأمر غير صناعة نجدها تحد من إمكاناتهم، غير أننا نلاحظ إن الكلمة والموسيقى  واللون تسهم بالقدر الذي يسهم التصوير فيه في إتمام الفيلم حتى إن درجة إعداد أي عمل تقاس من دون شك  بارتباطها بتعدد الصور الموسيقية وليس بارتباطها بتعدد المعاني. هذه الارتباطات  التي تتكون بين مختلف الآثار المحسوسة التي تعطي للعمل معناه والكلمة بنحو خاص منذ أن أصبحت داخلية وخرجت  عن خط سيرها، واستطاعت إن تضاعف النص وهي تلمح عن وجود رؤية أخرى داخل ما نراه أمامنا.  وبهذا الصوت الخارجي  الذي له قيمة في سرد الإحداث استطاعت بعض المواد الأدبية أن تنتقل إلى السينما بلحظات من الصمت أو تقربهم من الغناء، وهذا لأن  الاندماج الحقيقي للأدب بالسينما يتحقق بالكتابة وليس بالكلمة، وبالتنظيم الأقصى لإمكانات القواعد الموسيقية للتعبير السينمي يتوصل (رينيه) في مثال فريد  إلى دمج إمكانات الأدب  والسينما جميعا المتقابلة والمتحدة  على الرغم من تعارضها. إن الفن السينمي  إذا ما أراد أن يصل  إلى تطلعات لتحقيق واقعية كاملة  فمن الضروري إن يتخلص  من الواقعية المفاجئة  خاصة وإنها ليست حقيقية تماما. إن السينما الأدبية  لا تستطيع تلبية  التطلعات الأدبية  إلا إذا استوعبت  بنيان الأدب وفاعليته  وأدركت مثلما أدرك الأدب  كيفية التعبير  عن باطن الأمور  والوصول إلى ما يعجز  القول التعبير عنه. لقد حللنا إمكانات وقدرات السينما ونأمل أن نكون قد وضحنا تفوقها. فالسينما أبعد من أن تكون فنا رفيعا لأنها تظهر الكثير بل على العكس من ذلك فهي تصل إلى الفن الجمالي الكامل حين تجعلنا نستنبط الوقائع أكثر  مما تتيح لنا رؤية هذه الأمور. هذا بالفعل ما جعل مفارقات الفن السينمي بامتلاك جميع مظاهر الواقعية ولكن لتحقيق هذه الواقعية لا بد من تخطي جميع مظاهرها من دون مخالفة قوانينها.

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1308 الجمعة 05/02/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم