قضايا وآراء

حق النقد وجرائم التعبيرفي معايير الفصل بين أسباب الإباحة والتجريم (2)

معينة إلى الغير بإحدى طرق العلانية من شأنها لو صحت ان توجب عقاب من أسندت إليه أو احتقاره عند أهل وطنه).(7)

وعرف المشرع المصري القذف بنفس الأسلوب في المادة (302) عقوبات مصري بالقول:

(يعد قاذفاً من اسند لغيره بواسطة احدى الطرق المبينة بالمادة 171 من هذا القانون اموراً لو كانت صادقة لأوجبت عقاب من أسندت إليه بالعقوبات المقررة لذلك قانوناً أو أوجبت احتقاره عند أهل وطنه)

وفي ضوء ذلك يذهب الشراح إلى وجوب تحقق ركن مادي وركن معنوي لتحقق جريمة القذف:

أـ الركن المادي:يقوم الركن المادي على ثلاثة عناصر، نشاط إجرامي هو فعل الإسناد وموضوع لهذا النشاط هو الواقعة المحددة التي من شأنها ان تعتبر جريمة توجب عقاب فاعلها، او انها توجب احتقاره عند أهل وطنه ولو لم تشكل جريمة، وصفة لهذا النشاط هي كونه علنياً.

1ـ فعل الإسناد: هو تعبير عن فكرة صراحة او دلالة، تصدر قولاً او كتابة او إشارة او رمزاً او رسماً فحواه نسبة واقعة الى شخص معين علناً، بغض النظر عما اذا كانت نسبة الواقعة على سبيل اليقين او الشك، او كانت مجرد نقل عن الغير. وعلى هذا وصف القذف بأنه (جريمة تعبير).

وعلى هذا تقوم الجريمة بالإسناد الصريح الذي لا يحتاج من السامع الى مجهود ذهني لاستخلاص المعنى المراد من التعبير، او انه كان تعبيراً ضمنياً يحتاج كشف المراد منه بذل مجهود عقلي لتحديد المعنى الحقيقي المستتر خلف معناه الظاهر.

فالجريمة قائمة ولو استعمل الجاني أسلوب التورية او التلميح او انه افرغ عباراته بصيغة استفهامية او افتراضية.

ويتحقق النشاط الإجرامي ولو كان الإسناد عن طريق الإجابة عن سؤال بـ (نعم) او (لا)، فلو سأل مقدم برامج شخصاً في مقابلة في إحدى وسائل الإعلام، هل تعتقد ان فلان مرتشي؟ فأجابه بنعم . فان كلا من مقدم البرنامج وضيفه قد ارتكب جريمة القذف، الاول عن طريق الافتراض والثاني عن طريق التأكيد.

وانه سأله عن طريق القول، ان فلان معروف عنه النزاهة في العمل، فأجابه بالنفي صراحة او إشارة، فان الضيف مسؤول عن جريمة قذف.(8)

2ـ تحديد الواقعة: وواقعة القذف يجب ان تكون محددة، والتحديد هو ما يميز جريمة القذف عن جريمة السب الأخف من حيث العقوبة، لان من الشروط الطبيعية للواقعة محل الإثبات حسب القواعد العامة في قانون الإثبات ان تكون الواقعة محددة (9) وهذا ما هو مطلوب في جريمة قذف موظف عام في حين لا يسمح بالإثبات في جريمة السب للاستحالة القانونية لان القانون لا يشترط في واقعته التحديد.

ومن جانب اخر فان تحديد فكرة الواقعة يقتضي التمييز بينها وبين الحكم القيمي كحد فاصل بين القذف والسب، فمن يسند إلى غيره واقعة محددة كسرقة دار معينة او تزوير مستند معين فانه يرتكب قذفاً، ولكن من يحكم من باب الرأي والاستنتاج بان فلان سارق او مزور دون ان يسند ذلك الى واقعة محددة او القول انه يتوقع ان فلان سيصبح سارقاً في المستقبل فانه يرتكب جريمة سب وان يكن قد استخلص هذا الرأي من واقعة يعلمها ولكنه لم يصرح بها، لاستحالة إثبات الاستنتاجات في  الغالب .

وللواقعة المحددة صورتين حددهما القانون، هما:

ـ الواقعة المستوجبة للعقاب: ويقصد بها إسناد واقعة محددة الى شخص لو صحت لاعتبرت جريمة أوجبت عقوبته، فمن يسند الى شخص وقائع محددة، قولاً او كتابة، بأنه سرق او زور محرر او اختلس مالاً عاماً او استلم رشوة للقيام بعمل او الامتناع عن عمل يدخل في اختصاص وظيفته فانه يرتكب جريمة قذف على اعتبار انه فيما لو كان ذلك صحيحاً يؤدي الى عقابه قانوناً. والمعيار في هذا المقام معيار موضوعي لأنه لا يتعلق بحالات شخصية او اجتماعية، وانما هو مستمد من القانون العقابي.

