قضايا وآراء

الجمال فن وأخلاق

والجمال ينقسم إلى روحي وآخر مادي، فالجمال الروحي حالة باطنية عميقة تعبر عن الراحة والسكينة وعن تبدد التوتر وإبصار عناصر العالم من رؤية جميلة ... فتكون النفس كالسماء الزرقاء، وقد انقشعت عنها سحب القلق والحيرة ... فهذا الإحساس الجميل يعبر عن تطهر الإنسان من مؤثرات الحياة السلبية وتطهره من الأحقاد والشرور فصار سليم الذمة، متحررا من العقد، فلا يفعل إلا ما يمليه عليه ضميره، فهو صاحب خلق جميل وقوة باطنية تتغلب على آليات عقله الباطن المهدمة .. الجمال إذن مقدرة على مقاومة النفس التي تأمر بالقبح، فهو يقترن بالفضيلة وعذرية المشاعر التي لم تلوثها تفاصيل الحياة المادية . وهو يؤسس لذات متماسكة تستمد خطواتها وعزمها من ثقتها بنفسها . فتلك الذات زرعت، فصارت خصبة ومثمرة ومتزايدة العطاء . وهو يستأصل كل آلية تجرد الإنسان من الإحساس الفني . فالجمال فن لأنه يحمل الذات إلى مواطن بديعة تفتح قريحته، فتتصور وتنفعل بعناصر الحياة الجميلة وتعبر، فبهذه الحالة تحس النفس أن وجودها نعمة وليس نقمة، وتؤسس لمقولة : " الجمال إحساس أو لا يكون " .... أما الجمال المادي فهو منحوت على صفحات الطبيعة وسطورها . هو يعلن عن نفسه دون مشقة أو أقنعة أو مساحيق . فهو معبر بذاته عن ذاته . والعين تبصره بوضوح، والنفس تتوق إلى جوهره ....

 

يقول لورانس: "الروح الإنسانية تشتاق إلى الجمال الحقيقي وتحتاجه أكثر من شعورها بالحاجة للخبز" ....

 

الجمال جبلة في الإنسان ما دام يمتلك عاطفة .... فقلب الإنسان منير وجميل وهو مركز الجمال ونواة النور .. يشع في النفس فتضحى مطمئنة، ترنو إلى الرقي الروحي وتتغنى بكلمات الحب والأمل فيكبر في الأنسان حلم الآتي المشرق رغم  وهموم الحياة، إذ يستحيل هذا القلب إلى نافورة الحياة العذبة ... كيف لا وهو القلب الموسيقي الذي يعزف " أغاني الحياة " ويهز خلجات النفس عبر ايقاع الشعر ... ويتغنى بالحرية والآتي ... والعاطفة متى تجلت تجعل الإنسان يحس بمعنى الحياة ونكهة الوجود السعيد فيتذوق الحياة بقلبه ولا يجدها رتيبة أو مظلمة ....

 

الجمال إحساس يتركب من صور وخيال، ويعبر هذا الإحساس عن رغبة في تجاوز الواقع . فصور الواقع الخارجي مركبة تركيبا موضوعيا، خارجا عن ترتيب الذات الخاصة وتنسيقها، لذلك فهي تبدو غير مريحة ومملة، لا تشعر الذات بالجمال الحقيقي ولا تستحوذ على العاطفة . والفنان خاصة ينبذ هذه الصور لأنها تخلو من كل عمق وكن كل ضوء ومن كل روح فنية جميلة، فهي لا تمثل سوى غشاء لأعماقه وستار سميك يشعره بالاختناق، فينسلخ الخيال عن الواقع المجمل بالأصباغ والمساحيق وجماله اصطناعي، ويتخيل صورا جميلة تجعله يتخيل صورا جميلة تجعله يعيش بأريحية ويحس بجدوى حياته، فهو لا يوجد إلا بذلك الإحساس الجمالي .

