قضايا وآراء

أحمد مطر .. أو الشاعر الثائر....!!

""دور الأنظمة هو نفس دور حمالة الحطب !""

"" كيف أستطيع التخلص من قطعان " المافيا اللغوية " التي تكتظ بها حظائر النشر الاحتكارية ؟""

""احرقوا كل قصائدي عن لينين ! ""

""الحل يحتاج إلى حمولة سبع سماوات من القنابل..ولا أظنها ستكفي لغسل العار ......! ""

""آخر قناة للحوار عندنا أغلقت بالرصاص، بعد انتهاء الخلافة الراشدة بساعة ! ""

""في زماننا هذا، استأثر فرعون بخزائن قارون""

"" سأنشغل، لبعض الوقت، بدفن كرامة أمّة كاملة لا تزال جثتها مرمية على رصيف شارع) الفيديو كليب)""

.......                                                                                                                       أحمد مطر

 

- تقديم لابد منه:

من المعلوم أن الكتابة الشعرية الحديثة – ووفق المعلن عنه بين دفوف دواوينها ومؤلفات نُقادها-  باتت تتجاذبها مجاديفُ عقودٍ عجافٍ، وتياراتُ رهبةٍ نفسيةٍ ما فتئَ يقتات عليها الشاعر والإنسان العربيان منذ نكبة 48 على حد سواء، وإلى حدود الساعة. إذ لم يجنيا منها سوى صنوفٍ من الغربة والضياع واليأس والاستسلام لعقوق الزمن ودواليب الحرب العقيم. ومنذ ذاك الوقت لاتسمع إلا أنين الصدإ يتعالى في دهاليز القمع والتيه دونما صوت أو إرادة:

يكفيك أن تعيش في المتاه

منهزما أخرس كالمسمار(2)

غير أن القاعدة التي تستثني القياس على الشاذ لاتَصْدُق ولاتكاد – في حمأة هذه المعاير والمثالب- على شاعر من طينة أحمد مطر، ذاك العظيم الذي عظُمت بنظمه النّهى، وخَطّ بحبر الأنفة والتميّز بَصَمَات حياته وأفكاره وقيمه على بحر القوافي كوسيلة تقترن بالفعل ولاتحل محله، مُهِمّتها الأولى والأساس التحريض والكشف والشهادة على الواقع والنظر إلى الأبعد على حد وصف الشاعرِ نفسِه.

لذلك؛ فإن المتأمل لشعر أحمد مطر لا يتلكأ - لحظة - في نعته بالشاعر الظاهرة أو الشاعر الثائر أو شاعر السخرية أو حتى الشاعر الذي انشغل حقا بقيم أمته والذود عن كرامتها فيما يخدم مستقبلها ووجودها.بل باستطاعتي القول – في هذا الباب- إن أحمد مطر شاعرٌ خرّج شعره من بين ظهراني القرآن حيث التوسل بالتناص والتمثيل والاستشهاد بل واحتماءً – في النهاية- بآيه، من منطلق منحه الصبغة الشرعية من جهة، وتمييز كتاباته من جهة ثانية، ومن ثم لا تكاد تجد قصيدة له خاليةً من أريج القرآن أو مسك ألفاظه و نفحات معانيه.

فإذا كان القرآن قد ذم امتهان الشعر - وليس لذاته طبعا بل - لمتضمناته من معاني الغواية والغوايات وأصوات غوغائِـيِّيه ممن تتشدق أفواههم بخبيث الكلم وخبثه؛ فإنه في المقابل استثنى الشعراءَ المؤمنين العاملين بالصلاح وللصلاح، إذ يصف هؤلاء وأولئك في أواخر سورة الشعراء (224 ـ 226) بقوله:"والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون مالا يفعلون، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون".

