قضايا وآراء

"مذاق النور" للشاعرة الفرنسية كاترين ستول

تشير كاترين ستول في هذا الديوان إلى الأشياء والعناصر المادية لكنها تصلها بحالات وصور تباعد  العلاقة بين الدال والمدلول، حيث يكتنز الوصف بالايحاء وتشرق الأشياء بصور لا مرئية، تجد صداها في الشعور، وقد استحالت الأشياء المستمدة من مرجعها الواقعي إلى إشارات ورموز للمعنى  بعدما تلبس المعنى ب"الوهم المرجعي"، ومن ثمة تفرد للسياق الدلالي حيزا هاما، وتتراكب الدلالات في سياق عام . إذ تقوم قصيدتها على صور بلاغية يتم وصلها من خلال التراكب الذي يجعل المعنى ينتشر تدريجيا، حيث يترابط الجزء بالكل . 

 

تربة عاشقة

حوريات رملية

أجسادها هاربة

الأجساد ممتدة قريبا

من قلب الأرض (رقصة الكثبان) ص5

 

فهي تلج رحم التربة الرملية عبر الشعور بالتحام الذات الشاعرة بهذه الأرض التي تفتح جذورها العاطفية للذات التائقة للانعتاق، وتكشف عن ديناميكية عاطفية - حركية، تعبر عن الزمن النفسي المتحول، وعن تلبس الذات الشاعرة بمعدنها الأرضي وهي تنفث في تربة الوجود العشق الصوفي الذي يرتقي بها إلى صفوف حوريات النعيم حين ينصهر الجزئي بالكلي، ولكن ليس في حالة روحية منعزلة على تربة التكوين بل في حالة اكتشاف الصوت القادم من الرحم، والإنصات إلى ما تحتيات اللغة، حيث تستشعر الذات يقينا ما أشبه بأصداء الدهشة أو هاتف الحدس .

 

وحيدة تسمع خفقانه

وحيدة تنصت لانبجاسه

منشدة تسابيح الحمد

للرمال الصافية - ص5

 

فهي تحاكي وحدة الصوفي، وهو يستجلي معرفته الحدسية في خفقات القلب، وتندمج في وحدة الوجود وهي تتدرج من الصوت الحسي إلى الصوت الروحي، وتنتقل من المعرفة الحسية إلى المعرفة الروحية، عبر تحول الخفقان إلى ما وراءه، لتنغمر في النشيد، نشيد الغيبة المدركة  في حالة الصفاء والتناغم والالتحام بين المادة والروح .

 

وللنشيد أهمية في " مذاق النور "، فقد قسمت الشاعرة ديوانها إلى نشيد أول، ونشيد ثان، ونشيد ثالث . وقد تركب كل نشيد من عدة قصائد باستثناء النشيد الثالث " سكرانة بترتيل الفضاء اللامتناهي" إذ اقتصر على قصيدة واحدة تجسد حالة النشوة الروحية . و" الغناء كما يذهب بعض الكتاب والباحثين هو أصل الشعر في جميع الآداب القديمة وخصوصا السامية منها، فالشعر بموجب طه باقر يعني تقريبا الغناء والنشيد مثل "شيرو" البابلية، و"شير" العبرية و"شور" الأرامية . وكانت هذه الكلمات الثلاث قد فقدت حرف العين المتوسط الذي لو افترضنا وجوده لافترضنا الكلمات وفق تسلسلها : شيرو= شعير\ شير=شعير\ شور=شعور، بالإضافة إلى أن المصطلح العبراني= شيرهيشريم يعني نشيد الإنشاد المنسوب إلى سليمان (2) .

 

وتمثل لفظة الرمال في هذه القصيدة  نواة المعنى لأنها تشير إلى  الحياة التي تستكين تحتها، وترمز إلى الحدس المدرك، وتحيل إلى اكتشاف المطلق الذي  يكتشف بإحالة مرجعية ترميزية وهي تلج ما تحتيات الرمال في أصداء الينابيع، والرمال هي المعدن اللغوي الذي شكلت منه الشاعرة تيمة خلق القصيدة الضاجة بالنشيد في فضاء الصمت، فثمة خلق حركي - حسي- تخييلي، يجعل القصيدة تكتب صورها في ايقاع رتيب أشبه بموسيقى الصمت في صحراء ممتدة . ولكنه الصمت الزاخر بالكلمات والموسيقى ينبجس من باطن القلب إلى طيات اللغة التي لا ترتقها فجوات الحيرة .

 

ومن ثمة يتحول هذا المرئي المحسوس في تيمة الفراغ واللاشيء إلى امتداد للذات الشاعرة ، فهي التي تجعل منه قناعا لما يعتمل في طياتها، وهي التي تعيد تشكيله وخلقه بما يستجيب لتجليات اللغة عبر الخلق والإبداع وقد اقترنت بتفتيق القدرات الكامنة وبلورة مكونات الإنسان في إعادة تكوين العالم شعريا . وبذلك يكشف الشعر عن ذلك المحتجب الدي يسميه هيدغر " بيت الكينونة "، وفي استرجاعه تسترجع الشاعرة الميتا-لغوي الذي تجابه به حالة التشيء والآلية التي اكتنفت الإنسان في العصر الحديث، وتشحن  بالقوى الحيوية التي تجابه الخراب الزاحف على الروح وعلى الأشياء .

 

أنظر، أنظر جددا

واقرأ

نشيدالحب

ينساب من شفاه المطلق

 

لا يهم إن كنت أنت

أنا

 

المهم أن يقال حبي نقي

 

ليس للبقية من أهمية

إلا إذا تكررت

أسماء الحب"الحسنى"

 

لأنه وحده العليم

بنظام الكون السامي

يده وراء يدك مبتعدة كانت

أو قريبة مني ( من أجل بياض الحب الخالص ) ص70

 

 

ان استكناه المعرفة الحدسية عبر ولوج الأنا في الأنت  يبلور المعرفة المقترنة بضمير خارج عن الذات عن طريق القياس، فالذات وهي تجسد أبعادها الوجودية، فهي ترى ذاتها في مرآة من حولها وتجسد اللحظة الأنطولوجية الغائبة عبر الحب في استجلاء أحاسيس القلب وفي استجلاء الإلاه الذي يحمل هذا الدفق الهائل من الحب الذي مكنه من الخلق، وبالتالي تنصهر عناصر الخلق بين الضمائر وبين الإلاه في خلق العالم من الفراغ .

 

وبذلك عبرت الشاعرة عن رغبتها في الاكتشاف ورغبتها في الخلق وقد امتلكت من الإرادة والقوة واليقظة ما جعلها تسير في دروب الفراغ باحثة عن صوت الحكمة في تراتيل الحب والعشق الصوفي، وتبدو ملمة بالنص القرآني وهي تندمج بذات الإلاه، وتتحول إلى كائن خلاق بدورها تدعو الآخر إلى قراءة أسطر الحب التي تعيد تشكيل العالم الخارجي الذي زال عن ذات الشاعرة بضجيجه وصخبه وآلاته المدمرة، لتعمل على تشخيص الإلاه لتجعل منه رمزا للإنسان عبر الحلم الشعري .

 

وهكذا تكون كاترين ستول تلك الشاعرة التي تجسد بعدها الثاني في "مذاق النور"، فقد أضاءت شعرها عبر تجربتها الروحية العميقة التي عاشتها في صحراء دوز بتونس، وتنقلت فيها وعرفت مشقة العيش، واقترنت إرادة الاكتشاف بالتحرر من الأقنعة المتكلسة والحفر في مقومات وجودها " فقد أعادت الصحراء تشكيل روحها بعمق وللأبد " .

 

..................................

(1) مذاق النور، كاترين ستول - سيمون، الشركة التونسية لتنمية فنون الرسم، 2005، ط1

(2) محمد سيف "جذور الظاهرة المسرحية" م الحياة الثقافية ع146، جوان2003،ص61 .

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1315 الجمعة 12/02/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم