قضايا وآراء

نظرية ابن خلدون في الشعر

سواء بسبب التفاعلات الداخلية أو من جرّاء العوامل الخارجية

 

و لقد كان الأدب في صدارة التعبيرات عن تلك الإرهاصات المختلفة فبرزت بصفة أوضح في مجال الشعر حتى أن اِبن خلدون قد سجل التأثير الاجتماعي على اللغة و فنون الأدب في المقدمة

 

ففي الفصل الخاص بعلوم اللسان رأى أنّ اللغة تتأثر بما جاورها من اللغات ذلك أن عربية قريش ليست هي ذاتها عربية مضر ولاحظ كذلك أن لغة (أي لهجة) أهل المشرق تختلف بعض الشيء عن لغة أهل المغرب وكذلك لغة أهل المغرب تختلف عن أهل الأندلس لأنّ أولئك ـ كما أورد ـ خالطهم الفرس والعجم وهؤلاء خالطهم البربر والإفرنج

 

و لاِبن خلدون فصل آخر على قدر كبير من الأهميّة ألا وهو فصل ـ في تفسير الذّوق ـ الذي يحصل عند حذق أساليب العرب بالتعلم والممارسة والمدارسة والاِعتياد والتكرار بدون النظر إلى أصل المرء كما حصل لدى سيبوبه والزمخشري اللّذين صارا من أيّمة العربية رغم عجمتهما

 

و عندما يستعرض تعريف الشّعر من لدن العروضيين في قولهم (إنّه الكلام الموزون المقفّى) فإنه لا يطمئن إلى هذا التعريف بل يدعو إلى ضرورة النظر في الشّعر من جهات أخرى مثل البلاغة والوزن والاِستعارة والأوصاف وغيرها و يخلص إلى تعريف أوسع و أشمل يتمثل في قوله : ــ إن الشّعر هو الكلام البليغ المبنيّ على الاِستعارة والأوصاف المفصّل بأجزاء متّفقة في الوزن والرّوي

 

إذن قد تجاوز اِبن خلدون مقولة (الموزون المقفى) في الشّعر واِقترح تعريفا بديلا شاملا يؤكد فيه على الأسلوب والصّياغة من دون أن يهمل أهمية المبنى و المعنى ثم يطبق نظريته تلك على أعلام الشعر العربي فيخلص إلى أن الكثير منه ليس إلا نظما ولم يستثن حتى المتنبي والمعري

 

وإضافة إلى هذا الرأي الجريء و المخالف المتحدّي للرأي السائد

يضيف اِبن خلدون رأيا غريبا آخر يتمثل في نظرته إلى أن ( كلام الإسلاميين من العرب أعلى طبقة في البلاغة وأذواقها من كلام الجاهلية في منثورهم و منظومهم)

 

ويضرب على ذلك مثال حسّان بن ثابت وعمر بن أبي ربيعة والحطيئة وجرير والفرزدق ويفسر ذلك بأنّ هؤلاء قد سمعوا الطبقة العالية من الكلام في القرآن والحديث اللّذين عجز البشر عن الإتيان بمثلهما)

 

ويزيد هذا الرّأى الجريء صراحة وبيانا فيقول بلا لبس : ــ واِرتقت ملكاتهم في البلاغة على ملكات من قبلهم من أهل الجاهلية ــ

 

بينما السائد لدى اللغويين والمفسرين والأدباء عموما أن كلام الجاهليين يعتبر المرجع في اللغة العربية و أساسها بل كثبرا ما يكون الفيصل عند شارحي القرآن والسنة

 

يتوضح لنا حينئذ أن رأي اِبن خلدون في الشّعر و اللغة لم يُسلّم فيهما بالتقليد وإنما نظر إليهما نظرة نقدية مخالفة بل معاكسة للسائد و المتفق عليه

 

و تبدو جرأته النقدية ونظرته الاِستشرافية من ناحية أخرى عندما دوّن بعض النماذج من قصائد كانت رائجة في عصره من المشرق والمغرب فسجّل شعر الهلاليين ومعاصريهم وكذلك فصّل القول في شعر الموشّحات الأندلسية تفصيلا ضمن مقولاته في اللغة تلك التي تتأثر بوضوح بحركة الحياة في المجتمع و تطوراته المختلفة

 

هنا تبرز مواقف اِبن خلدون النقدية الثاقبة في اللغة والشّعر تلك التي تمتاز بكثير من الجرأة على ما ترسخ من النظريات القديمة لذلك فإن بعض فصول المقدمة تعتبر أحد المداخل الأساسية في تأصيل حركات تطوير الأساليب الأدبية

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1315 الجمعة 12/02/2010)

 

في المثقف اليوم