قضايا وآراء

الاستشراق والمستشرقون

جمع بين جهاته الكثيرة شخصيات فذة يقف المرء أمام بعضها عاجزاً عن الوصف، إذ يبلغ بعضهم مستوى جبال الهملايا نفسها، وكأن أحدهم راهب نذر نفسه لكنيسة العلم فهو لا يفتأ يصلي فيها العمر كلها، فآدم متز اشتغل بكتابه (نهضة الإسلام) الذي تناول فيه القرن الرابع الهجري حتى وفاته؛ فنشره أحد تلامذته. 

ولعل أسماءً سُجلت في عالم الاستشراق، أصبحت جزءاً من دراسة تراث العرب والمسلمين مثل: أسين بلاثيوس (أسبانيا)، نلينو (ايطاليا)، ماسينون وبلاشير (فرنسا)، جولدتسيهر (المجر)، نولدكا وبروكلمان (المانيا)، كراتشكوفسكي (روسيا)، دوزي (هولندة).

ويرى رائد السوداني في كتابه (الاستشراق والتبشير) أن المستشرق لم يكن يعمل فردانياً بل مؤسساتياً، وهذا جعله أكثر عمقاً وأبلغ أثراً. وفي هذا القول الكثير من الحقيقة، إلا أن المستشرقين كانوا يسعون جاهدين إلى أن يسجلوا حضوراً في بلدانهم وفي البلدان العربية، ويتنافسون على كرسي اللغات الشرقية في جامعاتهم، التي وضعت كرسيا لدراسة اللغات الشرقية مبكراً، لما أدركوه من ضرورة أن يملكوا ناصية هذه اللغات، في الوقت الذي لم يحظ الشرق كله بهذا التوجه.

والمستشرقون في توجههم الاستشراقي على ثلاثة أصناف: الأول أراد إتقان اللغات الشرقية، ومنها اللغة العربية، لخدمة اللاهوت وفهم الكتاب المقدس، فكان (اسخولتنز) يدعو إلى الاستفادة من كنز اللغة العربية لفهم الكتاب المقدس، مؤكداً وجود (23) موضعاً غامضاً في العهدين القديم والجديد وفي سفر أيوب وسفر الأمثال لسليمان (ع) تزيل اللغة العربية غموضها، وهذا يفسر الجهد الخارق الذي بذل من قبل مستشرقين عملوا في هذا الاتجاه لدراسة أقصى الطاقات اللغوية للعربية ودراسة أكثر مواضع الأدب العربي استعمالا للغة القديمة والمهملة، فـ(ألفرت فلهلم)، كما يرى عبد الرحمن بدوي، يعد حجة في الشعر الجاهلي وشعر الرجازين، وكان رائداً في تحقيق ودراسة لغة الغريب والحوشي في هذه الأدبيات، ممهداً لأبناء العربية الطريق لهذه الدراسة. وتندرج كتب كثيرة وضعت للتعريف بالنحو العربي وتدريسه ضمن هذا المنحى.

والثاني كان يدرس اللغات الشرقية لذاتها، وهو يمثل إخلاص عالم للعلم الذي يجد فيه رسالته، وبالتالي فعليه الإنصاف وإجلاء الحقيقة العلمية دون النظر إلى مكانها، ولسنا نعدم مستشرقين أنصفوا أشد الإنصاف وكان لهم فضل في إبراز الكنوز الشرقية وتعريف الغرب بها، وبالتالي تأثيرها في الغرب، كترجمة (غالان) لألف ليلة وليلة و(فتزجرالد) لرباعيات الخيام، و(بارت رودي) للقرآن الكريم وشرحه الإسلام بأمانة اعترف بها العالم الإسلامي، ولا ننسى كتباً ذات أثر كـ(تاريخ الأدب العربي) لبروكلمان. وقد بذل مستشرقون غيارى جهوداً طائلة لإزالة ركام الكذب والتلفيق والوهم الذي وقر في أذهان الغربيين عن الشرق بسبب مستشرقين آخرين، يقول (آلبري) في هذا الصدد :" إن من واجب المستشرق ذي الضمير الحي القيام بإزالة حشد هائل من الباطل وسوء الفهم والأكاذيب المتعمدة، قبل أن يتيسر إقرار الحق عن الشرق وشعوبه في الضمير المشترك للغرب". 

والثالث كان في خدمة الاستعمار وأهداف معادية للعرب والمسلمين، فقد أقدم غير واحد على دراسة حياة الرسول محمد (ص) لعرض الرسول مشوهاً يعاني الصرع والعصاب وعدم الاتزان، واستغل (بالمر) معرفته القوية باللغة العربية ولهجاتها المحلية لخدمة الاستعمار الانكليزي، فكلفته بريطانيا بالتمهيد لاحتلال مصر عام (1882م)، وفعل مثله (سلفستر دي ساسي)، فكان المدير العام لجيوش نابليون في حملته لاحتلال مصر والشرق، على جلالة ما قدمه للغة العربية كدراسة النحو العربي وتحقيق مقامات الحريري وغيرها.

وعوداً على ذي بدء، نقول: إن للاستشراق وجوها كثيرة، وفيما قدموه فائدة جليلة للتراث العربي والمسلم، وان لم يعملوا للعرب والمسلمين، فبفضلهم أصبحت هذه الآداب والعلوم عالمية يطلع عليها الآخر، وعرَّفوا بما لم يستطع العرب والمسلمون التعريف به؛ كقراءة ريكمانز النقوش اليمنية التي صارت مرجع الباحثين حتى العرب لهذه النقوش، واستدركوا وأضافوا على المؤلف العربي كإضافة (دوزي) على المعاجم العربية بكتابه (تكملة المعاجم العربية)، كما درسوا أولية الشعر العربي وجاؤوا بنظريات مهمة حين أغفل العرب هذه القضية، أو قصروا فيها فالجاحظ يقدم اقتراحاً غير مقنع وهو: إن الشعر العربي يسبق البعثة النبوية بـ(150) سنة، ولكن النضج والعبقرية التي تمتاز بها هذه الأشعار لا تؤيد هذا الرأي، بل تؤيد تأكيد المستشرق (اسخولتنز) وجود قصائد عربية في زمن سليمان بل موسى (عليهما السلام)، وهو رأي يتفق مع منطقية جودة هذه الأشعار. وليس ينسى فضلهم بتعليم الشرقيين المنهجية في البحث وتحقيق المخطوطات، والدلالة عليها ووصفها ووضع الكتب والمجلدات بموجوداتها في كبريات المكتبات العالمية.   

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1311 الاثنين 08/02/2010)

 

 

في المثقف اليوم