 

الواقع مر، والتخلص من الشعور بالمرارة يترتب العودة إلى عناصر النفس وإعادة خلقها بصور منسجمة .... وبذلك يكبر الأمل في تغيير الصور المجحفة لأنها تبلور ديكورا غير مريح بألوانه وتركيبه، ويحلم الفنان أن يرى الواقع على شاكلة صوره حين يتجه الخيال نحو عناصر النفس لإعادة صياغتها . فهذه النفس المشتقة سماتها من عناصر الواقع يعيد خلقها باطنيا ليشعر بالمعنى الحقيقي للأشياء، فيكبر الحلم، الحلم هو اللاوعي الخلاق الذي يبعث الجمال ويشيعه في النفس، كحالة داخلية تتعارض مع اللاوعي العقيم وحالة العقم النفسي .

 

والفنان الحقيقي هو الذي يفجر إحساسه الجمالي ويرسمه بحلمه، ففي الحلم يركب الإنسان أحداثا ويعيد بناء الصور والوقائع انطلاقا من تركيبته النفسية، فيطغى تركيب الصور تركيبا ذاتيا في حالة الانقطاع الجزئي، أما حلم الفنان فهو الذي يتبلور في حالة اليقظة، لأن ملكة التصور هي التي تكون بصدد بناء عالمه الداخلي، لتنجلي الذات عبر هذه الصور التي تمثل لغة العمق ورسومه وأشكاله . وهذه الصور تتجاوز الواقع إذ تعبر عن معاني الإنسان الكامنة فيه، وهي معاني الحياة والأمل والحب والسلام . هذه المعاني متى أدركها، أقصى القبح وتجاوزه نحو حالة نفسية صحية تجسد كل معاني الجمال .

 

الجمال يفتن القلب، فيتبدد الوهم وتنجلي قوة المخيلة وهي تنتزع المعاني من الصور المحسوسة، فتصير ظلالا للفكر . والجمال يقع تذوقه بالقلب، والفكر أيضا، لكنه الفكر الغير مجرد من العاطفة، لأن الفكر في غياب العاطفة يعبر عن إنسان غير حقيقي في أعماقه، وهو جاف ولا يملك بين طياته إحساسا جميلا بل يتوهم بأنه بصدد تدوق الجمال ....

 

القلب هو مركز الإحساس الجمالي لأنه يتكون من طاقة تقهر الألم، ليستحيل الألم إلى أمواج تنكسر على الصخر الشامخ، لذلك فالجمال إبداع أو لا يكون .. إن القلب الجميل يرفرف على النفس من كل الجوانب والمرايا، ويجد في الرموز الفنية ظلالا لهذا الجمال الذي يدرك كنهه عبر الإحساس . فلا يمسك الفنان نواة معاني الجمال الا عبر الحب .. الحب هو المتعة المعنوية الخاصة، عن طريقه يتذوق الجمال، وهو مركز السمو الروحي، لذلك لا يبرز الجمال إلا بالكلمات والسلوكات المنمة عن ذوق ورفعة .... ينعكس الجمال على رموز المعنى فينصهر الاحساس الداخلي ويتجلى ككلمات المطر فيها طراوة، والبلل هو السمة التي نصف بها الليونة، لأنها من أخصب اللحظات، ففي تلك اللحظات يكون الفنان في طور اكتشاف المعاني البكر، فيحس بعذرية المعاني ...

 

الجمال ذوق يجعل الإنسان يستشعر الليونة عند تعامله مع عناصر الحياة، فيسعى إلى تشكيلها من جديد، ويبعث فيها إحساسه الجمالي، ليضفي عليها رونقا، وإذا استحوذ على ماهية الجمال، يتدفق ويلين بسهولة، ليونة الصلصال والطين لدى النحات، فيشكله بأشكال متنوعة، وليونة الحروف التي تفوح من قلب الشاعر حين يعيش حالة الرؤيا، فتستجيب الأوزان لايقاعات النفس، وتنصهر في الزمن النفسي، وليونة الألوان التي يمزجها الرسام وهو يحس بقدرته على تصوير الخطوط والصور وامتزاج الألوان بقدرة خارقة ... وتوليد هذه اللحظات الفنية اللينة تستشف في حالة واحدة وهي حالة تجلي الأعماق، وعبره يتدفق معنى الحياة عبر شحنة معنوية خارقة، فالجمال يعبر في نهاية الأمر عن كل فنون العمق الإنساني ....

 

والغموض هو الحالة التي تدفع الفنان لتشكيل المعاني بمثل تلك الليونة، ففي الغموض جمال، لأنه شيء غير عادي يدفع نحو التساؤل الذي يستفز ذات الفنان، ويستدرجه نحو إدراك ذلك المعنى العميق . لذلك يعيش الفنان بدوره حالة الغموض الذي لا يعدو أن يعبر سوى عن المخاض الروحي، كيف لا ونفسه حبلى بالمعاني ؟ هو يجد في الغموض شيء غير عادي، لأنه يريد ان يعبر بجاذبية ذلك الغموض، الغموض المولد للحظة الإبداعية، الذي يستخرج ذلك المعنى الذي شد الذات وجذبها ....

 

عبقري ذلك الجمال لأنه يعبر عن شكل من أشكال تجلي الذات، فليس الجمال ذلك المعنى المشتق من تراتيب الواقع الموضوعي، الخارج عن الذات المبدعة والفاعلة بل جاذبية تتجلى عبر الغموض المثير .

 

وبالقلب أيضا يعشق الإنسان الجمال الظاهري بعدما تذوق الجمال الباطني، لأن إدراك الجمال الظاهري عبر الحواس هو تصوير لمعان القلب الجميل، فالجمال إحساس عاطفي يتجسد عبر الأعمال الفنية والسلوك وهو يعبر عن ذوق في التعامل مع الأشياء ... إذ يجد هذه الأشياء مبعثرة ولا تنسجم مع معاني الجمال التي يزخر بها، فيعيد ترتيبها وتركيبها حسب مزاجه الفني وطريقته الخاصة في التعامل مع عناصر الحياة لأن الجمال ذوق يتبلور حسب صياغة صور فنية جميلة، يستجيب لها الاحساس المشترك للبشر ... ويكفي أن يراقب الإنسان طلوع الشمس حتى يدرك معنى الجمال المرسوم في لوحات النفس بألوان حيوية ومتدفقة، ويدرك أن الجمال ينبلج من كوة النور والضياء، ليتحيل الجمال إلى ظل لتلك اللحظات التي يتحد فيها القلب مع القلب، فيستحيل إلى فيض من المعاني المتجسدة ....

 

وتذوق الجمال يرتبط بالإطار الذي يوجد فيه الإنسان، وهو يتكون من الأشخاص المحيطين به، والمكان ... وقد يوجد هذا الجمال في " صخرة أ شجرة أو إنسان "  ... فالجمال في هذا الاطار موضوع ولم يتحول إلى عمل فني، لأن الخلق الفني ضياء يلتبس بالنفس وينصهر بأشكال الطبيعة وألوانها ... في هذه الحالة يستحيل الجمال إلى إحساس فني، فهو فن انبثق عن العاطفة ، وهو حرية تتجلى رمزيا عبر تجسيد الجمال الباطني ... هكذا هو الإنسان مشرق بجماله . والإحساس الجمالي يدفع الفنان للانفعال بالمشاهد التي تثيرها قبل أن يجسدها في عمله  ، إذ يستجيب لها تلقائيا ويكشف عن معاني ذلك الجمال العميق، وهو لن يتذوق الجمال الظاهري دون أن ينجلي كمون القلب، الذي يستحيل إلى آداة للمعرفة الحدسية، وبتلك المعرفة تتشكل الصور ويتبدد الغموض، لذلك فالجمال الباطني قادح لإدراك الجمال الأعظم والأوسع، حيث يصير الجمال كجنة آدم، وتصير روحه بلورية شفافة ترى الأشياء بوضوح .....

