قضايا وآراء

"مجرد لعبة حظ" لإبراهيم الدرغوثي

عاد إلى التاريخ، وإلى الخرافة بحثا عن الغيبي والعجائبي عودة إلى ينابيع الروح الكامنة في الأساطير والحكايات العجيبة التي حفظها التراث الشفوي، بحثا عن ذلك المنطق العجيب الذي يشي بحالات وتجليات غريبة عن منطق العقل .

 

الدخول إلى آثاره الادبية محفوف بالحذر عند دخول مزالق الكتابة التي تستفزالساكن وتقترب من المقدس، فهو قارئ متمكن لدور المبدع الحقيقي في كسر المسلمات الجاهزة ودخول مجاهل البحث عن المجهول .

 

"أعتقد أن لكل زمن تقنيات الكتابة والبوح بمكنونات النفس، فمنذ ألف سنة أو يزيد كان الحكواتي يمارس فنه في الأسواق العمومية أو في المقاهي، ثم لماذا نذهب بعيدا فأنا شخصيا تربيت على ايقاع الحكايات الشعبية التي كانت الجدات والخالات والعمات والجارات تحكيها لنا بأساليب غاية في التشويق ونحن نسمر في ليالي الشتاء أمام كانون براد الشاي .

 

وحين نعود لتقنيات الكتابة البلاغية وأساليب القص في الأدب العربي فإننا نلاحظ أن هذه الأساليب والتقنيات قد تغيرت كثيرا منذ الإطلالة الأولى على فن القصة والرواية التي وفدت على أدبنا العربي من الغرب .

 

إن النصوص التي كتبها الرواد والتي حاولوا فيها محاكاة القصة والرواية الغربية ما زالت إلى زمن الناس هذا تعيش بيننا وتجد لها من الأتباع والمريدين من كتاب اللغة العربية ولكنني شخصيا لا تستهويني هذه التقنيات في الكتابة لأنني منذ البدايات كنت متمردا على الساكن ومغرما بالمتحول من الأشياء، لذلك كنت وأنا أكتب نصي أرى بعين للمنجز السردي العربي التقليدي وبالعين الأخرى أبحث في المجهول والمنسي من تراثنا السردي القديم كالمقامة والخبر والحكاية والأسطورة وما شابه ذلك من منجزات الأدب العربي القديم . لأنه من الواجب علينا كأدباء أن لا نكتفي بالموجود فنسير على الطرق الممهدة وإنما يصبح من واجبنا أن نتجاوز هذه الطرق وأن نختط لنا مسالك أخرى للقادمين بعدنا من الأجيال ." (1)

 

هو باختصار الأديب المجدد إبراهيم الدرغوثي، الذي نحاول الاقتراب من عالمه الروائي، من خلال إحدى رواياته وهي "مجرد لعبة حظ " (2) . وهي رواية تاريخية من التراث .

 

القارئ لهذه الرواية يستشف بأن الكتاب اعتمد على التراث بما يحويه من أساطير وحكايات عجيبة، ليحوله إلى " الظواهر السيكولوجية " التي "نلاحظها في الإنسان الحديث وتوجد أيضا في المجتمعات البدائية" وذلك من خلال شخصية "بثينة" الشابة الجميلة المتعلمة المنتمية إلى عائلة غنية، ولكنها تحمل بين طياتها أوهام الماضي بأساطيره وحقائقه توقا لحلم ما ينشده الإنسان الحديث في عودته إلى الينابيع  الأولى لتشكل الرموز لديه : " أنا امرأة تصرخ في وجه العالم ولا يطرف لها جفن لأنها تعرف أنها أسطورة . أسطورة خارجة عن مدونات التاريخ . هل صادف أن رأيتم سطورا تلملم ذاتها لتتحول إلى لحم ودم ؟ أنا بثينة فائز الرابحي سليلة تلك الأسطورة، سأحكي لكم حكايتي . سأقول كثيرا من الكذب وقليلا من الصدق . سأخلط الحق بالباطل وأرمي به في وجوهكم، أرميكم بخليط من الأوهام والحقائق، أوهام كالحقيقة، وحقيقة أغرب من الوهم " ص9 .

 

بثينة هذه ليست شاعرة كما يتوقع البعض وهي أستاذة العربية الدارسة للشعر الذي يستقدم أساطير الماضي عودة إلى التشكلات الانفعالية البدئية للغة، بل هي قارئة ورق وقد تمت بداية دخولها عالم الروح  ومحاولة استطلاع سطور الغيب من خلال تلك الغجرية التي يستعين بها والدها لتكشف له آفاق المستقبل : " جلست على طرف الفراش فأوسعت لي المرأة الغريبة مكانا قرب والدي، ورمت لي الأوراق في حجري وهي تقول :

- أنت منذورة لهذه الأوراق يا عزيزتي فلا تهربي من قدرك

وعلمتني سحر اللعبة، سبعة أيام وسبع ليال وأنا أقرأ في كتاب الغجرية إلى أن حفظت السر الكامن في الأوراق " ص21 .

 

في صباح اليوم السابع اصطحبتها الغجرية إلى الشاطئ، استمعت إلى صخب الأمواج، ثم إلى جامع سيدي بوحديد بالحمامات حيث طافت بالتابوت متمتمة، ثم تركت أساورها وودعها وعقودها وحلقها . أغمضت عينيها ودخلت البحر متجهة نحو الشمس التي أرسلت نحوها طريق حمرتها القانية . فصورة تلك الغجرية التي تودع أسرارها لمن تشاء وتذهب في طريق الشمس ( المعرفة والاكتمال حسب المنطوق الأسطوري )، تكشف الغطاء عما يكمن في ذات الإنسان عامة، في كل العصور، وتثير مشاعر "الرهبة" و "الغيبية" وهي "ردود فعل سيكولوجية" إزاء الشعور بعدم الأمن، أساسها "البناء الثقافي" لشخصية بثينة القائم على الشعائر والمعتقدات، ويبرز ذلك الرد السيكولوجي في سلوك الأب وما يعنيه من تواصل لسلطة الماضي والموروث المتصل بالقوى الروحية، والغجرية التي تكرس بقاء التكهن الغيبي من خلال تعويذات وتمتمات وطقوس وطرق تعليم .

 

فالصورة تحيل إلى الثقافة من خلال رؤية لا تقوم على القسوة أو العقاب بل على "إثارة مشاعر الرهبة والغيبة" واستثارة "الوجدان الغامض" للنظر إلى الواقع من خلال طاقات و"نفوس عليا خالصة"، تخرج من جوف التاريخ وتعيد بث قواها . وبما أن كل بناء ثقافي يثير "ردودا سيكولوجية" معينة فإن تلك الردود تصحبها عاطفة تعبر عنها، عاطفة كفيلة بانتقال المشاعر الغيبية من الغجرية إلى الفتاة بسرعة في حين أن المنطقي يفضي إلى انتقال العناصر الثقافية عبر التعلم الذي يقتضي وقتا طويلا وتفاعلا . فالمشاركة الغيبية أفضت إلى العودة إلى "التفكير الماقبل منطقي"، وقام عليها أساس البناء الروائي حيث (تعيش بثينة  قصة حب عصرية مع جميل العائد من أعماق التاريخ في صورة أستاذ يدرس الأدب العربي لتلاميذ مدينة الحمامات الفاتنة، ولكن والد بثينة الغيور على شرفه يطحن جميلا تحت عجلات شاحنة وترفض بثينة موت حبيبها فتجد في البحث عنه في كل مكان إلى أن تلتقي به في مرقص المدينة في ياسمين الحمامات. فهل هذه المرأة العصرية التي عشقت جميلا هي بثينة أم هي امرأة أخرى قال إنه عرفها خلال رحلة بحرية بين مدينتي "صور" و"قرطاج" هي " اليسار ) - ملخص الرواية على الغلاف الخارجي -

 

 "ففي روايتي "مجرد لعبة حظ " استحضرت شخصيات تاريخية لأبني بها نصي منها جميل وبثينة وأليسار وغيرهما لأن التاريخ والتراث منجم من المناجم التي يمكن للمبدع أن يستثمرهما في الكتابة أحداثا ووقائع وأساليب أيضا .

