قضايا وآراء

في سماوات (علامك): ملحمة الشاعر العراقي الظاهرة..شاكر السماوي (1)

هذا القول ليس قولا فرديا قائما على الرأي المحض حسب، وإن كان يتضمنه روحا وبوحا، لكنه يستمد في الوقت ذاته شروط الرأي الموضوعي شعريا ونقديا، ما جعل الاستاذ السماوي محط اهتمام الأدب العراقي عموما تخصصا وتخصيصا، ومحط اهتمام القاريء بكل تصنيفاته في حساب القراءات المتعدده، واهمها القراءتان (الإستعمالية والنموذجية) اللتان ينطوي في ظلهما الرأي إستعماليا فاحصا وإنتاجيا ناقدا الى جانب مكملات القراءة في بيان أسبابها الأخرى .

فإذا كان ما أطلقته في دراسات متعددة في البحث على النص الخارق أو النص الإنموذج ووصفي له بأنه (الجبل الشعري الذي تتوزع على سفوحه القراءات) فإن قصائد السماوي تقف على رأس ما اعنيه تماما، فالنص عنده ليس له مشابه أو مقارن، ربما إلا في حدود المقاربة الدنيا، رغم أن هناك محاولات وشطحات عند الكثيرين الذين حاولوا تقليد إسلوبه في البناء الشعري وفي استهداف المعنى والجمال، لكنني أشك بأن أحدا توصل الى ما يشابه أو يحايث نص شاكر السماوي والأسباب معروفة لا تحتاج الى أدنى أدلة برهان .

صحيح أن الأستاذ مظفر النواب قدم نماذج جميلة وكبيرة في الشعر الشعبي العراقي كديوانه الشهير (للريل وحمد) وبعدها الشعر في العربي، غير أن شاكر السماوي ومن خلال تجربته المتفردة كان له شأن كبير أخر، يستحق به لقب الشاعرالظاهرة لندرة ما كتب ويكتب وعمق ما يبني من مداميك شعرية في نصوصه . ولإنه من رسخ بيان القصيدة الحديثة في الشعر الشعبي في خطابها الجديد، اصبحت قصيدته الأولى والأولى دائما بين أقرانه ومجايليه، وحتى بعد جيله لم أقرأ نصا شعريا لأحد أصدقائنا يرقى الى متانة نصه لا في التعرفة ولا في التعريف .

صدرت للأستاذ شاكر مجموعتان شعريتان في العراق هما (حجاية جرح وسوالف من باجر) ضمتا العديد من قصائده الرائعة واهمها قصيدة (مواعيد فليحة) التي حظيت بانتشار واسع بين قرائه (..كما صدر له بعد تركه العراق عام 1979 عدة دواوين منها (قاسيم، ونعم أنا يساري، و العشك والموت وبنادم)، يضاف الى ذلك ما أصدره في اهتمامات أخرى ككتابه في الفلسفة (حدائق الروح أو الألواح الأربعون ذات النقوش الضوئية) ومسرحياته المتعددة (القضية، ورقصة الأقنعة وسفرة بلا سفر) ..

 

وحين أختار لأستاذي السماوي في هذه الدراسة القرائية قصيدة (علامك) لأقدمها للقاريء كأنموذج، إنما هي من عيون ما كتب هذا العملاق الشعري، ويحدوني الأمل أن أكون موفقا في الكتابة عنها، ومهما يكون من سبب في تسبيبه لهذه القراءة فإنها تبقى تمثلني روحا وقلبا وقالبا .. لكوني من تربى على شعر شاكر السماوي، وتشبعت روحه بمضامينها الكبيرة، وهذا ما يعطيني حق البوح بما سأبوح به وما أبحث عنه في قصيدة (علامك) التي قدمته فيها في أمسية خاصة به في مدينة الرمادي نهاية عام 1971، وسرني حينها بأنه كان يفضل سماعها بصوتي لا عجابه بقرائتي لها .. لكن الأستاذ أبو طلعت قرأها مثل ملاك شعري يهبط على الأرض فيعطرها بضوع أنفاسه الجنوبية الباذخة .

يقوم البوح في هذه القصيدة على لازمات نصية متعددة أولها تحمل ذات العنوان (علامك) وتشتغل بأفاعيل شعرية، تتوقد في معان ثلاثة تترادف جماليا في عمق تأكيد المخاطب بها (هو) وبلهجة جنوبية مكتنزة في تطويعها لأفعالها الثلاثة ..

علامك ! ...

شحشحيت الشوك بعيونك؟

علامك ! ...

لملميت ادروب مفتونك؟

علامك ! ...

سهريت اجروح مطعونك؟

ولتأكيد خصوصية ذات البوح في شخصنة التساؤل (علامك) وتجسيدة ترسيخا في قصدية المعنى، تكرر اللآزمة لتمنح المعنى اقصى مديات التفسير والتأويل لهذا يعمد الى ذات الجناس والطباق الدلالي ..

علامك، يا علامك ! ...

           يا علام احروفك العافت حبرها،

           وجتني هسّه ...

                   تنكر اعيون القرتها

                   وتنكر الجف الرسمها

                   وتنكر الصورة النبيّة،

                  الجرّجباها ابطبكة اجفوني سطرها

 

 

وإذا ما أردنا الوقوف عند التوزيع التشكيلي في مداميك البناء، نجد أن السماوي يعمد الى منح المفردة كلازمة دلالة المعنى بها وانعكاسها باتجاهات بوحية تتشظى الى أكثر من دالة ولو إنها ارتبطت روحا بكلمة (حروفك العافت حبرها (واتصالها بها اتصالا جذريا يفصح عن معان ثلاثة أيضا في (اعيون، الجف، الصورة) غير إنه موغل روحا في منحها معنى القدسية ب(الصور نبية) ليتأطر سطرها في جفونه كرسالة تستهدف مقصوها، وتكتمل صورة الفعل الشعري فيما يريده بوحا والمتصل بأرسالية متقنة تتواصل أيضا بترادفية بيانية تتصاعد بحدّة باتجاه مخاطبه ولكن بهيئة مغايرة تحمل روح النقض المتندر والمنطوي على تاكيد التساؤل ورفضه معا ..

او موعلامك !

      ياعلام البيك اضحت روحي ورده ..

                          غبشه يبجيها عطرها !

     أو ياعلام الشوك بيَّ، من تكلي !

                        ـ إنسىَ وأنسىَ .

شأنسى وأنسى حتى أنسى اشما تريد أنسى ابظنونك ؟

(ـ أنسى طعمك)

ـ لا وحك الشوك والزعّله وعتابك .

لسّه لسّه، ذيجه بيَّ،

         هالة الضحجة وعطرها الذوّباني إبيّن إديّه .

ولسّه لسّه، مِستحاك أبعيني يسبح،

        ضي دواير شالت الرجفه الهنيه .

ولسّه لسّه / مهامِسك بيَّ جفافي،

                  وجف يحُط خياله عالنسَّمه هِديه،

نلاحظ كيف يقوم السماوي بخلق لازمات جديدة جملية مقطعية مولده في الجملة والمقطع الواحد وكل منها تنصرف الى معنى جديد كمفردة (تنكر، وانسى، ولسه) احسبها جميعها كأشاريات تعمل على خلق رؤى شعرية صورية وواقعية في تشاكل جديد يجسدها بعنفوان الإنزياحات المبتكرة الأخرى، كنقاط انطلاق لأضاءة النص ولتفجير المعنى في آن من خلال وخلل البوح نفسه . لكن الصرخة الكبرى لكل ما تقدم، تحملها مفردة واحدة بمثابة الصاعق للآنفجار والتشظي هي ..

                                   وآخ ....

والسَّوط على دمي، خطني بسَّطوره وصيه .

           اشما نزفها الدم ضميري ...

                           ايفيض بعيوني قضية .

          بيها شفت الروح ثورة، اوموعد، اوشعر، اوقضية .

          اوبيها شفت الناس كعبة، اوشنقة،

                            او جرح، او قضية

         او بيها شِفتك شوك يكبر بالقضية،

                          البيها حطني الخوف مرة إبين إيديك،

                         اوراد منها، ومنك انتَ يشتريني،

                         وشتراني ....

                                وماكِدَر يندل ضميري!...

               اومِنهو يكدر يشتري امن الدم رفِيفه ؟

               او منِهو يكدر يشتري من الجفن طيفه؟

               او منِهو يكدر يشتري النجمه ابسِماها ؟

                          او لوشراها !...     

                             كلي يكدر يشتري وياها سِماها ؟         

هذا الافصاح المتوقد والمشتعل ما تحمله أصداء صرخة السماوي في مفردته المدوية (آخ) وما أدراك ما تحمل هذه المفردة في بيان استعارة الألم والتي قدحتها الثورة وما تضمه من دلالات البيان لإنسان ثائر وصاحب قضية كبيرة.. !!؟ . أما مردودات الأفعال الإنعكاسية لهذه الصرخة فنجدها في سبل البوح المكملة بتكرار لازمته المعروفة ..

 

كلّي، وانتَ يلي تكدر تنسى،

               لا تنسى، وتكلّي :

                      انسى وانسى

    شأنسى وانسى ...

           حتى أنسى

 

إشما تريد انسى بظنونك

_ (انسى هجرك؟)      - لا وحكك .

         . شأحلى من طعم الليالي،

                       البيها اشوفك ما تجيني

                              إلا مغتاظ بخيالي

      جا- يبعد الشوك - كلّي

                 اشلون اكدر انسى، كلّي ...

                            كلي يا ...

                يل تنساكم ظنوني، من خواطركم قرتني،

               او هدهدتني ابصحوة اجفوني، اوحجتني :

ولاستمرار تدفق نزيف الشعر يضع السماوي فاصلة تعبيرية التي أسماها (شطيرة) من شعر صيني مترجم كتضمين لشحن النص بقدرات اضافية، هي فيما أرى عبارة عن استحضار شعري لما سيتم البوح به، خصوصا وإنه سيلّبس نصه حلة وزنية اخرى وموسيقا جديدة

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1316 السبت 13/02/2010)

 

 

في المثقف اليوم