فإذا اعتبرني البعض مغاليا في مثل هذا التوصيف،فلا مراء أن الحق معه. لكن؛ إن تفضل وتصبّر معي قليلا؛ ريتما أنشّم القول فيه، لربما عدَل عن حكمه، أو على الأقل خفّت حدته. لأن الشاعر الذي يجازف بحبل ذوي القربى و أُولي الرحم من أجل قضية أو مبدإ نَقِيّين صافيين طاهرين معقولين؛ لايمكنه إلا أن يكون كما زعمتُ ووصفت. ووصفي هنا بعيدٌ عن كل تشابه أو تمثيل بمن نفحت أقلامهم وألسنتهم عن الإسلام والمسلمين من قبل 14 قرنا وما يزيد، من أمثال حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن زهير وغيرهم من التابعين وتابعي تابعيهم... إذ ماذا تقول في رجل يصدح بالحق ولايخشى في الله لومة لائم؟؟؟ ماذا تقول فيمن جهر قائلا: " الإسلام قلبي والعروبة ملامحي وصوتي"؟؟ و صاح مقتنعا:"أنا إرهابي، من قبل سبتمبر ومن بعد"" و وردد مؤكدا "أن دور الأنظمة هو نفسُ دور حمالة الحطب"؟؟ و" أن آخر قناة للحوار عندنا أغلقت بالرصاص، بعد انتهاء الخلافة الراشدة بساعة"... وغيرها من الخطابات النارية التي لايستطيع النطقَ بها أحدٌ أو حتى محادثة نفسه بها غير أحمد مطر ومن شاكله من ذوي النفوس الأبية... وإلا لمَا صُودرت لافتاته(3) و لمَا نُفي ولما غُرّب وعُذّب.... وهنا يصدق قول القائل :إن أحمد مطر" شاعر تمرد على قوانين الشعراء، فلم يكن قضية بقدر ماكان هو نفسه قضية ، قراءة شعره علناً تهمة يعاقب عليها القانون في كل بلاد العرب !".

إن جل لافتات أحمد مطر هي بمثابة قنابل لفّ ألفاظها بمعانيها ليصوبها في اتجاه كل خائن وطاغية وعميل رضي بالذل والهوان لأمته وشعبه ودينه، بِلَعْقه في بِرَك البقايا والبغايا. وما يدلل على ذلك؛ كل المحاولات التي نشدت إخراس صوته فلم تستطع، والذي اسطاعته هو نفيه خارج عِراقه بعد أن غادره أولا صَوب الكويت ومن ثم شطر لندن مُكرها صحبة رفيقه في القضية والثورة الفنان ناجي العلي.

ولتتبين سيرته أكثر؛ أدعوك بأن تُصغ السمع له حين يختصرها لك بلمسة المبدع في جملتين اثنتين يقول فيهما:"" ولدت في البصرة، وهربت منها إلى الكويت في فترة مبكرة من حياتي، ثم ما لبثت الكويت أن (هـرَّبتني) إلى بريطانيا التي لا أزال راتعاً "في نعيمها" كما يطيب لبعض سكّان  "الجحيم" أن يصفني! أمّا عن حالتي الاجتماعية فأنا ربّ أسرة، ولي من الأبناء أربعة: بنت وثلاثة أولاد"".

ففي سن الرابعة عشرة بدأ مطر يكتب الشعر، ولم تخرج قصائده الأولى عن نطاق الغزل والرومانسية كحال كل "مراهقي" الشعر، لكن سرعان ما تكشّفت له خفايا الصراع بين السُلطة والشعب، فألقى بنفسه، في فترة مبكرة من عمره، في دائرة النار، حيث لم تطاوعه نفسه على الصمت، ولا على ارتداء ثياب العرس في المأتم، فدخل المعترك السياسي من خلال مشاركته في الاحتفالات العامة بإلقاء قصائده من على المنصة، وكانت هذه القصائد في بداياتها طويلة، تصل إلى أكثر من مائة بيت، مشحونة بقوة عالية من التحريض والتمرد والحرية، وتتمحور حول موقف مواطنٍ شاعرٍ من سُلطة و من كل غاوٍ شاعر ترك القضية وعاقر الكأس والأثداء والضفائر المخملية التي تدغدغ مشاعر المراهقين وتستميل شهواتهم ورغباتهم الجنسية كما فعل ويفعل الكثير :

...لعنتُ كل شاعرْ

يغازلُ الشفاه والأثداء والضفائر

في زمن الكلاب والمخافرْ

ولايرى فوهة بندقيةٍ

حين يرى الشفاه مستجيرهْ!

ولا يرى رمانةً ناسفةً

حين يرى الأثداء مستديرهْ!

ولايرى مشنقةً .. حين يرى الضفيرهْ! (4)

ومن هذا المنطلق؛ فإن الحديث عن أحمد مطر وعن مقومات الكتابة الشعرية لديه لاينبغي أن يكون عابرا أو بمحض الصدفة، وإنما الحديث عنه سيكون حديثا ذو شجون كما يقال؛ ذلك أن الوقوف على مضامين وأغراض قَصِيدِه فقط؛ نُلفيه وقوفاً يخضع للتريث والتدبر والتأمل العميق. لذا تجدني أزمعت في هذا البحث تغليب جانب المضمون على الشكل دون إقصاء الأخير، بغاية تبين مهوى العلاقة الثاوية بينه كإنسان شاعر وبين قضايا مجتمعه وقيمه ومعتقداته.

ونظرا لندرة الدراسات النقدية التي اهتمت بشعر الشاعر من جهة، ونظرا لمكانته الخاصة في قلوب الملايين بحكم كتاباته الساخرة ، فإني آثرت أن ألوح بقلمي على شرفات لافتاته آملا النجاح في تسليط الضوء على بعض سمات كتاباته الشعرية شكلا ومضمونا.

 

- مطر والإسلام:

في جواب تناصّي مثير عن سؤال غاية أحمد مطر في الحياة قال: "فإنّ عندي من الصدق والثقة أيضاً ما يجعلني قادراً على طمأنتك (يقصد السائل) بأن ظنك بي لن يخيب بإذن الله، لأنّ غايتي عظيمة بالفعل، وهي دعوة الناس إلى الخروج من عبودية العبيد، إلى نور الحريّة في ظلّ رب العباد".

إن التفكر قليلا في مثل هذه الأجوبة؛ لمَِمّا يثير نوعا من الحماسة في نفسية كل متتبع للشأن "المطري"، لاسيما وأن البعض منهم تلفيه يُشكك في فطرته الإسلامية وفي معتقده، مع العلم أنه يدعي قراءة شعر مطر وتفرس أغراضه ومضامينه، ولو قرأ النزر اليسير منه –حق القراءة- ما تجرأ على ذات القول، لا لشيء؛ إلا لبساطة ووضوح الأخير فضلا عن الأسلوب اللغوي البين المتجاوز لكل غموض أو تلميح. الأمر الذي أدهشه حينما سئل عن معتقده الديني، إذ أجاب السائلَ مستغربا:" وبرغم دهشتي من السؤال عن معتقدي الديني، خاصة ممن يفترض أنّه قرأ شعري واستوعبه، سأقول إنّ معتقدي هو الإسلام، ليس لضرورة تأكيد ذلك، ولكن خشية أن يكون شعري، على رغم وضوحه، قد أخفق في الوصول إلى بعض الناس، فداخلهم الاعتقاد بأنني بوذي !""، ولهذا ولمن شابهه أقولُ (الكلام لمطر):

 

وأَصْرُخُ مِلءَ الفَضاءِ المديدْ :

أنا عَبدُ رَبِّ غَفورٍ رَحيمٍ

عَفُوٍّ كريمٍ

حكيمٍ مَجيدْ

أنا لَستُ عبداً لِـعبْدٍ مَريدْ

أنا واحِدٌ مِن بقايا العِبادِ

إذا لم يَعُدْ في جميعِ البلادِ

ِسوى كُومَةٍ من عَبيدِ العَبيدْ. (5)

وبوضوح أكثر يقول في قصيدته "سيرة ذاتية":

لست عبداً لسوى ربي..

وربي: حاكمي!

ويسترسل معلقا ومؤكدا على صفاء السجية ونقاء المعتقد:"إنني لست مطبلاً في زفّة بعينها، ولا دلاّلاً على باب دكّان حزبيّ محدد. أنا شاعر من عامة الناس، أعيش محنة كلّ الناس، فأعبّر عنها، وأستنهضهم للخلاص، وليعمل كلٌّ على شاكلته. أمّا إذا شئت بديلاً عمّا هو قائم فهو نقيض كلّ ما تراني أنتقده في شعري. إنّه مختصر في "حرية الإنسان وامتلاكه لأمره وفق قانون ربّه"".

