قضايا وآراء

"زمن المواسم اليومية" لأحمد ممو

للغوص في مسائل فكرية وفلسفية عبر النقد والتحليل . وفي هذه العودة إلى الماضي لا يهدف الكاتب إلى إعادة بلورة التراث أو تشكيله أو شرحه، وإنما إلى تجسيد فعل يتسم بالأصالة والإبداع، بحيث لا تقتصر العودة للماضي للتكرار وإنما للبحث عن شعلة الضياء التي توجه عقل الإنسان نحو الحكمة والعقل نحو البصيرة . ففي محاولة استرجاع رموز الماضي يعيد الكاتب رسمها بملامح الحاضر، ليخلص في النهاية إلى استخلاص الثوابت من التجارب السابقة وتكريس جهد حقيقي من أجل المعرفة"، فهو على غرار "ليفي شتراوس" يهدف إلى:

ـ مضاعفة المجهود المعرفي من أجل تجاوز الرأي والاعتقاد .

ـ الإقرار بمعرفة عقلية صادقة ونهائية .

ـ وضع الظواهر والرموز على محك النقد والتحليل بجعلها خارجة عن حدود الزمان والمكان للتعرف على المبادئ الشاملة .

ـ البحث في طبيعة الأشياء .

حيث نستشف في قصة " سكة فوق البحر " أن الخلل يكمن في عدم الاكتمال الروحي وأن السبيل المرشد لذلك الاكتمال هو الاستنارة بالبصيرة العقلية، وفي قصة "مريم الحبلى دائما "تصور لطبيعة ترنو نحو الاكتمال لتجسيد الحركة المقترنة بالوعي . أما في قصة" يونس يدخل جوف الحوت " فثمة رصد لمختلف العوائق المكبلة لرحلة الإنسان نحو المعرفة الحقيقية . لذلك فإن إدراج هذه القصص الثلاث في محور واحد وهو التحرر نحو المعرفة فهو إقرار بالتحرر نحو بصيرة نافذة، بمثابة العين الثالثة التي تخبر كيفية تكون الأشياء والعلاقات الرابطة بين عناصرها عبر حل معضلة العلاقات المتشابكة بين الماضي والحاضر . والبحث عن كيفية تفتيق الحركة من العقم الروحي .

كما تحيلنا المجموعة القصصية "زمن المواسم اليومية" إلى تفسيرات لخلل يسود الإنسان وأن يمنعه من التحرر والانطلاق استجابة إلى قناعة راسخة بأن البشر لم يوجدوا إلا ليكرسوا أفكار الموت والتلاشي، ولينسجوا من أوهامهم رموزا للعالم تكشف عن التسلط المعرفي الذي لا يستجيب إلا إلى قانون المحو والإزاحة إزاء الإقرار بعجز هذه المعرفة ومحدوديتها وإلغائها بمعرفة أخرى تبدد الأوهام القديمة . وأثناء رحلة التسلق المعرفي التي لا تبدو ثابتة بأي شكل من الأشكال حين يعتريها النقصان وترتد إلى الهاوية، وتقوم على أنقاضها رحلة أخرى تبدو أكثر شقاء وحيرة . وفي ذلك عودة إلى الأفكار القديمة التي تقر بالموت إزاء محدودية الأشياء في هذا العالم واعتبارها عناصر غير كاملة . وعبر هذه القناعة يبني الإنسان أوهامه ثم يدمرها، يتنفس الاستقرار عبر التطهر الروحي المكتسي بالعنف، ظنا منه أنه يرسي النظام للفوضى، فيلتف بالتخيلات ويجسم هذه الخيالات من خلال نسج صورة لاشعورية دفينة ترضخ إلى علاقات متشابكة ومعقدة، متوهجة بنار الكبت، إذذاك يفجر من وعيه الكامن تصورات لا تستند إلا لقانون الطبيعة، التوالد، النمو، النضج، فالتغضن المقترن بالموت، ثم التحول . فقانون الطبيعة مرآة لقانون الزمن الدائري الذي ما إن ينفتح حتى ينغلق، دائرة الزمن هذه يقع تجزئتها إلى نقاط معينة تحفر الذكرى لاقترانها بأحداث معينة يقع العودة إليها موسميا أثناء عودة عقارب الزمن إلى مواعيدها المحددة والمضبوطة .

فلئن عبرت قصة "مواسم التنين في المدينة" عن كيفية تشكل الحدث وحفره في الذاكرة وتمظهره في أكثر من صورة  ومن شكل عبر سياق العصر فإن "زمن المواسم اليومية" تستخلص دروس الإنسان من خلال تجربة حياتية لأب يلقن إبنه كيفية تشكيل العالم استنادا إلى خبراته المكتسبة بكتلة الأحاسيس الثائرة على التشكلات الفكرية غير الناضجة . وبين الإثنين نرى صراع الإنسان من أجل ترك بصمات وجوده في ذاكرة الآخرين، كعلامة على حدوثه بين عناصر الكون الاخرى .

وفي غياب الرمز يلجأ الكاتب لتصوير الواقع و بذلك يستعيض عن الرمز بالتصوير ذلك أن الصورة تعكس واقع الشخصية من خلال ملامحها وحركاتها كدلالات لما يعتمل في أعماقها . وقد اتضح هذا الحس التصويري خاصة في في قصتي "صفحات من كراس التصوير" و"القناعات الشخصية لأيوب الصابر". وذلك التصوير مرتبط بما يجول في ذهن الكاتب وهو يعيد تصوير ملامح الشخصية وحركاتها : " الكتابة هي بالأساس، موقف الإنسان من الذات ومن الوجود، لذلك فهي تعبير عما يجول في الذهن عن الواقع وعن المتوقع، وقد تكون في جانب منها انعكاس للواقع الفردي  أو الجماعي إن كان في ذلك الانعكاس بعض ما يرجو الكاتب تبليغه " (2) 

الرمز التاريخي في قصة "سكة فوق البحر"

يرسم الكاتب شخصية "منية" انطلاقا من تشكيلها بصورة لشخصية تاريخية راسخة في الذاكرة وهي "الكاهنة" . يعود الكاتب إلى التاريخ ويستقي ملامح شخصية حازمة قادت البربر إلى المعركة، ويعكسها على مرآة الحاضر عند العودة إلى قنطرة التاريخ الذي فتح أبوابه عبر شخصية رامزة للفعل وتأسيس الوجود . في المقابل ترتسم منية باسم نفهم من دلالته معنى الموت المميت لحركة الإنسان، ف"منية" يقع عليها الضرب من قبل زوجة أبيها فنسيت وجودها فتركت الفعل لغيرها وبقيت أسيرة الماضي ترفض أن تغيب عنها الذكرى عبر حضور مشهد وفاة والدتها إثر التعرض إلى مرض فتاك . هذه الواقعة حتمت البحث عن الماضي والعودة به إلى الحاضر، ليعلق الراوي على ذلك بأن " منية آمنت بخرافة الكاهنة فراحت تنسج الأحلام من فعل ماض ناقص قال عنه الآخرون أنه كان " ص 10 . هذا الرأي وقع إسقاطه على منية التي كانت تريد الذهاب إلى القنطرة لتسترجع صورة أمها . فهذا التعلق بالماضي في صورة الأم هو الذي جعل القنطرة جسرا يعبر عليها الزمن كقطار تدل وقع عجلاته على بعض مشاعر الألم التي تصيب الإنسان حين يدرك أنه يخترق شجون الماضي عبر السير الارتدادي إلى الأمام . فعبر دورة عجلات القطار نستشف رحلة دائرية يعقبها انتظار العودة في رحلة التحول أو التبادل بين عناصر الموت والحياة . هذا التأشير للتحول والتجلي عبر توقف عقارب الساعة كعجز عن الفعل أو كتوقف للفعل . فعقارب الساعة تقوم بدورتها المعتادة الخاضعة لقوانين الزمن الموضوعي . وعند التحام نقطة البداية بنقطة النهاية تنبري حركة الفعل حيث " يبصق الوادي ما في جوفه من ماء وطين ويصبح بحرا " ، وعبر التقاء الماضي بالحاضر في لحظة الحياة ينفرج الفعل المؤسس المستنير بضوء الماضي: " سيرشدنا ضوء الكاهنة "، وذلك هو " زمن المواسم اليومية " يقترن بالرحيل والعودة .

 ولو عدنا إلى تحليل الرمز التاريخي داخل القصة لأدركنا أن "الكاهنة" هي شخصية تاريخية " قيل إنها ملكة الأوراس في شمال شرق الجزائر، مثلت في الروايات كإمراة فريدة من نوعها، قادت المقاومة البربرية ضد الفتح العربي الإسلامي مباشرة بعد قتل كسيلة البربري 686 م " (3)، وذلك بناء على رواية إبن الحكم في منتصف القرن التاسع ميلادي اعتمادا على الروايات الشفهية . وقد اعتمدها أحمد ممو في قصة " سكة فوق البحر " كرمز تاريخي لم يتدخل الخيال في تشويه معالم صورتها . فهي شخصية وجدت في كتب التاريخ وقام المؤرخون بتناولها مع التحقيق حول هويتها وسيرتها . الكاهنة شخصية تاريخية ثابتة ترمز للبطولة النسائية المقترنة بالفعل والحزم والسلطة . " تقول إحدى الروايات إن الكاهنة تزوجت في البدء من قائد طاغية كان يغوي الفتيات فطعنته بخنجر، ويقال إنه قبل ذلك كانت قد أبعدته عندما كان طامعا في الزواج منها، وبعد أن أصبح ملكا تزوجت منه . ثم تولت الكاهنة منصب الملكة بعد وفاته " (4)

تنتسب الكاهنة إلى قبيلة الجراوة وهي من طائفة الزناتة التي تنتسب إلى قبيلة البتر الرعاة . وقد لقبت بالكاهنة دلالة على القدرة على التنبؤ بما سيحدث . وترادف الكاهنة الساحرة . ومهما اختلفت الأطروحات حول هويتها إن كانت بربرية حرة أو من أصل مسيحي أو يهودي . فهي قائدة بربرية حكمت البربر والروم .

تبدأ قصة "سكة فوق البحر" بهذا المقطع السردي: " قال أبي: اعتن بدروسك ! .. وفي دروسي كانت الكاهنة ... فقال: هي إمرأة عاشت في التاريخ .. وبحثت في التاريخ عن الكاهنة . فقالت دروسي: الكاهنة إمرأة عاشت في إفريقية تربط شعرها على شكل ضفيرة طويلة، وتقاوم عرب الجزيرة . الكاهنة إمرأة جاهلة " ص5 .

تم التأكيد منذ بداية القصة على أن الكاهنة رمز لا يقصد به المعرفة، على النقيض من البطلة الأسطورية شهرزاد . ولكنها أختيرت ل " حكمة معينة " . تتواصل صورة الكاهنة من خلال "منية" تلك الطفلة التي تعيش في الزهراء . تلتقي البطلة التاريخية مع منية في الملامح والبشرة السمراء . لكن ملامح منية لم تمح ما تحمله في دواخلها من شعور بالألم والقهر . لذلك تحلم بالصعود إلى الجبل لرؤية الكاهنة خفية عن زوجة أبيها . "منية" تلك الطفلة المعذبة، كانت تبحث عن الكاهنة " الساحرة " والسحر قديما يلتقي مع الطب في تخليص الإنسان من العذاب الجسدي بطرد الروح الشريرة . فالدلالة الرمزية للكاهنة تنخرط في سياق التصور الميتولوجي " طفولة الفكر البشري " وعلى هذا الأساس كانت "منية" طفلة والراوي طفلا: " وهنا يتوجب على القارئ أن يستعيد الحلم .. بشرط أن يحلله لا في كونه حلما لإرادته الموهومة لكن كما يخلقه الفنان، أي عمل متعدد الجوانب " (5)

فالحلم هو بحث عن الصورة المنشودة بين طيات الطفلين . وهو حلم يعود إلى الذاكرة، لخلق الحياة من صور الماضي بعد موتها، من خلال النفاذ في عمق الروح لبث الحياة في الصورة .

الرحلة إلى الكاهنة رحلة إلى مكان له عمق جغرافي وتاريخي للمرور إلى الذات، مكان منحوت في قلب المتوسط، إطار طبيعي مرتفع حيث " يموت الوادي في البحر عند القنطرة " ص6 . المكان في صورته الطبيعية يعيدنا إلى أرض المعارك حيث انتصر البربر على العرب في المعركة الأولى بوادي العذارى " أو نهر البلاء " . وقد كانت تسميته الأولى " وادي النبتي "، وإثر نهاية المقاومة بانتصار العرب، ظلت المناطق المرتفعة بأيدي البربر: " هذه المناطق ما زالت تحتفظ إلى يومنا هذا على لغتها وثقافتها وتقاليدها البربرية المحلية " (6)

ومن هنا تحولت ملامح منية وملامح المكان إلى مؤشرات رمزية للعودة للماضي والرمز التاريخي " الكاهنة " . . الوادي هو بداية الرحيل الممتد من جوف الذاكرة إلى البحر: " يبصق كل ما في جوفه من ماء وطين ويصبح بحرا " ص6 . فهو يأتي من بعيد وينتهي إلى البحر كما الحياة . لذلك عبر ذلك الرحيل عن " مخاض حدث طبيعي ابتدأت منه البشرية " (7)، فثمة عودة للأصل وذلك ما كشفه الحلم " كان الجوع في الأعماق حلما " . وبين الحلم وتمثل الأحداث التاريخية دفق من الأسئلة تجابه برد الأب المتكرر: " اعتن بدروسك " فالرد يصادر كل الأسئلة المعبرة عن وجهة نظر مختلفة، مما كشف عن خطاب صدامي تماما كذلك الصدام بين العرب والبربر، فتردد الخطاب الذاتي للراوي من خلال صوت الأعماق، حيث ظل يستمع إلى ما تقوله أعماقه، وهو صوت يرنو إلى الخروج من دائرة الزمن أمام ثقل عقارب الساعة، والرغبة في غياب الفواصل الزمنية، ليتردد في مسافات مطلقة . فالتمثل النفسي للزمن كشف الدافع الذاتي للقيام برحلة مع منية في الغد إلى النهر . فهي رحلة الارتفاع عند الاستماع إلى كلمات الكاهنة، الحاملة للنبوءة بين طياتها: " وعندما تطرح شعرها أمامها وتحدث قومها، تتساقط الكلمات على الحاضرين تاويلا للغيب " ص6 .

وتمثل القنطرة همزة الوصل، وجدلية التفاعل بين الماضي والحاضر، من خلال مرور القطار وعودته ثانية، خاضعا إلى قانون الزمن الدائري حيث الرحيل والعودة، والتقاء النهاية بالبداية أثناء مخاض الحدث الطبيعي (الوادي) .

"سألتها لماذا تريد أن تذهب إلى القنطرة، فقالت إن أباها قد قال لها إن أمها قد ذهبت مع السكة ومرت فوق القنطرة " . الذهاب إلى القنطرة مرده الحلم بعودة الحياة إلى الأم، الأم التي تقيأت الدم مرارا قبل موتها، التخلص من زوجة الأب الممعنة في تعذيبها وتحميلها أعباء العمل المنزلي الشاق . التواصل مع الأم، استرجاع لملامح الكاهنة التي قادت البربر للمعركة . الأم تتقيأ الدم الملوث كدلالة على التطهر من الدم المختلط . وتواصل معاناة منية تدليل على معاناة الكاهنة جراء قدوم العرب ليطمسوا هويتها . مرد تلك المعاناة فقدان الفعل .

ويمد الراوي خطين متوازيين عند الحديث عن منية والكاهنة . فالكاهنة تعيش في التاريخ ومنية المعذبة تعيش في الزهراء . الكاهنة فاعل ومنية مفعول به . والتواصل مع رمز الكاهنة يرسخ الهوية ، يعيد الحياة إلى الصورة، ويعيد الروح إلى الأم . فثمة تعلق بهذا الرمز التاريخي إذ يكشف الهوية البربرية وارتبط بالملامح الجغرافية للمكان . ومأتى العودة إلى هذا الرمز، تحول صورة المرأة من القوة إلى الضعف، ورفض القناع الثقافي الشرقي المتكلس . فصورة الكاهنة رمز لإمراة قوية، تخوض المعركة إلى آخر رمق ولا تستسلم ولا تقبل أن ينظر لها نظرة دونية تجردها من وجودها.

فالعودة إلى التاريخ، هي إعادة تشكيل صورة عن الذات أمام "غياب أفق مشروع للإنسان العربي" (8)، وتوظيف الرمز التاريخي كشف عن رؤية إيديولوجية قد تصدم القارئ إلا أنها بمثابة منفذ لبناء تصور حول المستقبل انطلاقا من فتح آفاق لمشروع فكري معين، قد يقابل بالاحتراز إلا أنه يعبر عن رؤى داخلية لذواتنا البريئة والطفولية التي يستكين فيها وهنا ما .

إن الاهتداء بنور الكاهنة " سيرشدنا ضوء الكاهنة "ص15، هو إعادة هيكلة الحلم . فالقصة " تحتوي على العناصر المسموح لنا برؤيتها، وما يكثفه الحلم ويجرفه كما يظهر لنا فيها التعلق الأولي بشكلها الكامل " (9) وكذلك هو زمن المواسم اليومية يقترن بالرحيل والعودة، لكي تبدأ الدورة والذكرى ويكتشف الإنسان موقفه من الديمومة .

الرمز الديني في قصتي "يونس يدخل جوف الحوت "

                         و" مريم الحبلى دائما "

 في قصة " يونس يدخل جوف الحوت " بنيت دلالة شخصية يونس استنادا إلى النبي الذي ابتلعه الحوت فعاش في جوفه مدة معينة ثم خرج منه . هذا الإسم هو الذي ساهم في بلورة رؤية يونس للأشياء لينعكس الحوت في أكثر من صورة وأكثر من معنى . فقد اكتشف الصورة من خلال رسومات أبيه الذي دأب على رسم الحوت والخمسة كمورد رزق . أما المعنى فقد عرفه في " مقهى تزينه السفن الشراعية والحيتان الكبيرة "  ص72.

فارتباط الحوت ذي الجوف المتعفن بيونس استند إلى القصص الديني، لذلك تحولت صورة الحوت إلى لوحة تشكيلية تحمل بين طياتها خطابا ما، فتمظهر الحوت كصورة تزين جدران مقهى يأوي إليها يونس لنستشف تلك الرؤية القدسية " الجمالية " لهذا الكائن البحري المذكور في القرآن ، ورؤية يونس من هذه الزاوية تمنحه معان شتى " هنا فتحت عيني على البحر، وهنا أدركت معنى الحوت، وهنا عرفت أن إسمي يمكن أن يعني شيئا بالنسبة إلى الآخرين .. كان ذلك عندما سمعت المذياع الخشبي الضخم يرتل آيات من سورة يونس وفي صوته تلك الحشرجة القدسية " ص72 .

إن التشكيل الجمالي للحوت، ما جعل يونس يصف خطيبته بالسمكة البوري غير أن هذه الرؤية الظاهرة المنمة عن قدسية، سرعان ما تهتك هذا النفاذ إلى جوف الحوت المتعفن، فهو يعري ما بداخل الحوت من رواسب التلوث، ليعكس الدلالة الرمزية للمكان استنادا إلى بطن الحوت، ويهتك القناع القدسي الثابت حول رؤيته للأشياء ليتحول يونس الإسم المقترن بتراث ديني مجرد دال قد يشير إلى مدلول مختلف .

الحوت كما اقترن في وعي يونس وكما رسخ في مخيلته هو حوت بجوف كبير متعفن يحيل إلى المكان الذي ترسبت فيه العفونة وأفرز حالة الغثيان والرغبة في مقاومة الشعور بالقرف .

هذا المكان أشبه بالمتاهة التي تحتوي على طوابق وتجويفات مختلفة . متاهة تعبر عن تلك الهوة الغائرة داخل الإنسان التي تبتلع كل الاشياء في هوة الجوع أو القلق كغذاء للفراغ . تماما كالإنسان الذي يبتلع حاضره وماضيه دون وعي .

فيونس المعلم، الحامل للحس الفني انطلاقا من نشأته بين أحضان والد " يرسم الحوت والخمسة عشرات المرات في اليوم الواحد " ص73 ، اكتشف ما تعنيه بعض العفونة المترسبة في الإنسان، وتدلل على المتاهة كجرح غائر داخل الإنسان، يبتلع أي شيء تحت تأثير الجوع . فالعفونة تقترن بالإفراز لكل المواد وتحويلها سواء كانت مستساغة الهضم أو معقدة . فهي إشارة إلى تلك الفوهة الاستهلاكية التي انفتحت في الإنسان في هذا العصر وصارت دافعا للعيش وهاجسا يرتبط بإشباع الرغبات دون تحديد إن كانت أولية أو ثانوية . وذلك دلالة على امتلاء البطن وخواء الروح: " ثم يختم يونس حديثه بأن يهز رأسه ويقول ما يحتاج إليه الإنسان في بعض مراحل حياته هو أن يجد جهاز التبريد المناسب الذي يجمد أفكاره ومشاعره لمدة ينسلخ فيها عن متاعبه لكي يستقبل الحياة بعد ذلك بإقبال متجدد " ص78 .

فيونس شخصية واقعية تعاني من شظف العيش . فما الإسم الديني سوى قناع يجب فصله وبناء جدار يتوارى وراءه لكي لا يبصر يونس نفسه إلا من خلال دائرة الواقع المغلقة التي تمثلت كشكل لبطن الحوت، و بذلك يكشف يونس عن تجليات ذاته الفنية: " يوجد بين الذات الواعية للفنان وماضيه اللاواعي حاجز مغمور من الخداع والوهم وظيفته حماية الفنان، عالم ضبابي نرى من خلاله مستوياته التركيبية الهشة، تلك المعاني العميقة الغور في دخيلة الفنان وتؤلف شخصيته، والفنان نفسه هو  من يسلط الضوء على مكنون نفسه، أو أنه يستعيض عن التفسير الغيبي لذلك المكنون بتفسير طبيعي عقلاني يتمثل في عملية الإنطاق أو الحذف "  (9)

والحوت واقع يكيف آمال الإنسان وأحلامه في هوة أوهام خادعة، أما عملية الوعي فهي اكتساب دلالة الفعل بتفجير جوف الحوت والخروج منه وإعادة العملية مرارا للتطهر من مزبلة بطن الحوت . هنا تلتحم شخصيتي يونس من خلال الترميز الديني ودلالات الواقع حيث تتقاطعان في نقطة الخروج من مأزق التلوث لإعادة خلق الحياة خارج واقع راهن وتشكيل واقع مختلف يبنيه الإنسان كلما اكتسب إرادة وتحلى بالشجاعة .

ففي النهاية يهز يونس رأسه ويقول: " لكل واحد منا حوت يبتلعه في واقعه أو أحلامه ... الشجاعة لا تتمثل في أن يدخل الإنسان جوف الحوت، ولكن في أن يعرف كيف يخرج منه .."  ص 84. إذ  بنيت شخصية يونس على خيبات الواقع وتأجيل الأحلام فاستحال الواقع إلى كابوس وجب تبديد صوره المزعجة .

فيونس الإنسان الذي ينتمي إلى هذا العصر يريد أن يتحول إلى حوت بدوره، حوت بفم كبير يبتلع الحيتان الأصغر حجما كلما تشيء وتنمط وتحول إلى شخص استهلاكي . " ويبقى فم يونس مفتوحا وهو يشخر كما يفعل ذلك الآخرون من حوله . ويكون يونس يريد أن يقول لسمكته البوري أن كل تلك الحيتان التي تنفتح على بعضها، تصب في أفكاره، ولكن فمه يبقى مفتوحا لأنه يجب أن يرجع إلى البداية في كل مرة مادام قد أضاع حساب المحطات " ص 80 .

لكي يكتشف يونس أن هذا الحوت صورة للواقع وأنه تحول إلى مجرد نسخة له، وأن معدته صارت تهضم " المواد المسرطنة " في ظل روائح العرق والتبغ والبيرة والزيت والصدإ وأنفاق الميترو والغازات الخانقة . وأن معدته التي تلتهم هذه الملوثات تحتوي على بكتيريا لاهوائية، قادرة على تحويل هذه المواد باستمرار وأن رغبته في اختراق هذا الواقع والخروج منه اختراق لجوف الحوت، الدائرة المغلقة . وسرعان ما تحول هذه الرغبة إلى مغامرة للتخلص من وزر الواقع والتفصد من تراكماته .

إن شخصية يونس التي بنيت على تضميد جراحها الغيبية بأخرى عقلانية اصطدمت بشرخ أكثر عمقا ومتاهة، إذ يحتوي على طوابق وتجويفات شائكة وشديدة التعقيد، ففي عملية الانفصال عن الماضي " الإرث الديني " لم ينفصل عن " جرحه الفموي "، " فهو ميزة للدفاع غير الواعي أمام الجرح الأبدي . وهو جرح غالبا ما نعده فمويا ..إن الفنان يجعل من الأم صورة غير ضرورية وذلك يخلق عالم من الكلمات بدل ما تعطيه الأم من حليب، وبهذا يخلق واقعا مطلق السيادة لعملية الاستحواذ التي لا جدال فيها " (10)

 وفي ذاكرة يونس تلك السمكة التي كانت تنظر له من خلال الورق، تلك الصور المتكررة في رسومات والده كانت دافعا ليتماهى معها وهو يعاني من وطأة الأحلام المؤجلة: " لأجل ذلك وجد يونس نفسه في يوم ما ينظر إلى الآخرين من وراء زجاج نظارتيه من وراء قضبان ما " ص83 .

وما الانقصال عن العالمي الخارجي ورؤيته من قضبان ما إلا رؤية تقوم على الحواجز التي تفصل يونس عن الواقع إذ أن الرؤية المباشرة له هي سجن مكرر وحلقة دائرية مغلقة تتناسل منها حلقات إلى ما لا نهاية وما تلك الرؤية إلا رغبة في اختراق الحواجز التي يحفر بينها الإنسان متاهته .

في قصة " مريم الحبلى دائما " ثمة تنصيص على ديمومة الحمل الذي يحيل إلى الولادة وتجدد الحياة وبياضها العذري، لذلك تستحيل مريم داخل القصة إلى رسم للأرض وخارطة للوجود الإنساني حيث تحمل بين طياتها رسالة السلام للأرض المتطهرة من الشرور . وما رسمها بأشكال شتى وفق الخيال المنطلق من فكرة كامنة أو معنى دفين إلا تصويرها بصورة واقعية طريفة: فقد رسمت في بداية القصة كطفلة شقية ، تنفش شعرها وتكور الجوارب القديمة تحت بطنها وتسير منفرجة الساقين .. فهي مجرد صورة رامزة لطفلة عرجاء لا تحمل دلائل النبوة أو ضياء النور . بل إن انحراف مشيتها قد يشير إلى الاختلال وعدم التوازن . وذلك ما جعل الصغار ينعتونها بالهبلة، وقد تدل هذه الصورة على أمرين إثنين:

ـ إن مريم تشكلت هنا، كعناصر تكوينية أولى لماهية لم تتجسد بعد يعوزها الاكتمال واتصال مكوناتها الشخصية ببعضها . وأن صفاتها الجسدية والذهنية دلالات للتوازن حين يخرج الإنسان عن الواقع بطريقة مخالفة للمالوف والسائد ويتخذ منه موقفا بمثابة قنبلة موقوتة ستنفجر عند اكتمال الوعي ونضج الموقف .

فصورة مريم عبر هذه الرؤية الأولية تحمل تشكلات وإحساسات بصدد التكون لذلك تترجم " الجانب الممكن " للحلم غير المرتكز على أسس ثابتة تسنده وغير مستمد من وعي عقلي متزن بما فيه الكفاية  . أما حين ترسم مريم الحبلى دائما كممرضة للجنود أثناء الحرب، تندفق بين طياتها أحاسيس  عاطفية جياشة لتتراءى كأم حنون توزع الابتسامات وتبدل الضمادات فتكتسي ملامحها بالبياض الذي تنحل داخله كل الألوان ليعكس إشراقة الشمس في حالة الصحو والتيقظ، صحو لا يمكن إدراكه إلا من خلال تجذره في الأرض تماما كشجرة الزيتون المرتسمة كآفاق لرؤية مريم، لغد ينسجه الإنسان بوعيه وإرادته .

تبدو شخصية مريم في هذه القصة " شخصية إيجابية "، تجسم صورة البطل الإيجابي القادر على التغيير وتجذير القيم: " الزيتونة قد تجتث من الأساس، لكن العروق هي التي تبقى .. لذلك لا بد للزيتون أن يزهر من جديد في باحة المسجد " ص66 . فالزيتون هو ترميز للمقاومة والتجذر في الأرض، والزيتون مقدس فقد كان آداة قسم إلاهي . فهو رمز قدسي يجسد القيمة الروحية والوجودية للكائن الإنساني التائق لتغيير وضعه وتحرره من قيود الاستعمار . والشخصية الإيجابية حسب جاسم الموسوي: " أما الإيجابة فهي أدنى سمات السلوك الجماعي المؤدي نحو نتيجة جيدة لصالح حركة الجماهير العربية وتطلعاتها نحو الحرية والاستقلال والاشتراكية والكرامة والخير والاستقرار والأمل، ونوع الإيجابية يتحدد بالظرف المتوافر، والقوى المتصارعة ضمنه (11)

ولم يقم الكاتب في هذه القصة برسم شخصية مريم في قالب سياسي ثوري، لم يتحدث عن نشاطها السياسي ولا عن كيفية تحولها إلى مناضلة استشهادية، بل قدم لنا ملامحها الإنسانية التي حولت منها مركزا إنسانيا تدور في فلكه المجموعة بدءا من الأطفال وصولا إلى المقاومين، فبقية الشعب .

 في القسم الأول من القصة المعنون ب " مريم الحبلى لعبا " فتجسدت كمركز خصب للمجموعة التي تنضوي تحتها وتلتف بها، وقد اعتمد الكاتب الرمز لرسم هذه الفكرة عبر الصورة الفنية: " وعندما نسألها لماذا هي لا تلبس إلا ذلك الفستان المتعدد الثنايا الذي يسع قرية كاملة، تقول أنها قد أعدته لكي تجمع تحته أبناء الزيتونة الكبيرة عندما يعودون ذات يوم "ص61 . فمريم هي الحلم الذي يحتضن المجموعة: " وتكون مريم تهوى أن تمرر أصابعها الرقيقة على وجوهنا بعد أن تلفنا في فستانها الواسع "ص60

وهذ الحلم الذي كبر مع مريم ومع المجموعة التي كبرت مع هذا الحلم في القسم الثاني من القصة المعنون " مريم الحبلى قنبلة " حين تحولت مريم إلى ممرضة تسعف الجرحى من المقاومين وتحثهم على ضرورة الإذعان للعلاج ليعودوا إلى الجبهة، تحولت صورتها من صورة الطفلة التي تخفي في بطنها حلما ما إلى صورة الممرضة التي تحمل بين طياتها أحزمة ناسفة تنتظر تفجيرها في عملية استشهادية تمنحها البعد المكتمل لوجودها: " عندما فتحت عيني كانت حمرة الانفجارات مازالت متواصلة من حزام مريم . وكانت تلك القنبلة التي تتوسط بطنها تنفجر، وتنفجر، وتنفجر، ومريم واقفة، شامخة، ترسل نظرتها من فوق الرشاشات تنظر إلى اشجار الزيتون التي تمتد خارج السياج " ص65

والقصة التي ترسم أملا للإنسان عبر الشخصية الإيجابية هي قصة تمنح الأمل وتستعيض بالفعل البطولي لتحوله إلى رمز تؤمن به المجموعة كلما بحثت عن منفذ للخلاص وقد انجلى ذلك في القسم الثالث من القصة " مريم الحبلى شعبا ": " كان يمكن يا أخي أن أنسى إسم مريم العرجاء، وكل تلك الصور التي كنت ترسمها لها، لو لم تعد ذلك المساء بتمثال الرصاص لتقول أن أم مريم تصنعها عديدة ومتنوعة وفي أحجام مختلفة تفرقها على أطفال الحي قائلة: هذه مريم تعود إليكم رصاصا، لأنها تعرف أنكم في حاجة إلى اللعب .." وتعددت تماثيل مريم الرصاصية واصطفت قرب المدفئة، وكنت يا أبي تبقى تحدق فيها أحيانا الساحات الطويلة، وكأنك ترى من خلالها الأشياء التي نراها " ص67

إن الشخصية القصصية مكون أساسي لدفع الحدث لكنها على خلاف الشخصية الروائية تمثل آداة يستخدمها الكاتب ليقدم رؤيته عبر الحدث الممكن تحققه بشخصية إيجابة معينة وهو شخصية رمزية تتشبث بها المجموعة وتجعلها جزءا من ذاكرتها .

الرموز الأسطورية

يستشف القارئ في القصص التي تقوم على الرموز الأسطورية في " زمن المواسم اليومية " روح الدعابة التي تميز كيفية تشكل الأساطير وما تفرزه من سلوكات تتراوح بين الخوف وبين التفسير الواهم للأشياء . فالأساطير لم تتشكل داخل أي مجتمع إلا لتقول شيئا بل أشياء إزاء أوضاع متخفية داخل دلالاتها بمثابة المسكوت عنه الذي لا يجب أن يقال إلا بطريقة تجعل منه موضوع سخرية . والكاتب وهو يرسم تكون الأساطير انطلاقا من نسيج اجتماعي واقتصادي معين إنما يحاول إدخال نوعا من الدهشة، من المرح، من أجواء الدعابة لتهدئة أوضاع ملغمة تحمل فتيل تفجرها . يبحث الكاتب أحمد ممو عن منافذ مختلفة تجعل ما لا يطاق كفيلا بأن نعيشه بطريقة أو بأخرى وهنا تتحدد مساحات التهوئة داخل النص القصصي .

ف"زمن المواسم اليومية" تطرح كيفية التحرر المعرفي والعوائق التي تمنع تشكيل المعرفة وهي تبحث في الآن نفسه عن تشكلات الأسطورة ووظيفتها داخل مبنى اجتماعي وثقافي وحضاري لتستحيل الأسطورة إلى تعبير رمزي عن الواقع ولتتخذ صبغة بقائها واستمرارها انطلاقا من النظر في طبيعة الأشياء ورؤية الإنسان للعالم .

واستخدام الأسطورة في هذه النصوص مقترن بتلازمها مع معيش الفرد في المجموعة، فهي ضرورية حتى وإن جندت الجماعة أسباب توافرها باعتبارها البعد الرابع الذي ياتي بعد الحدث والفضاء والزمن: " الأسطورة ليست فقط " الباطل المطلق " بل أيضا " المعيش المتحول"، ومن هذا المنطلق يمكن أن تصبح الأسطورة في النص القصصي من قبيل " ما وقع وما يمكن أن يقع في زمن ما وفي مكان ما " وهذا الوضع ألصق بتلك الأحداث التي تتعلق " بالتاريخ الجمعي " للفئات التي يهمل التاريخ أحداث واقعها . والأسطورة أيضا تعبير عن الواقع الذي لم يتحقق في حياة الفرد الذي يتوق إلى أكثر مما يتوفر له في معيشه اليومي، وبذلك تصبح الأسطورة ذلك البعد الآخر الذي يرى فيه الفرد تجسيما لما يطمح إليه وترى فيه المجموعة تصويرا للماضي الذي ترغب فيه للتعلق به، وهي في النهاية فسحة التعبير التي تتاح للكاتب ليقول للآخرين من خلالها كيف يرى الأشياء ." (12)

 ـ قصة " مواسم التنين في المدينة "

تشكل الأسطورة في قصة " مواسم التنين في المدينة ":

إن كيفية تشكل الأسطورة وبناء تيماتها إنما يرقى إلى مستوى فكري يستلهم من البناء الاجتماعي فكرة تعيد بلورة هندسة الواقع في قالب رمزي . هذه الفكرة قد تختزن داخل الذهن، تبحث عن طاقة خلاقة من الخيال لتتضخم ولتبدو عالما مختلفا عن الواقع، تجسد الواقع في آن . تستند هذه الفكرة في نشأتها إلى فراغ معين، بل تعبر عن فراغ معين وتحاول أن تملأ ذلك الفراغ بقول ما لم يقل وبأسلوب لا يخلو من مراوغة وتعقيد وتشابك لكي تتحول الأسطورة عند اكتمالها إلى آداة نقد وإلى قراءة واعية تنحل في عناصر لا واعية: " في مكان ما في أحد أحيائها يكون هناك عقل صغير متعطش للأفكار ويحدث أن تنبت فيه فكرة وتبقى الفكرة خامدة في خيال صاحبها ويكون صاحبها يعيش الرتابة والفراغ القاتل . ويحدث أن تتحرك الفكرة بسرعة وتتبلور تدريجيا وتتضح ملامحها إلى أن تكتمل تفاصيلها " ص121

الفكرة وقد اكتملت تخرج إلى العالم الخارجي، إلى المتلقين الذين يبذرون فيها لبنات تصوراتهم . فيقومون بتضخيمها وتكثيفها وتعميقها إذاك تنفث فيها روح الجماعة، فتخرج من طور الفكرة إلى طور العمل الفني المتكامل الذي يستحيل بدوره إلى تعبيرات ثقافية تتداخل فيها الخرافة بالفن، فتكتسب بعدها الجمالي وتنعكس في صور تجسدها لتتحول بدورها غلى موضوع جدير بالاهتمام مما يكسبها سرعة الانتشار، " وتتسرب الفكرة إلى عقل صاحبها إلى من حولها فيتلقفها الآخرون بكثير من الدهشة والاهتمام ثم ينفخون فيها رويدا رويدا فتنمو وتكبر وتتضخم وتفيض على الحي بكامله " ص 121

 

وظيفة الأسطورة في " مواسم التنين في المدينة "

أن تتحول الأسطورة إلى حدث فذلك ما يكسبها قدرة الاستمرار وما يجعلها تتخذ طابعا تاريخيا عند العودة إليها موسميا، عودة قد تأخذ بعدا احتفاليا كفيلا بإثارة الاهتمام عبر تفريع صورها البكر في فضاء مكاني معين . فالأسطورة تملأ فراغ الفضاء . وتنتشر في كامل أرجائه، فلا غرو أن تتخذ أسطورة التنين أطراف المدينة ومنعرجات الأزقة المظلمة وأحياء المدينة " ثم أصبح التنين يلتهم كل شيء في زحفه على المدينة ولم يبق إلا القليل لكي يلتهم التنين المدينة ولكن لا أحد رأى التنين عن قرب وكل يصفه كما يشاء بكثير من البطش والقدرة على الاهتمام" ص122 . فتحويل الأسطورة إلى حديث في المقاهي والمخادع ومراكز الشرطة والساحات العامة وإلى موضوع يسكن العقول وصفحات الجرائد والصور المتحركة هو بمثابة العودة الموسمية لأسطورة التنين التي تسكن في تلافيف الذاكرة . فهي تعيد للمدينة ذاكرتها .

فهذا الرمز الأسطوري الذي تسرب إلى الحياة العامة ذات السمات المعاصرة إنما يمارس وظيفة التهدئة في ظل الحياة اليومية التي يكتنفها مشاق العيش وحركة المرور الخانقة وطلبات الإنسان الملحة . ونظرا لاقتران الأسطورة بموسم محدد فإنها تتحول إلى موضوع كتابة قد تنتهي  إلى القمامة أو إلى محفوظات المكتبة الوطنية من أجل مواصلة رحلة الركض من أجل تسديد الطلبات وتحقيق سعادة العيش . إلا أن تحول الأسطورة إلى فكرة محفورة في الذاكرة فهي تستعيد توهجها عبر خرافات الجدة التي تروى بتفاصيل مختلفة انطلاقا من تحقيق الانسجام بين معناها وربطها بصور العيش، وهكذا تستحيل إلى فكرة تعشش في الذاكرة تحمل بين طياتها تجريدا قابلا للتشكل وفق كل المظاهر الحياتية الراهنة . إنها " تدفع البشر للسخرية من مخاوفهم الخاصة " .

" مواسم التنين في المدينة " قصة تبحث من خلال محاورها المختلفة وازدواج الأطر المكانية بين فضاء المدينة وركح القرية عن مفهوم المعنى الذي يخلقه الإنسان ليحوله إلى قيمة أو إلى شيء لا يخلو من عناية واهتمام، وبلورته بصيغة معينة تجعله مجسدا في رمز حاضر في الذاكرة ليقع التركيز عليه وتخصيص موسم له درءا للفراغ ورتقا للخواء الفكري، لذلك يرسم الكاتب رمزا حاضرا في الذاكرة، بمثابة ذلك الوحش الجاشم على تصور الأطفال للقوة المختزنة لطاقة اللهب الخارقة أي تلك الصور المتحركة في التلفزة في سلسلة "الصور الكرتونية" . إن تلك النار الملتهبة بمثابة التفكير الخامد في العقول البشرية الكامنة وفي النفوس التي تحولت إلى ثقوب ينفذ منها الفراغ ويتداعى إليها الخواء . فتبحث عن معنى يعكس خللها ويجسد رغبتها الدفينة في الامتلاء، يتحول المعنى إلى صورة متوحشة تتحرك بضراوة، صورة يقع تضخيمها حين تخرج إلى المجتمع وتستحيل إلى أخطبوط يلتف بأزقة المدينة، وعبر اقتحامه لحياة الناس بصورة مباغتة، يصبح حدثا، ثم سرعان ما يسجل ذلك الحدث الذاكرة ويحفظ في صفحات التاريخ كقانون أو كمعرفة متداولة تتلقى عبر التلقين والإلزام والتحذير .

ففي الجزء المعنون: " العهد الحجري لمواسم التنين " يتحول التنين إلى رمز يثير الخوف في الأزمنة الغابرة ، خوف يكبل الإنسان ويمنعه من النزول إلى قاع الئر أين يستقر التنين، خوف يؤدي إلى تفشي الجوع والجفاف والأوبئة، فالكاتب يفكك رمز التنين استنادا إلى المخيلة التي جسدته كواقع رهيب، إنها مخيلة منبجسة عن نفس تعيش الخوف والذعر وتبني اعتقادات عبر تمثل صورة أو ظاهرة كرمز التنين المنبري في الصور المتحركة، كصورة جاهزة للفكر الميتولوجي الذي أعتبر " طفولة الفكر البشري " .

وفي الجزء المعنون ب " العهد الوسيط لمواسم التنين " يتجسد التنين في صورة عسكرية حيث تزحف السيارات العسكرية على القرية وتفرض عليها حصارا بحثا عن المقاومين " الفلاقة " أو من يطعمهم ويؤويهم . إذذاك تنكشف مشاهد وصور التعذيب على الأجساد العارية المكسوة بالحروق والكدمات والدماء النافرة . فالتنين لم يتمظهر كوهم فحسب، بل اتخذ له صورة مجسدة، وهي السلطة المتميزة بالإجبار عند تنفيذ العقاب على كل من يخرج عن قوانينها . وهنا يتوسط الجسد عملية تنفيذ القانون لندرك أن العقاب صادر عن العقل غير المكتمل والذي يحيلنا إلى العصور الوسطى التي تميزت بتعذيب الإنسان والاعتداء على حرمته الجسدية . لذلك سميت بعصور الظلام . كما تحيلنا تلك الصورة إلى طقس التعذيب في المجتمعات البدائية على غرار قبائل " guayaki" لدى الهنود الحمر . وهي طقوس تعبر على كتابة القانون على الجسد ليستمد تواصله واستمراره من جيل إلى آخر . كما يعبر عن أسرار القبيلة الدفينة والخفية، وعن التحام الفرد داخل المجتمع حين يتلاشى تماما .

إن رؤية الكاتب في إدراج رمز التنين كطقس لا يتسع لحيز زمني طويل بل ينتهي حين يحقق أهدافه نابعة من هذه الصورة: " في النهاية انسحب التنين العسكري كما جاء من الطريق التي تمتد ملتوية من تعرجات الجبل، وبقيت القرية تلعق دماءها وتسكب دموعها وتكمد جروحها "  ص 130.

 

تابع القسم الثاني من الدراسة

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1318 الاثنين 15/02/2010)

في المثقف اليوم