قضايا وآراء

الصلة مع المتلقي... التجربة المتحققة والجهاز المفاهيمي المحايث

حرص الجميع على إدامتها، والتأكد من فاعليتها، فمنذ أول خطوات الفن التشكيلي العراقي الحديث كان الفنانون، وغالبية المبدعين، يحرصون على صياغة مدوناتهم اللغوية التي ستشكل الجواز ألتنظيري الذي يضمن مرور منجزهم إلى المتلقي، فكان الرسامون والنحاتون غالبا ما يتوسلون بأبسط الأفكار المستمدة غالبا من الايديولوجيا السائدة في الشارع العراقي لتكون جوهر المدونة التي سيقدمون من خلالها منجزهم إلى متلق بسيط لا يفقه من أمر الفن التشكيلي إلا بأنه دقة نقل مشخصات الواقع ليس إلا.

 

ثلاث تجارب عراقية

لقد تأسست في الفن العراقي الحديث ثلاث تجارب مفارقة، ومتميزة عن غيرها، كونها  كرست نفسها باعتبارها تجارب تشتغل على مرتكزين أساسيين متعاضدين: منجز بصري متحقق يعاضده جهاز مفاهيمي لغوي محايث، تلك هي تجارب: شاكر حسن آل سعيد، ومحمود صبري، وهناء مال الله.

 كانت تجربتا آل سعيد ومحمود صبري تتماثلان لأنهما تتفقان أولا، بالمتجه، كونهما يتجهان من المدونة باتجاه العمل الفني، حيث يتتبع العملُ التشكيلي النصَّ المدونَ، ويتفقان ثانيا، بالمشكلات التي واجهتهما، وبالطريقة التي اتبعها الفنانان من اجل حل تلك المشكلات، بينما كانت تجربة هناء مال الله تتجه بمتجه مختلف عنهما؛ لأنها كانت تحاول توليد جهاز مفاهيمي نقدي من المنجز البصري، ومن ثم العودة بهذا الجهاز ألمفاهيمي لإنتاج متحقق بصري (يتكئ) على ذلك الجهاز ألمفاهيمي، بينما كان الآخران يحاولان إيجاد تطبيقات بصرية من جهاز مفاهيمي سابق لوجود اللوحة أولا، ونابع من مصادر غير بصرية بعد ان جرى ترحيله من مصادر سوسيولوجية لا علاقة لها بالواقعة الشيئية للوحة؛ إلا أن ما يجمع التجارب الثلاث هو وجود جهاز مفاهيمي يقابله منجز متحقق، على خلاف عشرات من التجارب التشكيلية الأخرى.

 

 هناء مال الله ... نظم المنطق

كانت محاولة الأكاديمية والرسامة والناقدة العراقية هناء مال الله، في بحثها الموسوم (النظم المنطقية في الفن) الذي نالت به شهادة الدكتوراه في فلسفة الفنون التشكيلة (الرسم) من جامعة بغداد، قد انطلقت من "افتراض وجود بنى منطقية تتخلل المستويات الصياغية في الرسم" ولذلك فهي عمدت إلى محاولة  "اختيار المنطق Logic الذي ينتمي إلى مجموعة العلوم البرهانية.. ذات النسق الاستنباطي كأداة للتحليل" أي كبديل للغة النقدية والأدبية، حيث تعتقد الباحثة  "إن اللغة النقدية، والأدبية، لم تمارس التحليل في قيم الصياغات البَصَرية، والرمزية للرسم، إلا بالحد الأدنى من الدقة، والوضوح بحكم طبيعتها ذات السمة التأويلية والإيحائية".

وفي بحثها عن جذر الكتابة المسمارية، كانت هناء مال الله تعتقد أن مفتاح (اللغة) الكتابية نبع من نماذج فخارية تعود إلى الألف الخامس قبل الميلاد وإلى الألف الثاني قبل الميلاد، وهو ما يتفق فيه معها الراحل شاكر حسن آل سعيد في كتابه (البحث في جوهرة  التفاني ، ط1،ص53 الشارقة  ، 2003)، حينما يؤكد انه "في حدود الألف الثالث ق.م ظهرت سلسلة من الرسوم على الفخاريات تضمنت على نظام تدويني (تصويري) ما قبل  لغوي كان من أهم عناصره الشكل الهندسي (الواسطة – التدوينة) الذي ابتدأ من (نظام التربيع) واعني بذلك ما حفلت به فخاريات سامراء من رسوم".

وقد اتخذت ذلك النظام التدويني القبل- كتابي نظاما تدوينيا تقيم عليه تجربتها الفنية في معارضها المتتابعة قبل عام 2008.

 

آل سعيد ومحمود صبري ...  وِجْهة واحدة معاكسة

على العكس من محاولة هناء  مال الله في استنباط جهاز مفاهيمي ومدونة لغوية من التجربة البصرية، جرت تجربتا آل سعيد ومحمود صبري وجهة واحدة معاكسة من ناحية قيامهما بمحاولة اشتقاق التجربة البصرية، أو اتكائها على جهاز مفاهيمي نظري، وقد كان الجهاز المفاهيمي لكليهما ينتمي إلى مفاهيم واقعية اجتماعية خارج بصرية،  كما يتفقان بطريقة حل أهم المشكلات التي واجهتهما، فحين اتجه الرسام العراقي الراحل شاكر حسن آل سعيد متجَها (كارثيا) من وجهة نظر قيم الشكل في منجزه الأخير عندما تخلى عن (المشخصات)، ومن ثم عن قيم جماعة بغداد للفن الحديث فيما يخص الاشتراطات المقبولة للشكل، فانه ترك الباب مواربا لإدامة الصلة مع قيمها النظرية المفهومة، والمقبولة من قبل المتلقي، فقام بنقل جهازه ألمفاهيمي ألتنظيري ليقيمه على معطيات مستمدة من الصوفية بصفتها جزءا من التراث، وما يخص على وجه التحديد رؤيتها حول النقطة باعتبارها "أزل كل شيء" كما يقول الحلاج، عندما مازج آل سعيد معها معطيات مستمدة من فهم النقطة في الخط العربي التي هي أزل الحروف والكلمات ومقياسها، أو نظامها التشريحي، ومن فهم النقطة في الهندسة العربية حيث تكون النقطة المتحركة أزل الخط الذي هو أزل السطح والذي هو بدوره أزل الحجم، ومن خلال ترحيل المفاهيم، هذا الذي مارسه آل سعيد، غدت النقطة أزل الأبعاد (dimension)؛ وصار الخط بفعل اندماج هذه التعريفات العنصر البنائي للبعد الواحد، الذي تم تعزيزه بعد سنوات من خلال دراسة الأنظمة الرياضية الصارمة للاوفاق فتم تأسيس المرتكز الأقوى للصلة مع المتلقي الذي تشبع بقيم جماعة بغداد وأطروحاتها، أي إبقاء الجهاز المفاهيمي القديم  بعد تطويعه ليسع التحول الجديد نحو التجريد اللاتشخيصي.

إن ما فعله الرسام محمود صبري ليس بعيدا عما فعله آل سعيد قبله بسنوات، يمكن إذن تقسيم مراحل تحولات الرسام محمود صبري، من وجهة نظرنا، إلى مرحلتين هما: المرحلة المشخصة كان فيها رساما خاضعا لاشتراطات جماعة بغداد للفن الحديث في منجزه المتحقق فكان مقتصدا باللون وباذخا في الأشكال وتوزيعها على مساحة اللوحة، ومغرما بالموضوع وبالإنسان وبالجانب الأيديولوجي في موضوع اللوحة، بينما صار في مرحلته التجريدية الأخيرة التي سميت واقعية الكم خاضعا للاشتراطات التنظيرية لجماعة بغداد للفن الحديث؛ وباذخا باللون، على حساب الأشكال التي اختفت سوى ما تخلقه المحيطات الكفافية من خطوط وهمية ناتجة عن المساحات اللونية.

فبعد ان قضى محمود صبري سنوات  "شغوفاً بالرسم فأنجرف مع جماعة البدائيين التي تأسست عام 1950م ، وهنا أبت أفكاره إلا أن تلقي بظلها على قماشة لوحته فأبتعد عن رسم المناظر الخلوية وأختار كبديل لهذا الاتجاه تصوير الشرائح الاجتماعية في محاولة لتعرية الوضع الطبقي القائم والذي طالما كان يصيب الفنان بالغثيان ، ولعل لوحته الرائعة المنفذة بألوان (الكواش) نساء في المبغى أو (نساء في الانتظار 1952م) لا تكشف عن رجل سياسي محنك أو داعية للعدالة قدر ما تكشف عن فنان متمرس ومتمكن من صنعته" كما يقول عامر فتوحي؛ فجاء تحول محمود صبري إلى التجريد تحولا (كارثيا) من وجهة نظر المتحققات الشكلية الواقعية على اللوحة، إلا أن هذا الرسام كان يقدس، كشاكر حسن آل سعيد، قيمة الصلة مع المتلقين لذا ترك الباب مواربا، حاله في ذلك حال آل سعيد، لإدامة الصلة مع القيم السائدة في سوق المتلقين ونعني به الواقع، والواقعية، ومحاكاة الطبيعة، لذلك، فهو لم يطرح نفسه إلا باعتباره مجددا للواقعية القديمة ليس إلا، فكانت صلته بتلك الواقعية، وبقيم التعبير الاجتماعي، كما هي صلة آل سعيد بتلك القيم قد انتقلت من المنجز المتحقق إلى النص المكتوب، وبذلك تم تأسيس جهاز مفاهيمي نظري، وهو جهاز ينتمي إلى مفاهيم واقعية اجتماعية خارج بصرية يسبق في وجوده وجود اللوحة، وهو حال أهم التجارب المماثلة الأخرى حيث تم تأسيس:  نظام منطقي واوفاقي عند آل سعيد؛ وهو نظام استخرجته هناء مال الله من الرسم ومن ثم أعادته إليه، ونظام شكلي عند محمد مهر الدين وهاشم حنون، وعلمي عند محمود صبري، وكلها أنظمة يسبق وجودُها وجودَ اللوحة التي ترتكز عليه؛ فحينما غادر الفنانان آل سعيد ومحمود صبري مرحلتهما الاجتماعية الواقعية إلى المرحلة التجريدية بشكل بدا وكأنه ارتداد لا سابقة له في طيات منجزهما السابق، قاما بترحيل جهازهما ألمفاهيمي الذي ظل منكفئا على ذات الثيمات الارتكازية الأولى: (محاكاة الطبيعة) عند محمود صبري، والتعبير (عن الروح المحلية) عند آل سعيد رغم ان انتقالهما إلى حقل جديد وعسير كان يحتم إجراء تغيير ضخم في الجهاز ألمفاهيمي، إلا ان ما حدث لم يكن كذلك فقد تمت إعادة صياغات لم تؤثر في جوهر جهازهما المفاهيمي فقد ظل الفن من وجهة نظر محمود صبري ذاته "محاكاة للطبيعة ولكن ينبغي تحديد معنى (محاكاة الطبيعة)، إنها ليست كمية ساكنة ثابتة، بل متغيرة، متطورة على الدوام، إنها محددة بمستوى معرفة الإنسان... وان واقعية الكم: أولا، تتفق مع (الواقعية التقليدية) في أن الفن (محاكاة) لأشكال الطبيعة غير أنها تختلف عنها في أنها تنقل (محاكاة الطبيعة) من مستوى المظهر إلى مستوى الجوهر، إلى عمليات الطاقة، وثانيا، رفضها مظهر الطبيعة في الفن، غير أنها لا تتفق معها في تعميم هذا الرفض بشكل مطلق ليتناول كامل الطبيعة، أي بما في ذلك جوهرها العميق... أي أن أبعاد الاختلاف الجوهري بين واقعية الكم والمدارس الفنية الأخرى هي في العلاقة مع الطبيعة، ففي واقعية الكم... تغلغل الإنسان إلى عمق جديد، جوهري، من المادة، وبالتالي لمستوى جديد (خلاق) مع التعامل مع الطبيعة كعمليات من الطاقة"، هذا ما يخص العلاقة بين واقعية الكم ومحاكاة الطبيعة، أما ما يخص سوسيولوجيا الفن فان "الفن التشكيلي يخلق صورا تستهدف (كوظيفة تطبيقية اجتماعية) تغيير المجتمع عبر تغيير الوعي الإنساني".

 

السؤال الجوهري

سنختار نموذجا واحدا حول حقيقة الصلة بين المنجز المتحقق وبين الجهاز المفاهيمي، حينما ننتهي إلى السؤال الجوهري الذي كثيرا ما طرحته أكثر مما أجبت عليه: ما هي واقعية الكم كنموذج لجهاز مفاهيمي يفترض ان تشتق منه التجربة الفنية؟ هل هي المدونة التي كتبها محمود صبري والمدونات التي شكلت هوامش لها، أم هي المنجز المتحقق في لوحات محمود صبري؟. وبذلك يثور تساؤل مهم: هل أن القيم الفنية أو البصرية كامنة في الأنظمة الرياضية الصارمة، أي في (المخططات الأولية) أم في المتحقق الشكلي الذي هو شيئية اللوحة وجوهرها، وهل بالضرورة يجب أن يتطابق الجهاز ألمفاهيمي للرسام مع المنجز المتحقق على سطح اللوحة، أليس من الأجدى تلقي الجهاز ألمفاهيمي باعتباره نصوصا مستقلة على (او) تتضمن (نصوصا) بصرية، وهل يمكن تلقي المنجز البصري بمعزل عن الجهاز ألمفاهيمي المدون لغويا؟.

مهما يكن شكل جوابنا فنحن نعتقد أن الانشغال بالمدونات قد افسد متعة كان يمكن أن تتحقق لو أننا تلقينا إعمال محمود صبري باعتبارها نمطا من الرسم التجريدي الهندسي أو الفن البصري، فلم تكن " العناصر التشكيلية (الأشكال والتراكيب والألوان) التي تستخدمها واقعية الكم مستمدة من عمليات الطاقة، تبدو وكأنها تجريدية" كما يقول محمود صبري نفسه، بل أنها فعلا تجريدية.

 

خالد خضير ألصالحي

البصــــــــــــــــــــرة

[email protected]

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1318 الاثنين 15/02/2010)

 

 

في المثقف اليوم