بهذا الأسلوب الماتع المانع يكمم أحمد مطر الأفواه المشككة، ويصد بلا خجل سوط الكفر عن ناصيته، لاسيما وأنه من أسرة محافظة ملتزمة بقانون ربها حسب المستطاع، لأن ما يؤشر على ذلك، حكمة من حكم والدته التي لطالما سمعها ترددها على شفتيها تقول فيها ناصحة إياه: (أمّي..لا تعش بذل وأرض الله واسعة). ""ولقد احتجت لأن أكبر وأتعلم القراءة،- يقول أحمد مطر- لكي أدرك أنّ أمي، ببساطتها، كانت تلخّص لي قوله تعالى في سورة النساء: ( إنّ الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنّم وساءت مصيرا) والآن.. أرى ذلك الطفل الذي كنتُه، يموّه دمعته بالابتسامة، ويطلّ من وراء كهولتي، ملوّحاً بقلبه، على رغم اتّساع المسافة والزمن: (شكراً يا أمّي)"".

لقد جاء في الأثر أن عزة المسلم تكمن في إسلامه، وأن من ينشدها في غير الإسلام أذله الله، ليزكي القرآن مضمونه في آية صريحة واضحة تقول: ?وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ? آل عمران / 85 . فأحمد مطر حين سعى في العزة والكرامة، كان في الحقيقة يسعى في عزة وكرامة أمته المسلمة، العربية وغير العربية ولو على حساب ذاته وحياته:

 

 

أنا لن أحيدْ

لأنّي بكُلِّ احتمالٍ سَعيْد:

مَماتي زَفافٌ، وَمَحْيايَ عِيدْ

سَأُرغِمُ أنفَكَ في كُلِّ حالٍ

فإمّا عَزيزٌ.. وإمّا شَهيدْ(6) !

ومن باب غيرته على الشرع المبتلى والمدنس من قبل بعض المجرمين و الفُسَّاق داخل وخارج بلاد الإسلام؛ تجد شاعرنا في بعض قصائده يبلور صورة تبدو ظاهريا متهكمة على الدين وتضرب فيه، إلا أن الأمر –حيت التأمل في معانيه- لاينحو هذا المنحى أبدا ولاينبغي له، لذلك تلفيه يستدرك على المتحذلقين في مثل هذه الأحكام بقوله: "إنني بدافع غيرتي على الشرع المبتلى، أتهكّم على من يمتطون الآخرة للوصول إلى الدنيا، أولئك الذين يفتحون ألف عين على قصر الجلابيب، لكنهم لا يلقون حتى نظرة خاطفة على طول  الأوزار"! أتهكّم على من يشوّهون جمال دين العدل والرحمة، إذ يقطعون يد سارق الدرهم، ثمّ لا يجدون حرجاً من أن يقبضوا رواتبهم من يد سارق البلاد والعباد ، أتهكّم على من يطالبونني بالسمع والطاعة لأيّ أفّاق لم أبايعه على حكمي، ولأيّ لص لم أبايعه على سلبي، ولأيّ مجرم لم أبايعه على قتلي، ثمّ يحاولون تجميل القباحة بقبح أكبر، حين يباركون لي بعظيم المكسب لأنه لم يمنعني من الصلاة ، وأيّ صلاة بعد هذا ؟! أيتفق عقلاً أو شرعاً أن أدين للمنكر بالسمع والطاعة، ثم أقوم لأقرأ في صلاتي : "إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر " ؟!

ألم يصدق الشاعر بقوله واصفا ومنتقدا الزعماء العرب:

وإذا ذئاب الغرب راعية لنا

وإذا جميع رعاتنا خرفان..

هي فتنة عصفت بكيدك كله فانفذ بجلدك أيها الشيطان...

أنبيك أنا

أمة أسيادها خدم

وخير فحولهم خصيان

فالتملق والخنوع للآخر وفق منطق الغلبة، دائما يعصف بكرامة الأمة ورجولتها حتى عُد جميع رعاتها خرفان وأسيادها خدمٌ مخصيّون على باب الشيطان. وما الشيطان إلا فرعونا الزمان إسرائيل والأمريكان. إلا أن لكل فرعون من هؤلاء الفراعنة "هاماناتهم" من العملاء والخونة الذي استأثر بخزائنهم وأوقفهم بوابين على أعتاب ظلمه وجوهره " ليعتصروا "الشرع" سوائل قابلة لأخذ أيّ شكل من أشكال أوانيه المستطرقة.فهؤلاء ليسوا الشرع، هؤلاء هم أعداء الشرع. وأنا ، في الواقع، لا أكتفي بالتهكم عليهم، بل أجلد وجوههم بسوط الإدانة، بأقسى مما أجلد الطغاة أنفسهم ، ذلك لأن الطغاة إنّما يرتكبون جرائمهم عاريةً، أمّا هؤلاء فإنهم يأتون بما يُعجز إبليس من فنون التفصيل والخياطة، من أجل إلباس تلك الجرائم ثوب الدين "! يقول مطر.

ثم ماذا يقول هذا الفهيم الذي من زعم التهكم في أدونيس وخليل حاوي والسياب حينما يصرحون ثلاثتهم علانية بتهكمهم على الدين، بل وعلى الله تعالى وقدرته. فإن سمعت الأول يقول على لسان رمزه الأسطوري "تيمور" وهو يصارع "مهيارا" بعد أن قرر قتله:

لن ينهض بعد الآن

أنا هو الجحيم والديان(7)

ثم قوله:

مسافر تركت وجهي على زجاج قنديلي

خريطتي أرض بلا خالق، والرفض إنجيلي(8)

 

تكاد تدرك على الفور وتعي قوة التهكم والتطاول على الشرع والدين.

أما الثاني الذي ينكر وجود إله يقدّر ويحكم، ويعدل ويبسط، بل يؤمن بإله مزعوم إسمه "تموز" تراه يتملق عطفه وخصوبته ويستعطف عطاءه كما في قوله:

يا إله الخصب، يا بعلا يفض

التربة العاقر

يا شمس الحصيد

نجنا ، نج عروق الأرض

من عقم دهاها ودهانا(9)

ومشهد التهكم الثالث نلحظه مع السياب في قصيدته "المسيح بعد الصلب" حيث تفهم مباشرة من العنوان أن الشاعر يرفض قوله تعالى في سورة النساء157:"وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا " ومما جاء في القصيدة على لسان المسيح وهو يفتدي الفقير بموته من أجل أن يعيش قوله:

كنت بدءا، وفي البدء كان الفقير

متّ، كي يؤكل الخبز باسمي، لكي يزرعوني مع الموسم

وبهذه المشاهد نلفي فرقا شاسعا جدا بين شاعرنا أحمد مطر وبين هؤلاء الثلاثة الذين لم يلجئوا إلى أسلوب التصريح فقط، بل لجئوا إلى أسلوب التطاول على المقدسات بما فيها الله سبحانه وتعالى. وبها نرد على كل متحذلق وزاعم بالقول:"إن أحمد مطر يتهكم على الشرع والدين".

 

- مطر وفرعونا الزمان: أمريكا وإسرائيل

أستهل هذا المحور بمنطق التصريح الذي اعتدته من أحمد مطر مبديا موقفه المعادي لأسد العالم وقردته أمريكا وإسرائيل، خاصة بعد الضربة الموجعة لهما في 11 سبتمبر، إذ تجده يقول:" إنّ موقفي المناهض لأميركا هو موقف مبدئي، لا يحتاج إلى حدث صاعق لكي يُستفز، ولا ينتظر هدنة لكي يستريح، لقد كنت على الدوام، لا أنظر إلى أميركا إلاّ نظرتي إلى الشيطان- والعكس صحيح- ولا أخاطبها إلاّ بحجارة الرجم، حتى أيّام ارتدت العمامة، وأذّنت فينا للجهاد، إذا كنتم تذكرون !وعلى العكس مما ترى، فإنّ شعري في هذا الاتجاه، أصبح أكثر كثافةً وعنفاً بعد 11 سبتمبر بالذات، حين نزعت أميركا حتى براقعها الشفّافة، فأبدت للدنيا وقاحة من شأنها أن تستفزّ الحجر الأصم .اطمئنوا .. ليس لمثلي أن يتغير. أبعد أن فاض إناء العمر ؟!" ) كيف لا( و:

شارون يدنس معتقدى         ويمرّغُ فـي الوحل جبيـني

وأميركا تدعمه جهراً وتمدُّ النار بــبنــزينِ(10)

لكن؛ إن أردت تبيّن حقيقة الموقف فما عليك إلا تتبع سطور قصيدة"أنا ضد أمريكا"، والتي يبدو من عنوانها أنها إعلان عن الرفض، وإعلان عن الكفر بها وبشرعها، بحيث لاتكاد تجاوز كونها وثن تضيق برِجسه الأوثان:

وثنٌ يضيقُ برجسه الأوثانُ وفريسة تبكي لها العُقبانُ

ودمٌ يُضَمِّدُ للسيوف جراحها ويُعيذها من شرها الشريانُ

هي فتنة عصفت بكيدك كلِّه فانفذ بجلدك أيها الشيطان

ثم إنه لافرق بين أمريكا والشيطان، فالشيطان أمريكا وأمريكا هي الشيطان، وسواسٌ خناسٌ، يوسوس في صدور شعوب العالم كي تخنع له فيما يرضي مصلحته، ولو فهمتْ شعوب العالم هذا، ثم من قلبه، قوله تعالى :إن كيد الشيطان كان ضعيفا"، كما فهمه أحمد مطر وغيره من ذوي النفوس الأبية والسجايا الطاهرة؛ لمَا خنعت لغِرّته أو سَاوَمَها بالنصيب المفروض كما قال ربنا عز وجل على لسان الشيطان لمّا طُرد من رحمته:" ولأضلّنهم ولأمنيّنهم ولآمرنهم فليبتكنّ آذان الأنعام ، ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ، ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا، يعدهم ويمنيهم، وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ، أولئك مأواهم جهنم، ولايجدون عنها محيصا" النساء ، الآية 118-120، ولهذا تجد مضمون الآيات مسطر في قول الشاعر مخاطبا هذا الشيطان-أمريكا:

يا أيها الشيطان إنك لم تزل غِرّاً وليس لمثلك الميدان

قف جانباً للإنس أو للجن واتـــركنا فلا إنسٌ هنا أو جان

قف جانباً كي لا تبوء بذنبنا أو أن يدينك باسمنا الدّيانُ

ولو سلمنا بضعف كيد الشيطان وآمنا به، -كما قال بذلك القرآن الكريم- فبم يتقوى؟ أليس بِمَردته وقردته وخنازيره من شياطين الإنس، نعم هُم كذلك، ومنهم عرب:

عربٌ ولكن لو نزعت قشورهم لوجدت أنّ اللب أمريكان

متعففون؛ صبحهم سطوٌ على قوت العباد وليلهم غلمان

بهذه النبرة الساخرة والغليظة الفظّة دأب أحمد مطر يخاطب أمريكا وعملاءها، وبهذه الصيغة وحدها وجد الطريق سالكا إلى قلوب الجماهير المقهورة يتكلم بلسانهم ويخط بأياديهم ويعبر عن أحاسيسهم. ثم إنها جرأة جعلت من مطر شاعرا انتحاريا كما قال بذلك عنه د. يحي معروف في إحدى مقالاته المعنونة ب:" أساليب استخدام الف?اهة في تصاوير أحمد مطر الف?اهية" إن:"جرأته ال?ثيرة لإفشاء مؤامرات أمري?ا وإسرائيل وبعض الدول العربية أتاحت له الفرصة ليطرح نفسه ?شاعر انتحاري. إنه نازع المست?برين الظالمين دون الأسلحة المألوفة ول?ن تأثير شعره في قوالب الف?اهة أ?ثر حدة من أي سلاح ف? العالم".

ثم يسترسل في تصوير حياة الظلم والعبث والمجون لدى الحكام وخدمهم قائلا:

وهنا مليك مغرم بتراثه يحسوا الخمور وكأسه فنجان

وهناك ثوريٌ يؤسس دولةً في كرشه فتصفق الثيران

وهنا مليكٌ ليس يملك نفسه فمه صدىً وضميره دكان

ومفكّرٌ متخصصٌ بعلوم فــرك الخصيتين ففكره سيلان

وشواعرٌ كي لا أسمي واحداً يتسترون وسترهم عريان

يزنون بالقبّان أبياتاً لهم فيميل من أوزانه القَبّان

في كفّةٍ تسبيلةٌ ودراهمٌ وبكفّةٍ تفعيلةٌ وبيان

متفاعلن متفاعلن علانة متفاعلن متفاعلن علان

وتقرقع الأوزان دون مبادئٍ لمبادئٍ ليست لها أوزان(11)

وخاتمة المقطع هاته تزكي مضمون المثل العربي الشائع الذي يقول: "أسمع جعجعة ولا أرى طحينا"، فالحاكم يحكُم، والناقوس يُقرع، والمحكوم يُحكَم والجلاد يَقطع، لكن!! على الطريقة المطرية" حين قال:

تُخصى لنا الأسماع منذ مجيئنا شرعاً ويُعمل للشفاه ختان

ونسير مقلوبين حتى لا تُرى مقلوبة بعيوننا البلدان

والدرب متضح لنا فوراءنا متعقِّبٌ وأمامنا سجّانُ

فيخاف من فرط السكوت سكوتنا من أن تمر بذهننا الأذهان

ونخاف أن يشيَ السكوت بصمتنا فكأنما لسكوتنا آذان

لو قيل للحيوان كن بشراً هنا لبكى وأعلن رفضه الحيوانُ

كم باسمنا نشب النزاع ولم يكن رأي لنا بنشوبه أو شان

وعدتْ علينا العاديات فليلنا ثوبُ الحداد وصبحنا الأكفان

وهواؤنا آهاتنا وترابنا دمعٌ دمٌ وسماؤنا أجفان

صحنا فلم يُشفق علينا عقربٌ نُحنا ولم يَرفق بنا ثُعبان

ومَن المجير وقد جرت أقدارنا في أنْ يجور الأهل والجيرانُ

قلنا ومطرقة العذاب تدقنا سيجيء دورك أيها السندان(12)

إن كره مطر وإعلان تمرده عليها ليس له حدود، كره منغرس فيه حتى النخاع ، وإن رقّ الحصى يوماً وسال الجلمد الصوان، لا لشيء؛ إلا لأنها جذر دوح الموبقات، ومصدر الشر كما يقول :

أنا ضد أمريكا إلى أن تنقضي هذي الحياة ويوضع الميزان

أنا ضدها حتى وإن رقّ الحصى يوماً وسال الجلمد الصوان

بغضي لأمريكا لو الأكوان ضمـــت بعضه لانهارت الأكوان

هي جذر دوح الموبقات وكل ما في الأرض من شر هي الأغصان

وتأسيسا على ما عُرض من المشاهد؛ فإن أحمد مطر سيبقى –رغم أنوف كل الحاقدين- قلما حرا متمردا يفني مداد الألم والأنين والغضب الذي يقض مضجعه ومضجع مجتمعه الأسيف من أجل عالم مستنير عادل يسعى لتوفير الحرية و الكرامة والرفاهية للبشرية كلها.

 

ذ. حمادي الموقت

 

.................................

1)   اعتمد في انجاز هذا البحث على المقابلة الخاصة التي أجراها موقع الساخر وأعضاؤه مع الشاعر ، وهذا عنوانه

http://www.alsakher.com/modules.php?name=News&file=article&sid=284

2)   من ديوان "أغاني مهيار الدمشقي" لأدونيس.

3)   مجموعة من الدواوين الشعرية التي وصل عددها إلى خمسة وسادسها ربما في انتظار الطبع.

4)   من قصيدة: لعنت كل شاعر، أو كفرت بالأقلام والدفاتر

5)   من قصيدة: الإله

6)   من قصيدة: الإله

7)   قصيدة"مهيار وتيمور" من ديوان "المسرح والمرايا" لأدونيس

8)   نقله أحمد المعداوي في كتابه "ظاهرة الشعر الحديث" عن أحمد خليل في دراسة عن "التحول في شعر أدونيس" من مجلة الآداب،1966،ص54

9)   قصيدة " بعد الجليد" لخليل حاوي

10) من قصيدة: أنا عربي

11) من قصيدة: أنا ضد أمريكا

12) قصيدة: أنا ضد أمريكا

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1313 الاربعاء 10/02/2010)

 

 

في المثقف اليوم