 

يستحيل الجمال حقيقة ملموسة، كلما تراءت في الأفق سحابة، بعد ظمأ الحرف للروح، وشوق الأرض للخضرة والزرع . فقد تجسد الجمال على وقع زخات المطر، فغطى ربى الإحساس وكساه بالبهجة، فتلاشت ستائر الصمت، وتدفقت أجراس الشعر ترسم لوحة رائقة . فالجمال شعلة أخاذة  تفتن الوجدان لأنه اكسير الحياة الذي يتدفق في الشرايين  كالسيل الذي يغمر الأرض ويعدها بثوب الجمال الملون كلوحة فيسفسائية رسمتها ريشة الإبداع في الزمان الغابر . وهنا تراءت لوحة أرضية خلدت في مرآة الفن . وهكذا استحال الجمال حقيقة تشكلت عبر الحجارة الملونة .... ليبقى الجمال روحا بديعة تشد للنفس العميقة فتكسيها بتراتيب الفنون ..........

 

الجمال ضياء يشع على النفس كالشمس، وقبل أن يتسلل إلى الأعماق تكون الروح معتمة كالدجى إذ يزحف هذا السواد على الروح فيعتمها وتصير لوحته القاتمة مرآة للألم المنهك . فمرايا الألم سوداء كالليل الدامس . وإذا امتلك الإنسان ضوءا خافتا يقاوم هذا الليل الواجم ...

 

الجمال الروحي يعبر عن عذرية الأحاسيس وعن منتهى الفيض العاطفي ، وفي حالة الإحساس به يعيش الإنسان حالة النقاء والصفاء، والنظر للأشياء من رؤية مدهشة، فهل ينبلج الإحساس بالجمال من خلال سبك معاني الحياة عبر الحركة الباطنية الخلاقة، التي تضيء الحقيقة الكامنة في أعماق الاشياء والتي لا يقع التسليط النور عليها دون الوعي بها في أعماق الذات الإنسانية، إلا أن معاني الحياة لا يقع خلقها وتوليدها دون عيش حالة المعاناة الكثيفة إزاء افتقاد الأنسان للجمال الحقيقي : فكيف يفتقد الإنسان للجمال ؟ إن مجرد النظر إلى الأشياء القبيحة تحدث لديه ذلك الصخب الداخلي، والحنق على مشاهد القبح، فينقبض فؤاده ... ذلك أنه لا ينظر إلى المشاهد الحارجية بقدر ما ينظر إلى روحه المعتمة ... وإلى عناصر نفسه التي عبثت بها عناصر العالم الخارجي ، وفي تلك اللحظات يعي أن الإحساس بالجمال لا يستطيع إدراكه دون امتلاك البصيرة ... كما يدرك أنه يفتقد للعمق الكافي الذي يحيله إلى عوالم الجمال المثيرة، وهي عوالم عبقرية . ورغم أن الإحساس بالجمال الحقيقي ينتاب الروح في لحظات خارقة، إلا أن الجمال الروحي يولد من العناصر المحسوسة . فالشيء الجميل يحس به الإنسان من خلال رؤيته . والصورة في هذا الإطار قادح لتأمل الجمال الباطني رغم أنها مجرد موضوع  . فللجمال الظاهري انعكاس على الأعماق ... لذلك وجب البحث عنه ... فهو عبارة عن تطابق الصورة الجميلة مع المعنى الجميل لأنها ترسخ في الأعماق وتطبع في طياته . وتستحيل إلى موضوع خام للتعبيرعن الجمال الباطني، وبذلك لا تعبر الأحاسيس الجميلة الروحية عن ذاتها بل تحتاج غلى الصور الجذابة ... لكن الإحساس بالجمال يحتاج دائما إلى مقدرة، فهو ينبلج من العمق .... وهو اعتمالات باطنية تنفذ من اللاوعي الخلاق ... وبالتدريج تكبر مقدرة استكشاف الجمال الباطني ... وعن طريق الجمال يقوم الفنان بتعرية الحقائق من الأقنعة والأوهام ... بل تتلاشى كلما انتعشت نفسه وصارت أكثر خصوبة وكلما باغتته لحظات الإلهام .....

 

في إحدى المناطق الجبلية شدت انتباهي ضخرة منحوتة تجسد عبقرية الفن، فتساءلت : ترى هل فجرتها القوة الإبداعية الكامنة في الإنسان ؟ أم صاغتها الطبيعة عند وعيها الذاتي بأعماقها ؟ وفي الحال أدركت أن الطبيعة جميلة قبل أن يبدعها الإنسان، إذ لم أجزم أن مهارة البشر قد نحتتها، فالفن الكامن في الإنسان هو الفن الكامن في الصور الطبيعية .... والإنسان لا يطلب متعة الإحساس الجمالي إلا إذا افتقد مواطن الجمال، في حين أن الطبيعة تهب هذا الإحساس اللذيذ دون مقدرة . وهذا يعني أن كل معاني الجمال كامنة في الطبيعة، والطبيعة هي الأصل والبداية والرمز ...

 

وإدراك جمال الأشياء يأتي من خلال الإدراك الروحي، وعند الشعور بالغاية التي تجسد تصور جدوى الوجود وتقصي حالات العبث، لذلك انعدمت قيمة الإحساس الجمالي لدى العابثين لأن حياتهم خالية من المعنى ... شخص يحس بالقبح، نفسيته قاتمة وأخلاقه سيئة ، وكثيرا ما يتحول إلى شاذ ومنحرف ... ولا يمتلك عاطفة ولا شفقة .. لأنه يرى صور الحياة قبيحة، فهو قبيح النفس، ولا يحس بصور تفتح قريحة البهجة والمتعة في أعماقه ......

 

إن النفس الإنسانية التي تضيئها شموع الجمال في إطار حالم، يبعث هسيس الحياة ويضفي رونقا وبهاء ويرشها بعطر الجمال المضمخ بالعاطفة ... إن صاحب النفس المضيئة يحب الطبيعة لأنه يقرأ فيها المعاني والأوزان والحركة والشعر والموسيقى والرسم والرقص والنحت . فالبحار والرياح كائنات تصدر موسيقى  وتطرب بالموسيقى ... هذه الكائنات ترقص على ايقاع ألحانها، وتلك هي صور الحياة التي يعيها الإنسان من خلال العيش بطريقة فنية جميلة . فالإنسان الذي لا يمتلك موسيقى في باطنه روحه معتمة كالليل كما ذكر شكسبير، ويقدر على ايذاء نفسه وايذاء غيره ... والإنسان لا يكتشف معاني الجمال إلا من خلال الإبحار في أعماق الأشياء المحيطة به ... فهي منبع الإلهام ....

 

نحن نشعر ثم نرسم بالفن، ثم نزرع أمانينا في البحر لنكتشف الغموض والامتداد ونعيش حالة ذهول عميقة ... قد نكون فراشات تحلق أو كالنحل تنهل من شذى الزهور كي تتلاقح الكائنات ... فأيهما غاية الحياة ؟ خلق الشهد أم تلاقح الكائنات ... إن الجمال كينونة كامنة تنبعث من خلال العزف على أوتار الامتزاج والانصهار ... فهناك بهجة خاصة لا يعيها إلا من حاول أن يفهم مقتضيات التجربة الفنية . فمن يرسم صورة فنية تنتابه عوالما من الكائنات المجردة، تتلبس به لعبر عنها عبر الرموز ... ويصبغ تلك الرموز بأحاسيسه ورؤاه ... إذ يخرج تلك الرموز معاني الجمال من طور الكمون إلى طور التجلي ... وعبر هذه الكائنات الجمالية المجردة ... فالفنان لا يفيض رقة إلا ليقتل الحقد الدفين الراسب فيه، ولا يعبر بفنه العميق إلا لكي يهذب نفسه ويروضها وفي ذلك تجاوز للقبح الأخلاقي ....

 

في حالة الإحساس الجمالي يكون الإنسان منشرحا إذ يحس بطعم لذيذ للحياة ... فالحياة الخالية من هذا الإحساس الجميل كريهة .... ولا طعم لها ... الإحساس الجمالي غامض، يحس به الإنسان وقد يرسم ملامحه عبر تجربة فنية جمالية عميقة ... يحس به، ويتمثل له، يرعى المخيلة، ويحيل إليها الكثير من الايحاءات ... فتصير الحياة كالحلم في لحظات الإحساس الجمالي ... تذوب القيود وتنمحي المسافات، فتحس الذات بالعظمة وكأنها امتلكت العالم واحتضنته ....

 

كل إنسان فنان بالفطرة ولكن القادح الوحيد لتجلي الأعماق هو الحب، فمن غير عاطفة لا يمكن تذوق الحياة ولا يمكن أن تختار الألوان كالوردي والأخضر والأبيض والأزرق .... بعيدا عن لون الأسود، لون الحقد، الكراهية، التوترات، القسوة وضغط الأعصاب ... هكذا يرى الإنسان نفسه رائعا، هادئا ومحبا  للحياة والآتي المشرق . لذلك في حالة الشعور بالكآبة، ينصح أطباء النفس المريض بالراحة في مكان طبيعي كالجبل أو الضيعة ... إن تلك الأماكن الجميلة تشعره بالصفاء والنقاء النفسي وتخلصه من الضغوط، وتعيد إليه صور الحياة العذراء، الجميلة، المتطهرة من كل دنس . تلك هي طبيعة الإحساس الجمالي .  فهي تشعرنا أن الحياة موسيقى وحركات عميقة ... ورسم إنها العودة بالروح إلى طبيعتها الكامنة ... إنها صور جميلة، تنير درب الإنسان ....

 

يقول الشابي : " إن سحر الحياة خالد لا يزول " فالجمال بمثابة السمفونية، تتسلل إلى باطن الإنسان، فتحيي ملكة ذوقه، وتفتح قريحته على سحر الشذى وطراوة الندى . إنها تمتلك لب الإنسان، تستحوذ على مشاعره، فتفتق أحلامه الكامنة، وتنعشه برغبة البقاء من خلال رغبته في تسلق دروب الجمال . وهنا تكمن جمالية الحياة . وهنا تكمن جمالية الحياة لأن قادح الإرادة يتأتى من خلال الإحساس المرهف والشعور المسيطر، وذلك لتحسس كل مناطق الجمال في أعماقه .....

 

الصدق الباطني غالبا ما يحركه دافع عاطفي إذ يكون الإنسان صادقا مع مشاعره وأحاسيسه، ذلك التفاعل العاطفي، قادح لبعث الإحساس الجميل في أعماق الإنسان، إذ يتحرك فيه ذلك الحب بمعناه الراقي ... إنه ذلك الحب الواسع الذي تنصهر فيه ذرات الوجود في كيان الإنسان ... العاطفة الإنسانية بهذا المعنى لا ينعشها غير رؤية الجمال المحسوس لأنه يؤدي للجمال الروحي دون أن يكون هذا الجمال الباطني صورة فوتغرافية مطابقة له ...

 

الإنسان الذي يشعر بالجمال الروحي يكون مفتونا بالذات الكامنة فيه . فهو يعشقها، يشكو لها همومه، فتواسيه، وتمده ببلسم الشفاء، فيكتب بلغته الفنية صور العالم الجميل والمستقاة من جمال الكون وجمال الطبيعة، فيتحسس منابع العطاء ويلتحم عمقه بالجمال المادي . فيشعر برغبة في زيارة الأماكن الزرقاء ( البحر ) والخضراء ( الطبيعة ) . فالجمال طبيعة زاهية بجبالها وهضابها وسهولها ... العشب الأخضر والأشجار اليافعة ... بكل الألوان المشعة في الحقول ....فحين ينظر الإنسان لهذه المشاهد يحس انه ترك عبئا ثقيلا وراءه، ويتمنى في قرارة نفسه أن ينصهر في عناصر الجمال ليحلم ويتخيل إلى الأبد . الجمال الطبيعي يهدأ النفس وينتشل الإنسان من فوضاه ويدخل البهجة على النفس ....

 

" إني أحس بسعادة حقيقية عندما أتنزه في الحقول غذ أحس بنشوة وأنا أرمق المناظر الطبيعية الخلابة التي رسمتها ريشة عبقرية . أنعتق في تلك اللحظات من كل شيء .. أنظر إلى الماء الجاري الذي انعكست عليه أشعة الشمس فينساب لماعا في منظر يخطف الألباب من مواقعها ... وأنظر للأراضي الممتدة والروابي المتراكمة . وقد تمايلت عليها الأشجار التي حركها الهواء اللطيف ... لا أدري كيف ينتابني الإحساس بالجمال ساعتها . فأتساءل : هل لأنني أميل للأصل والبداية والبساطة ؟ أم لأن الطبيعة تغري بومضات جمالها ؟ ألهذا الحد أجد صور الجمال التي لم أجدها لدى البشر ؟ فالإحساس ينبثق من أعماق الشيء لا من ظاهره . وجمال الطبيعة ينبثق من طبيعتها الجميلة .... إن الإحساس بالجمال ينبعث من صميم الأعماق المنشرحة ........

 

الإحساس الجمالي حسب رأيي ينبثق من المشاهدة، ولا يولد لدى مشاهدة، فلولا الصور الحياتية الجميلة، لما تفتحت قريحة الإنسان، ولما ولج أعماقه ليشعر بذلك الإحساس الجميل، أما أن يولد ذلك الإحساس دون تشبع الذات وانفعالها بالصور الجميلة . فلا يمكن وصفه بالإحساس الجمالي ... الإنسان الذي يفصل الإحساس الباطني عن الجمال الظاهري ... يرى الأشياء وأصداء صورها ... وهو إنسان حالم يحاول تحقيق الصفاء الوجداني دون أن يؤمن بوجوده الحقيقي ... إنه يريد الإحساس بالجمال دون أن يكتب حروفه . لذلك فإن سيكولوجية الفنان تقر أنه الأكثر تشربا بمنابع الجمال إذ يستحوذ عليه بصوره الكثيفة، فينبثق إحساسه عبر التعمق في أغوار الأشياء الظاهرة والمثيرة وذلك بكسر العمق النفسي عبر قدرة خلاقة وحركة مبدعة ..

 

أما الشخص الحالم فهو يعزل الجمال الظاهري عن نفسه ويصبح الجمال متجسدا في الصور المتعالية، فيتخيل مناطقا جميلة في أعماقه دون أن يتفاعل مع العناصر الجمالية المحسوسة ويصور عالما باطنيا حقيقيا دون أن يشعر أن أعماقه حقيقية . فهو كمن يعيش نشوة صوفية، ينصهر فيها الزمن، فيتعمق في جوهر وجوده، وكأنه بصدد رسم معالم ذاته بألوان خريفية ... تعبر عن فناء العمر حين يحس الإنسان أنه بصدد توديع جسده . مثل ذلك الإنسان الحالم كموسى العسكري في رواية "اليوم الأخير" لمخائيل نعيمة إذ أحس في الساعة الخامسة بنشوة تحاكي هذا الإحساس فتوغل في عالم الخيال الرحب لكنه بقي أسير الظلام والشجونالتي لم تودعه بعد ...

 

ولو جال الإنسان بنظره إلى الصور الرائعة المتجسدة في الكون، لما اكتشف طيات عمقه ... وهذا يعني أن كل شيء وهب لنا ليعيد لنا اعتبارنا أمام ذواتنا وليعيد تنسيق النفس بعناصر جذابة . فلولا البحر لما اكتشف الانسان في طياته طبيعة الحركة التي تخرق الجمود وتدعوه للإبحار في أعماق الذات، فيستمد شجاعته وجرأته ليقتحم البحر رغم أنه يعلم أن عاقبته ليست مأتمنة الجانب . ولولا السهل الأخضر لما حفز لنيل ثمار وجوده، ولما استشعر ندى خصوبة حياته وقيمة عطائه .. فالجمال "قراءة السر العلني في الكون " ........

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1323 السبت 20/02/2010)

 

 

في المثقف اليوم