ـ الواقعة المستوجبة للاحتقار: ويقصد بها إسناد واقعة محددة الى شخص من شأنها ان تقلل من الاحترام الذي يحق للمجني عليه ان يتمتع به في المجتمع، وهي تكون كذلك اذا كانت تخالف الأخلاق الاجتماعية او الأعراف العامة او تثير النفور لدى المجتمع، ومثل هذه الأمور هي نسبية تختلف من مجتمع الى أخر ومن زمن الى أخر في ذات المجتمع، فوصف شخص في المجتمعات الغربية بأنه يتهرب من دفع الضرائب تعتبر وصمة عار على الشخص تستوجب احتقاره، بينما لا تعتبر كذلك ولا تثير الاحتقار في مجتمعات أخرى، بينما القول ان الشخص يتردد على الحانات والملاهي يعتبر امراً طبيعيا في بعض المجتمعات وعاراً في مجتمعات أخرى.

ويدخل في مفهوم الإسناد الرواية عن الغير او ترديد إشاعات او نقل خبر عن صحيفة ولو أتيح للمجني عليه حق الرد، وجاء في حكم لمحكمة النقض في مصر على انه (متى كانت العبارات المنشورة دالة على ان الناشر إنما رمى بها إلى إسناد وقائع مهينة إلى المدعية بالحقوق المدنية هي انها تشتغل بالجاسوسية لمأرب خاصة وتتصل بخائن يستغل زوجته الحسناء وانه كان لها اتصال غير شريف بآخرين  فان إيراد تلك العبارات بما اشتملت عليه من وقائع مقذعة يتضمن بذاته الدليل على توافر القصد الجنائي ولا يعفي المتهم ان تكون هذه العبارات منقولة عن صحيفة أجنبية وانه ترك المجني عليها تكذب ما ورد فيها من وقائع او تصححها فان الإسناد في القذف يتحقق ولو بصيغة تشكيكية متى كان من شأنها ان تلقي في الأذهان عقيدة او ظنا او احتمالا في صحة الأمور المدعاة).

وتقدير ذلك يدخل في نطاق السلطة التقديرية لقاضي الموضوع ليرى ان كانت نسبة الواقعة للمجني عليه قد قللت من احترام الشخص بين أبناء وطنه أم لا.

والمعيار في هذا المقام، معيار ذاتي يتعلق بالقيم الاجتماعية السائدة،وهذه مختلفة من بيئة الى أخرى حتى في الوسط الاجتماعي العام.(10)

ـ تحديد المجني عليه: يستفاد من التعريف الوارد المادة (433) عقوبات ان القذف يجب ان يوجه الى شخص معين بالذات، بحيث يتمكن من يسمع القذف مباشرة او من خلال وسائل الإعلام او النشر من تحديد شخصيته سواء ذكر اسم المجني عليه صراحة او استخدم القاذف رموز او صور او إشارات يمكن ان تدلل عليه ولو من قبل المجتمع او البيئة التي يعيش او يعمل فيها دون عناء او شك، أما إذا لم يكن تحديد شخص المجني عليه ممكناً بالطريقة التي ذكرناها فلا تعد الجريمة متحققة.

ذلك ان محل الحماية القانونية في هذه المادة هو الحق في الشرف الذي انتهكه القذف، باعتباره جزء من حقوق الشخصية.ويترتب على ذلك ان بعض الوقائع لا تعتبر قذفاً فإن انتقد شخص ولو بقسوة مذهباً سياسياَ او اقتصادياً او مدرسة فنية او رأياً علمياً مما يدخل في استعمال حرية التعبير فلا يعد ذلك قذفاً ولو كان لتلك المدارس والاتجاهات الفكرية مؤسسون وأنصار معروفون وذكرهم بالاسم، ولكنه يرتكب جريمة القذف إذا نسب الى أشخاص معينين بالذات من تلك الاتجاهات افعالاً تستوجب العقاب او الاحتقار.(11)

صفة المقذوف: إذا كان المقذوف مواطناً من عامة أبناء الشعب فلا يقبل من القاذف إثبات صحة ما أسنده الى المجني عليه وتتحقق الجريمة إذا توافرت أركانها الأخرى.

أسباب الإباحة: اما اذا كان المقذوف موظفا عاما او مكلفا بخدمة عامة أو شخص ذي صفة نيابية عامة أو كان يتولى عملاً يتعلق بمصالح الجمهور وكان ما أسنده القاذف متصلاً بوظيفة المقذوف أو عمله فإذا أقام الدليل على كل ما أسنده انتفت الجريمة.

ـ القذف الموجه لشخص معنوي وسائر تجمعات الاشخاص:، رغم ان للشخص المعنوي  شخصية وكيان مستقل عن شخصية مؤسسيه وله الحق في السمعة والاعتبار، إلا ان هناك إشكالية في هذا المقام،وتتجسد هذه الإشكالية في التوفيق بين حماية اعتبار الشخص المعنوي،، وبين إتاحة الحق للمواطنين والباحثين من مختلف الاختصاصات العلية والفنية في نقد اداء هذه المؤسسات خاصة العامة منها باعتبار ان ملكيتها عامة وان من حق أبناء الشعب توجيه النقد إلى ادائها بهدف تقويمه وتصحيح مساره حماية للمال العام من الهدر والفساد. ويبدو ان التدخل التشريعي في هذا المقام امراً ضرورياً لحماية القيم الدستورية المتعلقة بحرية الرأي وما يتفرع عنها من حقوق ومنها حق النقد. كالنص على انه (لا يعد قذفاً توجيه النقد إلى الاشخاص المعنوية العامة إذا كان لأغراض البحث العلمي او لتحقيق مصلحة عامة وتم ذلك بحسن نية).

ـ القانون يحمي الاعتبار المهني ولكنه لا يحمي المجد المهني: وهذا ما يذهب إليه اغلب الفقه القانوني، ومفاد ذلك ان من يناقش مستوى اداء شخص معين مقارنة بغيره او بمستوى اداء الآخرين بصورة عامة لا يعد قذفاً بل ممارسة لحق النقد وما تتطلبه الإجابة عن السؤال من أمانة، فلو سأل شخص اخر ولو علانية عن اداء شخص او فنان او طبيب،فأجاب مسلماً للشخص بأهليته في ممارستها ولكنه يناقش مستوى أدائه فيذكر انه متوسط او ضعيف او يقارن بينه وبن زملائه في ذات المهنة ويقرر انه اقل منهم، فانه لا يرتكب قذفاً وانما ممارسة لحق النقد، وتقدير ذلك يعود لقاضي الموضوع حسب ظروف كل واقعة. (12)

3ـ علانية الإسناد: لا يقوم القذف إلا إذا كان إسناد الواقعة إلى المجني عليه إسنادا علنياً في مكان عام بحيث يمكن سماعه من الجمهور المتواجد في هذا المكان،والإسناد العلني يتحقق ايضاً بإحدى وسائل العلانية المرئية والمسموعة والمقروءة.

وتذهب محكمة النقض في مصر بهذا الصدد الى انه: (لا يكفي ان تكون العبارات المتضمنة للاهانة او القذف قد قيلت في محل عمومي بل يجب ان يكون ذلك بحيث يستطيع ان يسمعها من يكون في هذا المحل، أما إذا قيل بحيث لا يمكن ان يسمعها إلا من ألقيت إليه فلا علانية).(13)

ويقصد بالمكان العام، هو المكان الذي يحق للجمهور ارتياده، سواء على وجه دائم او في أوقات محددة، سواء كان ارتياده بدون قيد او شرط او كان بقيود وشروط محددة.

أما اذا كان المكان خاصاً ولو توفر فيه عدد كبير من الاشخاص تربطهم صلة سابقة كاجتماع للأقارب او حفلة عرس خاصة او اجتماع مجلس إدارة شركة او ناد للمشتركين فلا يعد مكاناً عاما ولا تتوفر العلانية المقصودة بالنص . (14)

 

القذف بغير علانية:

نصت المادة (435) عقوبات عراقي على انه: (إذا وقع القذف في مواجهة المجني عليه من غير علانية او في حديث تليفوني معه او في مكتوب بعث به إليه او ابلغه ذلك بواسطة أخرى فتكون العقوبة الحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر وبغرامة لا تزيد على خمسين دينارا او بإحدى هاتين العقوبتين).

ولا يشترط صدور عبارات القذف في حضور المجني عليه، وعلة ذلك ان المشرع لم يستهدف بالعقاب على القذف حماية شعور المجني عليه من ان تجرحه عبارات القذف وإنما هدف إلى حماية مكانته الاجتماعية وشرفه واعتباره الشخصي. (15)

 

ب ـ الركن المعنوي في القذف(القصد الجنائي): ان خطورة المجرم على المجتمع وتحديد مدى العقوبة التي يستحقها تكون على أساس الركن المعنوي للجريمة بصورتيه العمدية والخطأية لا على مجرد الأعمال المادية للجريمة، فالسلوك الإجرامي الذي يقود الى نتيجة واحدة تختلف عقوبته حسب ما اذا كان عمداً او خطئاً، فعقوبة القتل العمد قد تصل الى الاعدام بينما قد تكون عقوبة القتل الخطأ هي الحبس.

ان جريمة القذف من الجرائم العمدية التي لا تتحق بطريق الخطأ، أي انها لا تقوم الا بتوافر عناصر القصد الجنائي وهما العلم والإرادة، أي ان يكون الفاعل عالماً ان الواقعة التي تسبب بحدوثها بسلوكه تشكل جريمة قذف وان إرادته متجهة لاقترافها بالشروط التي نص عليها القانون لتوافرها.

 وفي جريمة القذف فان الواقعة المسندة الى المجني عليه تكون أحدى تكييفين، اما انها تستوجب عقابه او انها تستوجب احتقاره، ويعتبر التكييف بحد ذاته احد أركان الجريمة وحسب القواعد العامة في القصد يجب ان يعلم المتهم انه يرتكب جريمة قذف، والعلم المطلوب هو العلم الفعلي ولا تكفي استطاعة العلم او افتراض العلم، فإذا ثبت ان المتهم كان يعتقد ان الواقعة لا تستوجب عقاباً او احتقاراً، فأن القصد لا يعد متوافر لديه، ويتصور ذلك اذا كان للعبارة التي تستوجب العقاب دلالة اصطلاحية غير معروفة في موطنه او ان لها دلالة عرفية محقرة في بيئة المجني عليه، ولكن المتهم يجهلها لانه لا ينتمي الى هذه البيئة، من ذلك ان المناداة على شاب بعبارة (يا ولد) مسألة طبيعية في العراق الا انها غير مقبولة اطلاقاً في مصر.

 والعلم بتكييف بالواقعة او بتكييفها غير العلم بالقانون لان الجهل بالقانون ليس بحجة، فمن استولى على مال يعتقد انه له ثم تبين انه لغيره لا يعد سارقا لعدم علمه انه يرتكب جريمة سرقة ولم تتجه إرادته لذلك كما لو اخذ شخص حقيبة تشبه حقيبته في مطار ثم تبين انها لغيره، ولا تقوم جريمة قذف او سب اذا كان الفاعل لا يعلم ان العبارات التي أطلقها تشكل قذفاً او سباً ولا تقوم جريمة قذف او سب موظف العام اذا كان الفاعل لا يعلم ان المجني عليه موظف.

والقول ان بأن العلم بالواقعة بانها تستوجب العقاب لا يتطلب من الشخص العادي التبحر في علم القانون ليسأل عن قذف وانما يكفي العلم بان الواقعة تنطوي على مساس بحقوق أساسية للأفراد لا يتصور شخص معتاد ان القانون يتركها دون عقاب، والقول ان العلم بان الواقعة تستوجب الاحتقار يكون بالنظر الى القيم السائدة المعلومة للشخص المعتاد الذي ينتمي الى هذه البيئة.

وعليه لا تتحقق هاتين الجريمتين عن طريق الخطأ،ومفاد ذلك ان الخطأ غير العمدي ولو كان جسيماً لا يؤدي الى قيام هاتين الجريمتين، فمن اسند الى غيره واقعة محقرة جاهلاً دلالتها لا يسأل عن قذف، ولا يسأل عن قذف كذلك من دون في مذكرة خاصة عبارة قذف فاطلع عليها بإهماله شخص وقام بنشرها علانية،وانما يسال عن ذلك من قام بالنشر عند توفر جميع أركان الجريمة.

اثبات القصد الجنائي: بما ان القصد الجنائي ركن من اركان الجريمة، فان محكمة الموضوع تلتزم اذا ادانت المتهم بان تثبت توافر القصد لديه، ومفاد ذلك ان القصد الجنائي ركن في القذف وركن في العلانية، والمحكمة تلتزم بإثبات جميع اركان الجريمة، الا انه حين تكون عبارات القذف فاحشة في ذاتها فانه يفترض توافر القصد الجنائي ولكن هذا الافتراض قابل لإثبات العكس كأن يثبت المتهم انه أراد بعباراته معناً عرفياً سائداً ومتداولاً لا معناها اللغوي في هذه الحالة يجب اثبات الوقائع المتصلة بهذا المعنى العرفي.

اما اذا كانت عبارات القذف غير فاحشة فلا محل لافتراض توفر القصد الجنائي، ومثال ذلك افراغ عبارات القذف في عبارات من المديح او المجاز اللغوي او الاستعارة، فان عبأ اثبات ان المدح او العبارات المجازية كانت بقصد القذف يقع على عاتق سلطة التحقيق والمجني عليه.

وخلاصة القول انه لتحقق جريمة القذف ان تتوفر جميع اركان الجريمة بجميع عناصرها، فان تخلف ركن او عنصر من العناصر انتفت الجريمة لعدم توافر شرائطها القانونية.(16)

ان الركن المعنوي هو اهم معيار من بين عدة معايير للتمييز بين جريمة القذف ممارسة حق النقد كما سنلاحظ لاحقاً.ً

 

الفرع الثاني: مشروعية حق النقد

لا يعتبر قانون العقوبات العراقي ممارسة حق النقد وحرية التعبير جريمة، لان القاعدة وفقاً لمبدأ الشرعية ان لا جريمة ولا عقوبة الا بنص، فلا عقوبة على فعل او سلوك لم ينص القانون على تجريمه، الا ان الإشكالية تتجسد في كثير من الأحيان في صعوبة التمييز بين الفعل المباح وهو ممارسة حرية التعبير وحق النقد وبين ارتكاب جريمة القذف او السب، خاصة والملاحظ ان بعض المحاكم تدخل في موضوع البحث عن اركان الجريمة وما يتطلبه ذلك من إلقاء عبأ الإثبات على عاتق المتهم في الأحوال التي ينص فيها القانون على ذلك قبل تكييف الفعل فيما اذا كان فعلاً مباحاً وممارسة لحرية التعبير وحق النقد ام انه يشكل جريمة من خلال المقارنة بين اركان الجريمة وأركان الفعل المباح وخاصة الركن المعنوي، مما يتطلب إيجاد معايير للتمييز بينهما حتى لا تكون الخشية من إقامة الدعوى وإجراءاتها الطويلة او احتمالية التجريم عائقاً أمام ممارسة أهم الحقوق الدستورية.

في الواقع ان معيار التمييز بين القذف والسب وممارسة حرية التعبير هو من أعمال الفقه القانوني والقضاء لا من أعمال المشرع، لان المشرع وخاصة في ظل النظام القانوني اللاتيني لا يغوص في تفاصيل فروض القاعدة القانونية وهذا من مقتضيات التجريد كخصيصة من خصائص القاعدة القانونية (17) ولا يضع تعريفات إلا ما ندر، بل تعتبر وضع التعريفات احيانا من العيوب التشريعية،خاصة إذا كانت هناك حركة فقهية نشطة باعتبار ان ترك هذه الأمور للفقه والقضاء من عوامل تطوير القانون ومواكبته للوقائع المستجدة في حياة المجتمع وعلى هذا النحو نصت المادة (5) من القانون المدني العراقي رقم (40) لسنة 1951 على انه (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان)، ولا ينكر هذا التغيير في ظل القيم التي جاء بها دستور جمهورية العراق لسنة 2005 مما يتطلب إيجاد قوانين وابتداع أحكام واجتهادات فقهية وقضائية في مستوى ذلك الحدث القانوني والسياسي والاقتصادي المهم في حياة العراقيين.

 فالمشرع في مثل هذا النظام قد يحدد عقوبة للقتل مثلاً ولكنه لا يعرف هذه الجريمة او لا يعدد أركان تحققها ولا يضع معيارا للتمييز بين القتل العمد والقتل الخطأ والضرب المفضي إلى موت وإنما يترك هذه الأمور للفقه وشراح القانون.

ومع ذلك قد يرى المشرع ان هناك ضرورة لتبني اتجاه فقهي معين في التعريف ويضمنه في تشريعه عندما يرى ان دواعي امن واستقرار المعاملات امراً مطلوبا في مجال معين من العلاقات الاجتماعية.

وقد عرف مشرعنا في طار نصوص قانون العقوبات كلا من جريمتي القذف والسب في المواد (433، 434) من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل، إلا انه لم يضع معيارا للتمييز بين هاتين الجريمتين وبين ممارسة حرية التعبير وحق النقد وهو أمر ضروري في ظل توقف الحركة الفقهية في العراق او شبه توقفها، وربما كان ذلك امراً مقصوداً في ظل أنظمة دكتاتورية متعاقبة ترى في أمر إتاحة حرية التعبير وممارسة حق النقد تهديدا لوجودها غير الشرعي اصلاً، فهي اذا مهمة الفقه والقضاء في هذا المقام.

فلو دفع المدعى عليه أثناء نظر دعوى القذف او السب بأنه مارس حرية التعبير التي كفلها الدستور ولم يقصد الإساءة الشخصية، فان القاضي ملزم قانونا بالفصل في هذا الدفع وليس له ان يحتج بعدم وجود نص يعالج هذه الواقعة وهكذا قيل انه لا يجوز للقاضي ان يرد الدعوى بحجة عدم وجود نص لأنه في هذه الحالة يعتبر منكرا للعدالة (18)، حيث نصت المادة (30) من قانون المرافعات المدنية رقم 83 لسنة 1969 المعدل على انه (لا يجوز لأية محكمة ان تمتنع عن الحكم بحجة غموض القانون او فقدان النص او نقصه وإلا عد القاضي ممتنعاً عن إحقاق الحق، ويعد أيضا التأخر غير المشروع عن إصدار الحكم امتناعاً عن إحقاق الحق).

ومن جانب أخر إذا تعارضت أحكام الدستور مع أحكام القوانين فان الدستور هو الذي يقدم عند التعارض لان الدستور هو الذي يعطي الشرعية للقوانين والسلطات او يمنعها عنها، ويزال التعارض بعدة أساليب منها إقامة دعوى الغاء القانون المخالف للدستور او تفسير القانون المتعارض تفسيرا يتلاءم مع الدستور القائم اذا كان ذلك ممكناً، ويكون ذلك ممكناً اذا لم تكن نصوص القانون قد جاءت مفصلة ومتوسعة في التعريفات والأركان ومعايير التطبيق، بما ان نصوص قانون العقوبات العراقي قد جاءت خالية من معايير للتمييز بين جريمتي القذف والسب من جانب  وممارسة حق التعبير وحق النقد من جانب أخر فان تفسير هذه النصوص تفسيرا يتوافق مع الدستور امرا ممكنا.ً

ورغم وجود نصوص صريحة في قانون العقوبات المصري تعاقب على جرائم القذف والسب ونشر الاخبار الكاذبة مع عدم وجود تحديد واضح للتمييز بينهما وبين ممارسة حرية التعبير فقد استقرت أحكام المحكمة الدستورية العليا على تبني معايير للتمييز بينهما تطبيقاً واحتراما للنصوص الدستورية التي تقرر هذه الحقوق، ونأمل من قضائنا ان يسير على هذا النهج في ظل أوضاع دستورية تفوق ما هو متوفر للغير خاصة في نطاق الحريات العامة.

 

الفرع الثالث: أركان وشروط حق النقد

قضت محكمة النقض في مصر بأنه (للصحافة الحرية في نقد التصرفات الحكومية وإظهار قرائها على ما يقع من الخطأ في سير المضطلعين بأعباء الأمر وإبداء رأيها في كل ما يلابس الأحوال العامة) (19)

 ولم يشر القرار إلى نص معين وإنما هو مستفاد من النصوص الدستورية التي تبيح حرية التعبير والمعتقد ومنها حق نقد كل ما يتعلق بالصالح العام.

ولم ترد شروط حق النقد لا في القانون العراقي ولا في القانون المصري، اذ انه مستمد من اعتراف الدستور بالحريات العامة مادام انه لم يقيدها بقيد سوى قيد عدم مخالفة النظام العام والآداب العامة، والمطلق يؤخذ على إطلاقه ما لم يرد دليل التقيد صراحة او ضمنا. وضمن حدود القيد.

إلا ان هذه الشروط يمكن استخلاصها من القواعد المتعلقة بالنظام العام او الآداب العامة او من العرف او من قواعد العدالة لانها متعلقة بأسباب الإباحة لا بالتجريم و يلاحظ ان خلق جريمة او عقوبة يستند الى مصدر واحد هو التشريع حصراً، اما قواعد التفسير وتفسير أسباب الإباحة فيمكن للقاضي ان يستخلصها من مصادر متعددة، وللقاضي ان يلجأ في هذا المقام الى جميع وسائل التفسير وطرقه بدون استثناء ومنها اللجوء الى القياس.(20)

ويستخلص الفقه لاعتبار حق النقد سبب من أسباب الإباحة ايا كانت صفة من وجه اليه الانتقاد، الشروط التالية :

1ـ ان ينال النقد أعمال وتصرفات الاشخاص العامة لا شرفهم واعتبارهم الشخصي:

ويذهب اغلب فقهاء القانون الى ان الحد الفاصل بين ممارسة حق النقد والقذف يتجسد في التفرقة بين توجيه اللوم او العبارات القاسية الى شرف واعتبار الشخص المُنتقد ذاته وبين توجيهها الى عمله وتصرفاته او الى شخصه دون المساس بشرفه واعتباره،وهذه التفرقة هي التي تجد عندها الحد الفاصل بين دائرة النقد الذي يعد ممارسة للحرية العلمية والأدبية والثقافية ودائرة السلوك الذي يعد قذفاً او سباً.

فإذا تناول النقد عملاً او خطة او إجراءات حكومية او مذهباً سياسياً او بحثاً علميا أو عملاً  أدبيا او فنيا، وحدد قيمته، وكان منصباً على الأعمال والإجراءات والأفكار التي قامت او جاءت بها من حيث كشف عيوبها وتفضيل غيرها عليها دون ان يمس ذلك اعتبار او شرف الاشخاص العاملين او القائلين او المؤمنين بها ولو ذكر أسمائهم فان أركان القذف لا تعد متوفرة.

ويورد الفقه أمثلة على ذلك النقد كالقول ان أداء الوزير الفلاني ضعيف او انه لم يكن بالمستوى المتوقع منه عند توزيره أو انه مسئول عن أرواح الضحايا أو أن وزارته فاسدة ويجب أقالته..... طالما أن الغرض منه إبراز وتوضيح هذه التصرفات للجمهور وبشكل يستطيع أن يفهمها ويدرك أبعادها وحقيقتها، فلا تعد جرائم ويترك الأمر لسلطة المحكمة التقديرية حسب ظروف وملابسات كل الدعوى. (21)

أما اذا كان النقد منصب على وقائع تعد لو كانت صحيحة جرائم وفقاً للقانون النافذ فيجب التحرز من ذكر الأسماء لأنها قد تعد قذفاً عند توفر أركانه الأخرى.

فاذا انتقد محلل سياسي او صحفي انتشار الرشوة او الإهمال او عدم الكفاءة في وزارة معينة دون ذكر الأسماء او عدم ذكره لواقعة محددة يمكن للجمهور معرفة أسماء القائمين بها مباشرة فلا يعد ذلك قذفاً او سباً، حتى لو كان الذي أوحى الى الناقد برأيه واقعة معينة صدرت من شخص معين طالما لم يحدد اسمه او لم يجعل تحديد اسمه من قبل الجمهور ممكناً دون عناء،وفي مثل هذه الأحوال. (22)

2ـ صحة الواقعة او الاعتقاد بصحتها:

يفترض في الناقد والمحلل السياسي او الأدبي انه يستهدف المصلحة العامة والتطور الاجتماعي وتقويم الأداء العام والخاص، لا يتحقق ذلك بالغش والخداع وتزييف الحقائق، فالناقد المحايد هو الذي يعرض الوقائع بحسب ما برزت في العالم الخارجي وبظروفها او ملابساتها المحيطة بها.

ومن جانب آخر وحسب القواعد العامة في القصد الجنائي، فانه يكفي الاعتقاد بصحة الواقعة، حتى لو تبين فيما بعد انها غير صحيحة، الا انه يجب في هذه الحالة ان يكون الاعتقاد مبني على أسباب ومبررات معقولة وكان هذا الاعتقاد مستندا الى التحري الواجب على من كان في مثل ظروفه، فيستفيد من الإباحة، ومن أمثلة ذلك انه استند في تعليقه على الواقعة الى ما نشرته وسائل الإعلام من اخبار عن الواقعة محل النقد ولم يصدر تكذيب بشأنها بعد، او ان الواقعة كانت مشهورة ومعلومة لدى الجمهور، وسند ذلك انه لا يمكن ان يطلب من باحث ان يضمن بصورة مطلقة صحة ما يذكر او صواب رأيه في كل الأحوال، لان ذلك غير ممكن في الحياة العملية في كل الأحوال فقد يكون من العسير او من المستحيل على الباحث في مجال اختصاصه ان يبدي رأياً لا يكون محل نقاش قط، فيكفي انه بذل ما في وسعه لتحري الحقيقة وادى واجبه تجاه المجتمع مما يستحق معه إباحة فعله، ولا تنتفي الإباحة اذا ثبت فيما بد عدم صحة الواقعة او عدم سداد الرأي كما سبق البيان، فأساس الإباحة هو الاجتهاد في خدمة المجتمع وهو ما ثبت تحققه. وهذا الأساس للاجتهاد الذي يقبل الصواب والخطأ معترف به ومحمي من الشريعة الإسلامية الغراء، فقد روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم انه قال: (من اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد فأخطأ فله اجر)، ومن هذه الروح الإسلامية الخالدة التي شرعت أبواب العلم والاجتهاد ينطلق القاضي لتقدير قيمة الاجتهاد في النقد.(23)

3ـ ان تكون للواقعة محل النقد والدراسة أهمية اجتماعية:

للنقد أهمية اجتماعية وهذه هي علة أباحته، وهو لا يكون كذلك الا اذا تناول اموراً تهم ابناء المجتمع ويعرفون قيمتها وأبعادها، ولا يستفيد المجتمع شيئاً اذا تناول الناقد الحياة الخاصة للآخرين بل ان ذلك قد يشكل اعتداء على الحياة الخاصة للأفراد باعتبارها حق من حقوق الإنسان.

ولا يشترط في أهمية الواقعة انها متصلة مباشرة بحدث سياسي او اقتصادي قائم وقت النقد، وانما يكفي انها موجهة لعدد غير محدد من الناس بقصد تحقيق فائدة او مصلحة لهم.

ومن الأمثلة الفقهية على ذلك تناول أعمال أصحاب المهن التي تتصل أعمالهم بمصالح الجمهور كالأطباء والمحامين والمهندسين والتجار وكل من يحمل صفة اجتماعية عامة بالنقد، ومن ذلك القول في معرض النقد ان الباحث الفلاني لم يتبع المنهج العلمي في البحث او انه لم يعتمد على مصادر موثوقة، او القول ان الطبيب او المحامي الفلاني يغالي في أجوره او انه يعامل زبائنه بطريقة غير لائقة، وكذلك الحال عند نقد إعمال وتصرفات وأقوال وأداء وآراء الشخصيات التي تعمل بالسياسة، فهذا النقد مفيد للمجتمع كما ان حق الرد عليه متاح.(24) 

4ـ عدم التعسف في استعمال حق النقد:

لا يجوز التعسف في استعمال حق النقد ولا الخروج عن حدود مقتضياته، فينبغي ان يلتزم الناقد بحدود النظام العام والآداب العامة، لان النقد من أعمال الثقافة والتحضر لا وسيلة للهجوم والانتقام من الآخرين، ولا يبيح حق النقد استعمال عبارات اقسى مما تتطلبه مقتضيات تحليل الواقعة وتقيم اداء المنتقد، ويفهم من أحكام محكمة النقض في مصر ان معيار ملائمة العبارة هو ثبوت ضرورتها لتعبير المتهم بحيث لو انه لو كان قد استعمل عبارات اقل عنفاً لم تكن فكرته لتحضى بالوضوح الكافي،أو ان رأيه لن يكون له التأثير الذي يهدف اليه، ومن عناصر الملائمة ثبوت التناسب بين العبارة من حيث شدتها او قسوتها وبين الواقعة و موضوع النقد من حيث أهميتها الاجتماعية.

وقاضي الموضوع هو المختص بتقدير ملائمة العبارة، الا انه لا يجوز للقاضي ان يضع في هذا المقام قاعدة عامة مؤداها ان تكون العبارة رقيقة هادئة، ففي حالات كثيرة يقتضي المقام استعمال عبارات قاسية، فإن ثبت ذلك  فلا يكون الناقد قد تعسف في استعمال حقه.(25)

5ـ توافر حسن نية الناقد:

يستفاد هذا الشرط من القواعد العامة للإباحة، وحسن النية مفترض لان الأصل في الإنسان حسن النية، وعلى من يدعي خلاف هذا الأصل ان يثبت ذلك. وأساس حسن النية ان يعتقد الناقد بصحة الواقعة التي يسندها الى من وجه اليه الانتقاد وان يكون هدفه من النقد تحقيق المصلحة العامة لا مجرد التشهير أو التجريح، ومن أهم القرائن على سوء النية وتحقق نية القذف استعمال عبارات قاسية من غير مقتض وعدم تناسبها مع الغاية التي يستهدفها بنقده، ولا يشترط استخلاص سوء النية من عبارات المقال او البحث ذاته، فيمكن استخلاص من مصادر اخرى كحصول تهديد من الصحفي و الباحث للمجني عليه قبل نشر المقال ومطالبته بمبلغ من المال لقاء عدم نشره.

ومن جانب اخر للناقد أن يتمسك أمام محكمة الموضوع بالدفع بتوافر حسن النية في ما قرره من عبارات نقد وان يوجه أدلة الإثبات وان ينفيها وان يدلل على حسن نيته بكافة طرق الإثبات.(26)

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1321 الخميس 18/02/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم