قضايا وآراء

من المعنى إلى الاستعمال

 بين قواعد اللغة والسياق؛ وأن جوهر المعنى كامن في الممارسة اللغوية يفسر تحول الكلمات والعبارات إلى مجرد أصوات إن هي لم تعبر عن تلك الممارسة.

 

ويعدّ مفهوم الألعاب اللغويةlanguage games  من أهم المفاهيم التي بلورها فتجنشتين للتعبير عن نظرته السابقة إلى اللغة، فقد شبه اللغة من حيث هي كلمات وعبارات منتظمة في سياق محدد بلعبة شطرنج؛ فالكلمات تحتل مواقع معينة في الجمل، والأخيرة تحتل بدورها مواقع مختلفة ولانهائية في أشكال لغوية مختلفة بطريقة تشبه من وجوه انتظام بيادق الشطرنج في مواقع مختلفة من رقعة الشطرنج في نظام مخصوص، وإذا كان على الفرد التقيد بقواعد لعبة الشطرنج إن أراد أن يلعبها فإن عليه التقيد بقواعد اللغة إن أراد أن يكون لكلماته معنى.

 

إن استعمال كلمة ما في عبارة معينة يشبه استعمال البيدق عند تحريكه، أما قوة الكلمات فتنبع من موقعها ضمن الجمل ومن القواعد المتفق عليها ضمنا بين مستعملي اللغة، تماما مثلما تنبع قوة البيدق من استعماله وتحريكه وفق قواعد أصطلح عليها. ولما كانت قطعة الشطرنج ذات معنى فقط في سياق حركة ما، وحركة البيدق هي حركة حقيقية فقط إذا كانت ضمن لعبة الشطرنج، فإن الكلمة لها معنى في سياق الجملة، والجملة هي جملة حقيقية فقط إذا كانت جزءا من لعبة لغوية؛ أي جزءا من تلك الممارسة التي يتحقق بها شكل من أشكال التواصل الفعلي بين الناس كالكلام المستعمل بين البناء ومساعده في أثناء العمل، أو بين من يصدر الأوامر ومن يطيعها.

تجري اللغة إذن وفق قواعد موضوعية تجد التعبير عنها في الممارسة الفعلية للغة. وهذا معناه أن المعنى ليس موضوعا تشير إليه الكلمة في عالم الأشياء؛ لأننا إن قلنا ذلك نكون قد فصلنا بين الكلمة ومعناها، أو كأننا نتلقى الكلمة ثم نبحث عن معناها مفترضين- خطأ- ضرورة تأويل معنى كل كلمة نسمعها، واضعين بذلك خطوة زائدة بين الكلمة وفهمها، أو بين الاستماع إلى أمر ما مثلا والعمل بمقتضاه على حد تعبير فتجنشتين في الكتاب البني والأزرق(ص2-3)،  ناهيك عما تفترضه هذه الأطروحة من تعريف المعنى بالإشارة referential theory وهي النظرية التي تواجه صعوبات نظرية جمة، ليس أقلها وجود كلمات ذات معنى لا تشير إلى أي موضوع، أو وجود فرق بين معنى الكلمة ومدلولها.

 

 وليس المعنى مشتقا من الحالة النفسية للمتكلم، بمعنى أنه ليس موضوعا أو صورة شمن إطاعة قواعد اللغة والذهاب في استعمالها في هذا الاتجاه أو ذاك، وهو الأمر الذي يجعل المعنى مستقلا منطقيا عن الحالة الذهنية للفرد. فكما أن معرفة الكيفية التي نلعب بها الشطرنج تعني معرفة قواعد اللعبة والغرض منها( الفوز) بصرف النظر عن الحالة السيكولوجية المصاحبة للعب،  فإن معنى الكلمة كامن في قدرتنا على استعمال تلك الكلمة استعمالا صحيحا ولا قيمة معرفية لأي حالة أو صورة عقلية مصاحبة لتلك العملية. وهذا ما دفع العديد من الفلاسفة أمثال كانط وفتجنشتين إلى رفض ما سمي بالطبيعة السيكولوجية للمعنىpsychologism . والنظر بدلا من ذلك إلى المعنى على أنه فعل وممارسة كما سنشرح لاحقا.

 

إن امتلاك مفهوم ما يعني كما رأى فتجنشتين قدرتنا على استعماله على نحو ما نجد أنفسنا نستعمله. أن يمتلك الشخص مفهوم الألم- على سبيل المثال- يعني أن يكون بمقدوره استعمال هذه الكلمة وتطبيقها على حالات كافية توصف ضمن شروط عامة وقابلة للاختبار بأنها حالات خاصة بمفهوم الألم. من يدرك معنى الألم مثلا يجب أن يدرك أنه مفهوم ينطبق على الإنسان وعلى كل كائن آخر يتصرف مثله، وأنه يرتبط على نحو أساسي بمسالك طبيعية للتعبير عن ذلك الإحساس، وأنه يؤدي وظائف اجتماعية محددة كلفت النظر والرجاء والعطف والتظاهر..الخ.

 

إن معرفة معنى المفهوم (الكلمة) يتطلب أن تكون لنا القدرة على معرفة قواعد استعماله في اللغة وبأي مفاهيم يرتبط. لأن" معنى الكلمة هو استعمالها في اللغة"على حد تعبير فتجنشتين. أما وجود رابط منطقي بين معنى الكلمة والقدرة على استعمالها فمرده وجود صلة منطقية بين معرفة مفهوم ما والقدرة على استعماله. فنحن لا نتصور شخصا يعرف ما يعنيه مفهوم ما دون أن يكون لديه القدرة على استعمال الكلمة التي تعبر عن ذلك المفهوم. 

وترتبط معرفة معنى مفهوم ما أيضا بفهمه؛ ذلك أن من المحال على المرء أن يعرف ما يعنيه مفهوم ما إذا لم يفهم دوره في السياق اللغوي، ولم يطبقه تطبيقا صحيحا. وهذا مغزى ما أشار إليه الفيلسوف الأمريكي المعروف جون ديوي في كتابه "كيف نفكر؟" عندما قال إن الكلمة غير المفهومة- أو الصوت المجرد من اللغة هو شيء مجرد من أي قيمة عقليةintellectual value وهذا يعني أن القضية: "إننا لا نفهم معنى تلك الكلمة" يكافئ منطقيا قولنا إن: "تلك الكلمة لا معنى لها".والأمر ذاته يقال عن علاقة المعنى بالتفسير. فمعرفتي معنى كلمة أو مفهوم ما تعني قدرتي على تقديم تفسير للطريقة التي ينبغي استعمال ذلك التعبير بها. والتفسير أيضا فعل ومهارة عامة وقابلة للاختبار.

 

 إن معرفة معنى كلمة معينة يعني فهمها في سياق استعمالها مثلما أن معرفة دور " القلعة" في لعبة الشطرنج يعني فهم الطريقة التي تتحرك بها داخل رقعة الشطرنج. وهذا يعني أن معرفة المفاهيم ليست شأنا ذهنيا إنما هي شأن لغوي في الأساس. شأن يرتبط بصلة وثيقة بمهارات عامة تقبل الاختبار كالفهم والقدرة على نحو ما قدمنا. فهي مهارات عامة بمعنى أنها مشتركة بين أهل اللغة بمعناها ومدلولها أي بطريقة استعمالها، وهي قابلة للاختبار بمعنى أنها ليست في الأساس قدرة عقلية خاصة تصادف أنها تطابقت مع قدرات الآخرين الخاصة أيضا، بل هي  مهارات فرضتها طبيعة الاتفاق في اللغة بوصفه شيئا مستقلا عن هذا الفرد أو ذاك، فاللغة شيء معطى given data وهذا يعني أننا لسنا بحاجة دائما عند فهم الكلمات وتطبيقها إلى تأويلها- البحث عن معناها- وإلا صار المعنى مستحيلا لأنه لا معنى ممكن إن ارتبط تحققه بعدد لانهائي من التأويلات. هناك وفق تعبير فتجنشتين نقطة تتوقف عندها تلك التأويلات، وهذه النقطة تظهر عبر الممارسة أو الطريقة التي نتصرف وفقها عند التواصل باللغة.  والنتيجة أننا لا نجد فصلا على المستوى المفهومي بين المعنى والمعرفة من جهة وبين القدرة والتفسير والفهم من الجهة الأخرى، فكلها مهارات.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1315 الجمعة 12/02/2010)

 

 

 

 

في المثقف اليوم