قضايا وآراء

حق النقد وجرائم التعبيرفي معايير الفصل بين أسباب الإباحة والتجريم (1)

التي تنظم ممارسة حرية التعبير وحق النقد بشكل خاص، وكذلك المعايير التي يهتدي بها القضاء وهو ينظر في الدعاوى المتعلقة بحسن ممارسة تلك الحريات وحق النقد، من وجهة نظر الفقه والقضاء المقارن.

وتعد المعايير التشريعية وأراء فقهاء القانون وأقضية المحاكم التي تتضمن مبادئ جديدة، من أهم المصادر التي يستقي منها المشرع أحكامه وهو بصدد سن التشريعات المختلفة، فضلاً عن انها محل استئناس القضاء . خاصة وان من  المتوقع ان يباشر المشرع العراقي في سن التشريعات التي تنظم حرية التعبير ومنها حق النقد وفقاً للقواعد الدستورية.

وتناول البحث معايير التمييز بين ما يعد من جرائم الرأي وما يعد ممارسة لحرية التعبير وحق النقد التي نصت عليها الدساتير والمواثيق الدولية صراحة او ضمنا من خلال إطلاق الحريات العامة مقترنة بضابط النظام العام والآداب العامة، ولما كانت الدساتير والقوانين لا تتضمن عادة تفصيلاً لمثل هذه المعايير وان الدستور واجب التنفيذ والاحترام، فقد تولى الفقه والقضاء في مختلف دول العالم وضع هذه المعايير مشتقاً إياها من مفهوم النظام العام والآداب العامة السائدة في المجتمع وقواعد المنطق والأعراف المهنية وقواعد العدالة ومبادئ القانون الطبيعي باعتبارها مصادر لما فات المشرع ان ينص عليه في الدستور والقوانين المختلفة، وقد يكون ذلك عن قصد منه إيمانا منه ان مثل هذه الأفكار تتطور بفعل الزمن وانه ليس من الحكمة حصرها في نصوص قد لا تتطابق مع التطورات المتسارعة والمذهلة في حياة البشر فترك أمرها لحسن تقدير ونظر الفقه والقضاء، ايماناً منه بان القضاء المستقل هو من يتولى خط الدفاع الاول عن الحقوق والحريات العامة ضد كل اعتداء يرد عليها من أية جهة كانت.

وقد تناول البحث دراسة جريمة القذف وحق النقد كنموذجين لاشتقاق المعايير اللازمة للتفرقة بين ما يعد جريمة وما يعد ممارسة لحق دستوري.

وينبغي ملاحظة ان البحث الفقهي في هذا المقام والاستشهاد بأقضية المحاكم لا يعني القول الفصل في الموضوع، لان الكثير من الوقائع المتصلة بمثل هذه المسائل تتصل بالسلطة التقديرية لقاضي الموضوع حسب ظروف كل قضية، إلا ان تكييف تلك الوقائع وإسنادها إلى نص قانوني معين يخضع لرقابة محكمة التمييز، وفائدتها العملية انها تصلح كدفوع مستندة إلى العلوم القانونية وقواعد المنطق وأعراف المهن التي لا يخطئها عقل القاضي الحصيف، ونظر محكمة التمييز السديد.

 

مقدمة: حرية الفكر نظراً وعملاً

لحرية الرأي والتعبير قيمة عليا في حياة الناس، وهي من مصادر الخلق والإبداع وتنمية الخيال الأدبي والفني في كل الاتجاهات الممكنة، فضلاً عن انها  تعطي الأمل والثقة للناس في قيام نظام اجتماعي وسياسي سليم يحترم الفرد ويقدر مشاعره وضميره الأدبي. وتعطي حرية التعبير للإنسان قدرة المشاركة بإخلاص وفعالية في الحياة الاجتماعية العامة والمساهمة في دفع التقدم الاجتماعي إلى الأمام مما لا يفسح المجال أمام نمو النفاق الاجتماعي وطغيان الانتهازية وسيادة العلاقات المزيفة القائمة على المصالح الشخصية البحتة التي تجد ضالتها في عهود الظلام وكبت الحريات. ويقول الشاعر بيرم التونسي، وهو يتعرض لأهمية حرية التعبير وممارسة حق النقد،  (.. ولولا النقاد لهلك الناس، وطغى الباطل على الحق، ولامتطى الأراذل ظهر الأفاضل، وبقدر ما يخفت صوت الناقد يرتفع صوت الدجال).(1)

ذلك ان الإنسان كائن فكري، ويغطي الفكر مجمل نشاطاته العقلية والبدنية، فما نقوم به من نشاطات ذهنية وما نتحرك مادياً إلا بناءاً على فكرة مسبقة، وحركة الفكر الإنساني، هي الحركة الأهم في حياتنا جميعاً، لما يترتب عليها من رؤى ونشاطات تتمظهر بصور منوعة من الإبداع الإنساني كالنتاج الفني والأدبي والعلمي فضلاً عن السلوك الاجتماعي اليومي لبني البشر ونشاطهم البدني، ومثلما تحكم قوانين المنطق نظام الكون، فانها تحكم سياقات الفكر الإنساني أيضا باعتباره جزء من ذلك النظام، وحينما تتحق الحرية بأنواعها وتفصيلاتها الدقيقة فان ذلك يدفع بالفكر الإنساني إلى أقصى حدوده الممكنة، وهذا ما يذكرنا بالأفكار الخلاقة التي نمت وازدهرت في عصور النهضة الأوربية التي كانت نتاجا وابنا شرعيا لنمو وتطور الحريات العامة، وحينما تتعرض حركة الفكر لقيود خارج حدود قوانين المنطق، او حينما تستبعده عن العمل والتأثير سلوكيات مثل التعصب والهوى والإرادة الطائشة والرغبات الآنية وخاصة السياسية منها، التي لا تنتهي حججها يوماً ما في مواجهة الفكر وحريته، بما يذكرنا بالعصور المظلمة، فان الناتج هو توقف الإبداع والتطور في المجتمع فيكون سبباً لانتشار الجهل وسيادة الأفكار المتخلفة محله، لان الفكر لا يمكن إلغاؤه كلياً من حياة البشر، فان حُجب الفكر الحر النير المتطور عن عقول الناس ونظرهم فلا شك في ان يحل محله ما هو متخلف وسلفي.

وحرية التعبير لا تعني تعليق الحرية على صحة التعبير او على مدى مطابقته لمعايير جامدة لا يمكن ان تتطور بتطور المجتمع، وانسجاما مع ذلك ذهبت المحكمة الدستورية العليا في مصر في حكم لها بشأن حرية الرأي بشكل عام إلى القول (... حق الفرد في التعبير عن الآراء التي يريد إعلانها، ليس معلقاً على صحتها، ولا مرتبطاً بتمشيها مع الاتجاه العام في بيئة بذاتها، ولا بالفائدة العملية التي يمكن ان تنتجها، وإنما أراد الدستور بضمان حرية التعبير ان تهيمن مفاهيمها على مظاهر الحياة في أعماق منابتها بما يحول بين السلطة العامة وفرض وصايتها على العقل العام فلا تكون معاييرها مرجعاً لتقييم الآراء التي تتصل بتكوينه ولا عائقاً دون تدفقها.

 وحيث إن من المقرر كذلك إن حرية التعبير، وتفاعل الآراء التي تتولد عنها، لا يجوز تقيدها بأغلال تعوق ممارستها، سواء من ناحية فرض قيود مسبقة عليه نشرها، أو من ناحية العقوبة اللاحقة التي تتوخي قمعها • بل يتعين أن ينقل المواطنون من خلالها -وعلانية - تلك الأفكار التي تجول في عقولهم، فلا يتهامسون بها نجيا، بل يطرحونها عزماً ولو عارضتها السلطة العامة - إحداثا من جانبهم - وبالوسائل السلمية - لتغيير قد يكون مطلوبا • فالحقائق لا يجوز إخفاؤها، ومن غير المتصور أن يكون النفاذ إليها ممكنا في غيبة حرية التعبير).(2)

تقسيم البحث:

نتناول في هذا البحث دراسة حق النقد مقارنة بجريمة القذف والدعاوى المقامة على المؤسسات الإعلامية وعلى الأفراد من جانب التمييز بين ما يعتبر جريمة قذف وبين ما يعد ممارسة مشروعة لحرية التعبير وحق النقد، بمعنى اخر إيجاد الحد الفاصل بين الجريمة المعاقب عليها وبين ممارسة حرية التعبير وحق النقد، وعلى النحو الأتي:

الفرع الاول: الديمقراطية وحقوق الانسان وجهان لعملة واحدة

الفرع الثاني: في أركان جريمة القذف

الفرع الثالث: مشروعية حق النقد

الفرع الرابع: أركان وشروط حق النقد

الفرع الخامس: تطبيقات قضائية في التمييز بين القذف وحق النقد

الفرع السادس: المقصود بالنظام العام والآداب العامة كقيود ترد على ممارسة الحريات العامة

خاتمة البحث: النتائج المترتبة على التمييز بين الجريمة وممارسة الحق.

التوصيات

 

الفرع الاول

الديمقراطية وحقوق الانسان وجهان لعملة واحدة

 

الواقع ان الديمقراطية وحقوق الانسان وجهان لعملة واحدة، ولسنا بحاجة في هذا المقام إلى براهين وأدلة خاصة لإثبات العلاقة بين الديمقراطية وحرية التعبير وممارسة حق النقد العام لأنها علاقة مشهورة ومؤكدة نظريا وعمليا،

وحين يطالب الفرد بحقه في ممارسة حرية التعبير والنقد واحترام رأيه ومعتقداته فأنه يطالب بما هو مستحق له بوصفه عضواً في المجتمع.

وجاء في إعلان حقوق المواطن الفرنسي الوارد في مقدمة دستور سنة 1789 بالنص على انه (ان ممثلي الشعب الفرنسي، المجتمعين في جمعية وطنية، قد راعهم الجهل، والنسيان، وعدم المبالاة بحقوق الإنسان، باعتبارها سبب المآسي العامة وأساس فساد الحكومات . فقرروا النص في إعلان رسمي على حقوق الإنسان الطبيعية، المقدسة، غير القابلة للتصرف، حتى يكون هذا الإعلان ماثلا على الدوام في ذهن أعضاء الجسم الاجتماعي، يذكرهم أبدا بحقوقهم وواجباتهم ....

المادة الاولى : يولد الناس ويظلون أحرارا ومتساوين في الحقوق ولا تقوم التمييزات الاجتماعية إلا على أساس من المنفعة العامة .

المادة الثانية :ان الغاية من كل تجمع سياسي حفظ حقوق الإنسان الطبيعية غير القابلة للتقادم . هذه الحقوق هي الحرية، والملكية، والأمن، ومقاومـة الطغيـان....)(3)

وقد تبنى ميثاق منظمة الأمم المتحدة موضوع إشاعة قيم الحرية وحرية التعبير والرأي بمختلف صورها ووسائلها، وتوجت ثمرة الجهود الدولية في هذا المجال بصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في 10/12/1948، وجاء في المادة (19) منه ( لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية).

ويلاحظ الباحثون ان الأمم المتحدة وان سارت خطوات متقدمة في مجال دعم الحريات العامة وإشاعة ثقافتها نظرياً بين الشعوب من خلال اتفاقيات دولية وتوصيات لمؤتمرات عديدة، إلا أنها لم تتبنى دعم الوجه الآخر وهو الوجه العملي لهذه الحريات ونقصد به دعم الشرعية الديمقراطية، ففي الوقت الذي نص فيه الإعلان العالمي في الفقرة الثالثة من المادة الحادية والعشرين على انه:

(إرادة الشعب هي مصدر سلطة الحكومة, ويعبر عن هذه الإرادة بانتخابات نزيهة دورية تجري علي أساس الاقتراع السري وعلي قدم المساواة بين الجميع أو حسب رأي إجراء مماثل يضمن حرية التصويت)، ولم يشر ميثاقها صراحة الى الصلة الوثيقة بين حقوق الإنسان والشرعية الديمقراطية ولم تتخذ هذه المنظمة تنفيذا لنصوص الإعلان العالمي أية مواقف تجاه الانقلابات العسكرية حتى ما كان مها في مواجهة أنظمة ديمقراطية ناشئة ولم تتعرض لبروز الديكتاتوريات وما ألحقته من مآس بحق العديد من الشعوب، وكان ذلك على أساس من فكرة كانت سائدة مفادها ان التعرض لهذه الشؤون يعد مساساً بالشؤون الداخلية للدولة، إلا ان تحولاً جذريا قد حصل بعد انتهاء الحرب الباردة والتطورات الحاصلة في فقه القانون الدولي الحديث، وبدأت منظمة الأمم المتحدة تخرج عن نطاق ما كانت تعتبره حيادا مغلبة معيار الشرعية الديمقراطية عندما أعلنت ان الديمقراطية ليست مجرد شعار وإنما هي أداة حتمية للتنمية الإنسانية أيضا وجاء في قرارها رقم 34/751 بتاريخ 8 كانون الاول من سنة 1988أن إرادة الشعب التي تعكسها انتخابات نزيهة تجري دوريا هي أساس لسلطة وحكم الشعب.  وان ( التجربة العملية تثبت أن حق كل فرد في الاشتراك في حكم بلده عامل حاسم في تمتع الجميع فعليا بمجموعة من حقوق الإنسان والحريات الأساسية الأخرى)

وتناول المؤتمر الدولي لحقوق الإنسان الذي عقد في فيينا في يونيو عام 1993 هذا التكامل بين حقوق الإنسان والديمقراطية, ليثبت أن الديمقراطية وحقوق الإنسان وجهان لعملة واحدة.  وبهذا التحول الجوهري أضحت الشرعية الديمقراطية هدفاً عمليا من أهداف الأمم المتحدة ومنظماتها الذي تجسد في أشراف المنظمة على الانتخابات الوطنية والاستفتاءات الشعبية في مختلف أنحاء العالم ومنها العراق، أثناء الانتخابات والمراحل اللاحقة لها وذلك (بغية ضمان استمرار وترسيخ عملية إقامة الديمقراطية في الدولة العضو التي تطلب الحصول علي مساعدة). (4)

وانسجاما مع السعي الجاد لإنشاء نظام سياسي ديمقراطي يحترم الحريات العامة نصت المادة (38) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005على انه: (تكفل الدولة وبما لا يخل بالنظام العام والآداب:

 أولا: حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل .

 ثانياً: حرية الصحافة والطباعة والإعلان والإعلام والنشر.

ثالثاً : حرية الاجتماع والتظاهر السلمي وتنظم بقانون).

 وجاء في  المادة (42):  (لكل فرد حرية الفكر والضمير والعقيدة).

 بينما نصت المادة (46): ( لا يكون تقييد ممارسة أي من الحقوق والحريات الواردة في هذا الدستور أو تحديدها إلا بقانون أو بناء عليه، على ألا يمس ذلك التحديد والتقييد جوهر الحق أو الحرية).

ويستفاد من النصوص المتقدمة ان مشرعنا قد اعترف ضمناً بجميع أنواع الحريات المتعلقة بالتعبير والنقد والبحث العلمي والأدبي وأية حرية أخرى تعترف بها المواثيق الدولية لأنه لم يقيدها إلا بقيد ان لا تكون مخالفة للنظام العام الآداب العامة.

ويراد  بحرية الرأي حق الفرد في التعبير عن أفكاره سواء كانت سياسية او اقتصادية او اجتماعية او دينية بالوسائل والصور المختلفة دون حاجة الى موافقة او ترخيص سابق ولو انفرد برأيه، لذلك يقول فولتير (إني استنكر ما  تقوله ولكني أدافع حتى الموت عن حقك في قوله) (5)

ويقصد بحرية الصحافة حق الأفراد في إصدار الصحف او المجلات او اية مطبوعات دون رقابة من السلطة العامة.

ووضع قيود غير مبررة على حرية الرأي وحق النقد هو بمثابة انتقاص من أهلية المواطنين والحجر على عقولهم، فضلاً عن كونه اعتداء على حق جوهري من حقوق الانسان.

ومما جاء في إعلان الدوحة 2009 (نحن... المشاركين في مؤتمر اليونسكو لليوم العالمي لحرية الصحافة في الدوحة، قطر، في 3 أيار/مايو 2009.... نعيد التأكيد على أن حرية التعبير حق أساسي ضروري لتحقيق حريات أخرى مضمونة في الوثائق الدولية التي تُعنى بحقوق الإنسان،.... ونشدّد على ضرورة استقلال وتعددية وسائل الإعلام لضمان الشفافية والمساءلة والمشاركة، باعتبارها عناصر أساسية للحكم الرشيد والتنمية القائمة على حقوق الإنسان،.. ونرى أن حرية الرأي والتعبير تشكل حجر الأساس في المجتمعات الحرة والديمقراطية وتسهم في تحسين فهم مختلف الثقافات وإرساء الحوار فيما بينها....ندعو اليونسكو إلى ما يلي:الاستمرار في توعية الحكومات والمشرّعين والمؤسسات العامة، إلى أهمية حرية التعبير، بما فيها حرية النفاذ إلى المعلومات وإنتاجها...)(6)

والحال ان تطابق الفكر مع وعي مفهوم الديمقراطية كنظام قانوني وسياسي، هو أساس التمييز بين الديمقراطية الحقيقية والديمقراطية المزيفة.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1319 الثلاثاء 16/02/2010)

 

 

في المثقف اليوم