 

إن روايتي " مجرد لعبة حظ " تلاعب في الزمن بالزمن لأنها تنبني أساسا على قصة حب قديمة جدا . قصة حب بين بحار فينيقي وعليسة ثم تحول هذا الحب بواسطة تناسخ الأرواح بين بثينة وجميل ثم صار جميل أستاذ تاريخ في معهد ثانوي في مدينة الحمامات وبثينة تلميذة من تلامذته . وخلال هذه الصيرورة التاريخية الممتدة أكتب تاريخ المنطقة العربية بطريقة أمزج فيها بين الخيال والوقائع الحقيقية التي جدت في هذه البلاد . وبما أن الواقع وحده ما عاد قادرا على تفسير التاريخ فإنني استعرت وسائل أخرى للكتابة من وراء العقل لأفسر بها هذا المنطق العجيب الذي صار يتحكم في مصير الإنسان بصفة عامة والإنسان العربي بصفة أخص ." (3)

 

فهل رممت أسطورة عليسة أوهام بثينة ؟ أم أنها بنت حضارة على أنقاض روح تائهة، سيما وأن بثينة وقد تزوجت فائز الرابحي لن تنجب بل يبرز عقمها عقم العلاقة بين  الحاضر والماضي، بين الآن والتاريخ المغلف بالأوهام . وتكمن الإجابة في رأيي في هذا المشهد القصصي الذي يصور اللقاء بين بثينة والرجل القادم من التاريخ في المرسم : " رأيت نفسي في المعبد، كنت واحدة من العواهر المقدسات . أنا "اليسار" المقدسة أمارس الجنس مع الكاهن الأعظم "عملقرت" .. في قلب الظلام .. وأنهمك في رقصة مجنونة يصحبها نغم موسيقي يخرج من ثقوب الجدران ويهطل من السقف . ويطلع من أعماق الأرض لحن متفرد في حنانه . لحن موجع في وحشيته . لحن مؤلم في عذوبته وفجأة انهمر الضوء على المكان فكأن شموس الذنيا حطت على داخل المعبد " ص145 .

 

الانتقال من الحب العذري مع جميل، إلى الحب المدنس مع الرجل الغامض في المرقص، استرداد للمعرفة وفق المرجعية القديمة حيث "تجمع بين الجنس والإلاه" وفق النص الأسطوري - الديني - الوثني، والعقيدة الماجوسية المنفتحة على المدرسة الطبيعية . هي سخرية الكائن من الفناء يتهدده كما التنين يفتح فوهته في أعماق الهاوية . هي القلق ينفث الروح في الطين، هو كائن مائت يختبر موته على أرض البشر لكنه ينزع إلى قداسة الخلق والاندماج في وحدة الوجود .

 

بثينة هي الروح القلقة، هي الظل لروح هائمة، تفر من الخوف نحو عالم آخر تستجلي فيه يقينها، حيث التعري من قشرة العدم، حيث تتوزع الذات بين لحظة تاريخية مبهمة، وأخرى أنطولوجية تستجلي اللامرئي في المنطوق الطبيعي، في كلمات الغيب .

 

"في عودة الكاتب إلى التاريخ مآرب كثيرة منها مثلا الاتكاء على شخصيات قديمة أو أحداث وقعت في  الماضي ليكتب بها ومن خلالها عملا إبداعيا يخاف إن كتبه بلغة العصر وأحداثه الآنية أن يصادر أو يساء فهمه . فيلتجئ الكاتب إلى المواربة والمداورة والتلصص على الأحداث من ثقب التاريخ تارة ومن وقائع التراث أخرى وهذا راجع بالأساس إلى الخوف من سلطة المحرمات التي يعاني منها صاحب النص" . (4)

 

مجرد "لعبة حظ" رواية تصور هروب الإنسان من عالم يشي بالعقم والفناء، ليبث الرؤيا في ذلك الذي لا يرى عبر استقدام روحي الخلق بثينة - أليسار، جميل - عملقرت، والروح والطين .

 

...........................

(1) حاورته هيام الفرشيشي : الملحق الثقافي لجريدة الصحافة التونسية، 22 ديسمبر 2006، العدد 556، ص 2

(2) مجرد لعبة حظ، رواية، دار المدينة للنشر، 2004، ط1

(3) حاورته هيام الفرشيشي : الملحق الثقافي لجريدة الصحافة التونسية، 22 ديسمبر 2006، العدد 556، ص 2

(4) حاورته هيام الفرشيشي : الملحق الثقافي لجريدة الصحافة التونسية، 22 ديسمبر 2006، العدد 556، ص 2

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1311 الاثنين 08/02/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم