قضايا وآراء

ما جدوى نشر الشعر على الشبكة الإلكترونية

وذهبت تنبؤاتي إلى تأثيراتها المستقبلية على العمارة والعمران.. إلا أنني لم أُمارس آنذاك النشر الإلكتروني.. وكلّ ما قُمتُ به هو أنني ألقيتُ دراسة في الجامعة التي أنتمي إليها عن "الكتاب الإلكتروني"(*)، ضمن فعاليات افتتاح معرض الكتاب فيها، وقد حضر للاستماع والمناقشة أكثر العمداء ورؤساء الأقسام ومنتسبي وطلبة الجامعة، ولكنني بقيت أُراوح في مكاني، غير مٌكتشف لفوائد شبكة الإنترنت على نشر النتاجات الثقافية.. إلا بعد عام 2002، عندما كُنتُ أُرسل بعض نتاجاتي إلى ولدي الأكبر صارم والذي كان يعيش في هولندا.. وأصبح يُرسل لي ما نُشر منها ووصلتني تعليقات وردود عليها، جعلتني أتيقن أن عهداً جديداً قد بدأ.. وأنَّ النشر الإلكتروني أخذ وبسرعة هائلة طريقه نحو الانتشار.

لاحظتُ أولاً أنني أستطيع الاطلاع على نتاجات الشعراء وطريقتهم بمُختلف الأساليب المُتّبعة في النظم.. سواءٌ الشعر العربي القديم.. ومنها المعلقات التي تتصدر هذه القائمة.. وحتى شعر الحداثة وما بعد الحداثة.. وصولاً إلى السوبر حداثة.

وأحياناً كانت القصائد مكتوبة نصاً فقط، وأخرى مُدعّمة بالصوت، وبحثتُ عن شعراء لهم حضورهم المُشرق على الشبكة.. وفي الغالب كانت أذواق المشرفين على المواقع تلعب دوراً مؤثراً في الاختيارات، وأول ما وجدت ملفاً من أغنى الملفات عن أبو الطيب المتنبي، يحتوي على ترجمة للشاعر، ديوانه كاملاً، مُرتباً ألف بائي بالنسبة للقوافي.

ثم تماديتُ في طمعي لأُطفئ ظمأي بالاطلاع والاستماع إلى نتاجات شعراء العصر الحديث، وأصحاب التجربة الحديثة، ومنهم: بدر شاكر السياب، ومحمود درويش، وعبد الوهاب البياتي، ونجيب سرور، ونزار قباني.. ونتاجات الشاعر الثائر: مظفر النواب.

في هذا الاندفاع للنشر الإلكتروني للشعر الذي تلقّاه الشباب بنهمٍ، فقد أنشأوا لهم مواقعهم الشخصية، ليقدّموا نتاجاتهم الأدبية، المتفاوتة في قيمتها الإبداعية، بعد اطلاعهم المبكّر على تقنيات الحاسوب وتمكنوا من استغلاله.

أنا كنتُ لا زلتُ من المحافظين (الكونسورفاتيف).. فلم أُسارع للنشر على الشبكة.. رغم تمتّعي بالاطلاع على مختلف نصوص الشعر التقليدي العمودي، والنص التفعيلي، والحداثي والسهل الممتنع، وحتى اطلعت على نصوص مترجمة وأخرى بلغات إنجليزية وألمانية وفرنسية.. كان المشهد مُغرياً.. ولكنّي في هذه الفترة نشرتُ في دمشق ثلاثة دواوين، كانت على التوالي:

تنبؤات عابر سبيل - ربما تغفو على الخيل الجراح -  تأشيرة دخول.

وكما هو معتاد فإن بيع دواوين الشعر يُعاني منذ عشرين عاماً ركوداً لا مثيل له، فقد أنفقتُ على طبع 500 نسخة من كل ديوان.. أهديتُ من كل واحدٍ منها حوالي 200 نسخة.. وبقيت النسخ الباقية لدى دار النشر في دمشق، يعرضها بين الحين والآخر في المعارض، ولم أتحاسب معه لحد الآن بشأنها.

أستشف من ذلك أن كل قصيدة من تلك القصائد وبالتقدير المتفائل لم تُقرأ من 300 قارئ.

ومن الطبيعي فإن كل مُبدع ينظر إلى مسألة انتشار نتاجاته، فهو لا يُريد أن يحتفظ بنتاجاته لنفسه، لأنه أبدعها كي يرى تفاعل الآخرين معها.. كتغذية مرتدة، تساعده على الاندفاع للإبداع أكثر فأكثر.

وهنا أُريد أن أُجري المقارنة التالية.. بعد أن قُمتُ بنشر قصائدي على الإنترنت، ولأضرب مثلاً من أحد المواقع الذي نشرتُ فيها، وكانت النصوص لا تبقى على الشاشة أكثر من أسبوعٍ واحد، فقد سجّلت القصائد الآتية عدد القراءات المؤشرة ازاءها:

بوابة طريبيل                      2368 قراءة

لماذا أنتِ                           1634 قراءة

ليلة رأس السنة          1605 قراءة

الكل يبحث عن جنون  528 قراءة

وكان هذا الموقع هو شبكة البرلمان العراقي

من هذا أجزم بأنني قد وصلتُ إلى عددٍ أكبر من القراء، وقرأت تعليقات بعضهم.. وهذا ما يتطلّبه المثقّف، أن يُحسّ بالتفاعل وردود أفعال المتلقّين.

ورغم بعض الملاحظات التي أسجلها لديّ في مجال المطالعات في النقد الأدبي والتي راجت في أوساطنا الأدبية مؤخراً، ولكنني أراها ظاهرةً إيجابية يُمكن أن تأخذ أشكالها الإيجابية المستقرة مستقبلاً.

ولكنَّ ما يشغلني ليس هو هذا الكم الهائل من النشر الشعري، بل قدرة المواقع على البقاء والتواصل مع المتلقّين؟

فقد توقّفت فعلاً بعض المواقع التي كنتُ أنشر فيها مثل "أفنان" والتي كان يُشرف عليها الدكتور أفنان القاسم في باريس، والتي تتسم تصاميم صفحاتها بالأناقة.

ولكنّي أخيراً أقول: بالرغم من زحمة المشاغل لدى الناس في هذا العصر، والاشتغال اليومي، والسعي وراء الكسب المادي، الهم الذي يشغل الكثيرين، وسطوة نظرية الاستهلاك، فإنَّ ثمّة قراءة للشعر، وثمّة توقٌ للهروب من كل هذه الضغوطات.

وهذا ما يُدلّل على أنَّ الشعر ما زال يحتفظ بتأثيره ورومانسيته.. وأنَّه الحياة التي ينتقل إليها القارئ بعيداً عن التأثيرات والملاهي.. وأنَّ الانترنت لا زال له القدرة على التواصل بهذا الصدد مع المتلقّي، أينما كان ليبقى الشعر يمتلك التوهّج ويعد بمزيد من التألق.

 

صحيفة المثقفwww.almothaqaf.com     العدد: 1055  الجمعة 22/05/2009    (ارشيف الاعداد)

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي الصحيفة بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها.

في المثقف اليوم