قضايا وآراء

نظريّة الترجمة من منظور "كارمن جاردن أنيلو"

كالانتماء إلى عرق محدد، أي اعتبار في تشكيل نظم المعرفة والمفاهيم المنبثقة منها، وذلك بالقياس إلى تلك العوامل التي تشكل الإطار الذي ينشأ فيه الفرد.

وهو ما يعني أن الإنسان يولد غير مزود بنظم المعرفة تلك، وأن الثقافة هي التي تخلق تلك النظم، وتمدها بأسباب النماء. هذا التوجه سيؤثر في معنى الترجمة ومداها.

أما المنظور العقلاني الشمولي، فيتعارض مع النظرة النسبية في النظر إلى الترجمة، من حيث تأكيده مفاهيمَ، مثل: الحتمية السيكولوجية والبيولوجية، والفطرة، والمجانسة بين كل النشاطات والمفاهيم الإنسانية، مع عدّ الفروق والتنوعات أقل أهمية من الإطار الجامع. وهذا المنظور الشائع في الترجمة وَجد من يتبناه في حقل اللسانيات وثيق الصلة بالترجمة.

يعدّ نعوم تشومسكي أحد المدافعين عن هذا المنظور، وقد اتضح رأيه هذا جلياً في الخمسينيات من القرن الفائت، عبر نظريته عن السمة الفطرية ودورها في تحديد القدرة اللغوية. يقول تشومسكي في هذا السياق إن ما يزيد على أربعة آلاف لغة اليوم تتضمن -على نحو لافت- تماثلاً في بنية اللغة أو في نحوها، رغم ما بينها من الاختلافات الفونولوجية والكتابية، وهو الأمر أو السبب الذي يجعل الترجمة في رأيه ممكنة.

إن اختيار أحد هذين المنظورين الفلسفيين سينعكس اختلافاً كبيراً على عمل المترجم. لأن المترجم الذي يتبنى المنظور العقلاني الشمولي ملزَم بأن يتتبع الحقيقة في النص وينقلها إلى نص آخر، منطلقاً في اتجاه واحد من النقل أو التحويل الترجمة . ولما كان متلقي النص المترجم النص الهدف يشترك مع قارئ النص في اللغة المترجم عنها لغة المصدر بخصائص بيولوجية وسيكولوجية، فإن المترجم لا ينبغي له أن يجد -من منظور العقلانية الشمولية- صعوبة في تأويل النص المستهدف بالترجمة، حتى لو تضمن ذلك النص إشارات إلى وضع أو خلفية ثقافية مختلفة.

على ذلك، فإن الاختلافات في السياق ستكون محددة بالبنية البيولوجية والنفسية للقارئ في اللغة المصدر، وفي اللغة الهدف. وفي هذه الحالة يكون عمل المترجم في جوهره شأناً لغوياً بحتاً.

يختلف عمل المترجم إن هو تبنى منظوراً نسبياً، مع أن النص المترجم هو ذاته. فرغم أن المرء قد يسلم باشتراك قراء النص الأصل والنص الهدف بخصائص بيولوجية ونفسية واحدة، فإن اختلاف تلك الخصائص في المستوى المعرفي احتمال قائم جداً، مما يعني أن التركيز ينصبّ هنا على ما يشترك فيه القراء، لا على ما يختلفون فيه من استراتيجيات التأويل الناجمة عن اختلاف السياق الثقافي. بهذا المعنى فإن المترجم يقوم بالتزام أعظم مع القارئ في لغة الهدف. وهذا سيتضمن قول الشيء نفسه باستعمال شيفرات مختلفة، لكن مع الاحتفاظ بالأثر الأسلوبي للنص الأصل. وعليه فإن الترجمة ليست قضية لغوية خالصة، لأن المترجم يجد نفسه معنياً بترجمة المفاهيم والسياق الثقافي للمعنى، إلى جانب الكلمات.

مشكلة التكافؤ

أثار المترجمون الذين يستعملون منظوراً نسبياً في الترجمة نقاشات وجدلاً في العقدين الأخيرين. فالمعارضون للنسبية في الترجمة ذهبوا إلى حد السؤال: هل النص المترجم عن الأصل هو النص ذاته؟ لكن الدفع بهذا السؤال إلى أقصى مدى يعنى مواجهة أسئلة ميتافيزيقية، وميتانظرية متعلقة بالترجمة، قد تنطوي على إعادة تعريف للترجمة برمتها. من هنا تبرز قيمة مبدأ التكافؤ جلياً بتشديده على تكافؤ اللغة المصدر واللغة الهدف في الكلمات وفي الرسالة وفي البنى النحوية.

على ذلك، يكون النموذج المثالي في الترجمة تلك النقطة الوسط التي يبدي المترجم عندها نوعاً من الالتزام بالدقة على المستوى اللغوي، بشرط أن لا يكون هناك تعارض مع فهم النص الهدف. وهذا متطابق مع ما طرحه بيرانرزي في نظريته حول التواصل المنضبط بذاته. استناداً إلى هذه النظرية، يكيف مرسل الرسالة، المترجم في هذه الحالة، المعلومات وفقاً لحاجات المتلقي واعتبارات سياقية أخرى بهدف الوصول إلى حالة من التوازن. وهي الحالة النموذجية التي نمتلك عندها حداً أقصى من فهم الرسالة مع حد أدنى من التغيير الحاصل في عناصر البنى اللغوية.

المدارس اللغوية وتأثيرها في الترجمة

لا يجوز أن ننسى أن لانتشار النظريات اللغوية التي أتت من مدارس مختلفة وأزمنة مختلفة تأثيراً في الترجمة. فالنظرة البنيوية مثلاً تقدم تصوراً للّغة على أساس كونها جملة من العلاقات، تحكم أنظمة فرعية مترابطة يكون لكل عنصر فيها تعريف بحسب دوره في بنية العلاقات. انطلاقاً من أهمية هذا النموذج اللغوي الذي انطلق بقوة في ثلاثينيات القرن الماضي، لم يكن مستغرباً أن تتمحور الترجمة على البنية اللغوية أكثر، وعلى العلاقات البنيوية بين لغة المصدر ولغة الهدف.

كان كارتفورد ، أحد أهم المدافعين عن الاستقامة التمامية البنيوية، فقد ميز بين منهجين من الترجمة. الأول يلتزم بمبدأ التكافؤ على مستوى الكلمة أو حتى على مستوى المورفيم بحيث تكون الترجمة المتطابقة هي المنهج الوحيد الملائم لاستعماله بين لغتين تمتلكان البنى ذاتها على المستوى المورفولوجي والنحوي. وهناك الترجمة الحرة أيضاً، ونجدها في مستويات مركبة أكثر كما في حال الجمل.

إلا أن بروز توجهات فكرية جديدة ك اللسانيات المعرفية منذ بداية السبعينيات، أدى إلى تراجع نماذج عديدة في التحليل اللغوي كالبنيوية، ليقتصر وجود المدرسة الأخيرة على الدراسات الكلاسيكية، اللاتينية والاغريقية. ودخلت إثر ذلك أفكار أو عناصر جديدة في الدراسات اللغوية، كالدراسات التي تناولت النشاطات المعرفية، مثل الإدراك والتخيل والتصور.

وكان لتطور العلوم العصبية في السبعينيات من القرن الفائت ومنجزاته الأولى، الأثر في انتشار مدرسة لغوية جديدة تعطي اللسانيات المعرفية دوراً كبيراً في تشكيل النظم التصورية أو المفهومية، وتولي الظروف أو المحيط الثقافي الذي يحيط بالمتكلمين في لغة محددة أهمية كبيرة. وفتح هذا التخصص الجديد المجال أمام مقولات وأفكار جديدة ضمن النظم المعرفية المختلفة كاللغة.

التساوي والاختلاف بين الثقافات

في كلامنا على التخصص لا بد أن نطرح السؤال الإناسي التالي: إلى أي مدى يوجد أساس مشترك بين الثقافات المختلفة، أو بين من يتحدثون لغات مختلفة؟ الأمر الواضح أننا لا نستطيع أن نفترض مسبقاً دون مسوغات إمكانية تحويل نظام إلى آخر. فلا يمكن أن نترجم أو نفهم مصطلحات في لغة ما من خلال لغة أخرى إذا كنا أمام نظامين لغويين مختلفين كلياً. ومن وجهة نظر إناسية فإن من ينتمون إلى عالم معين لا يمكنهم فهم من ينتمون إلى عالم آخر يختلف عن الأول مطلقاً.

يستند هيلاري بطنام في حديثه هذا على مبدأ الإخوة . يقول هذا المبدأ إن البشر يمتلكون عدداً هائلاً من المفاهيم المشتركة في ما بينهم، وإن اختلفت طرق إدراك تلك المفاهيم. ف المفهوم له صفة التوريث ، بمعنى أنه قد يوجد تطابق في تصور كل ثقافة أو فرد عن هذا المفهوم أو ذاك.

بطبيعة الحال، فإن الطرق المختلفة التي ندرك بها مفهوماً محدداً لا تظهر ببساطة بين الأفراد الذين يتميزون بثقافة ما. فهناك مفاهيم يختلف إدراكها من وقت لآخر، حتى إن ادراكها يختلف في الثقافة الواحدة. هذا ما يدفعنا للحديث عن نمط من الترجمة لا يدخل ضمن الترجمة البيِلغوية ، أو البيْثقافية ، أو البيْزمنية . ولتقديم مثال، فإن مفهوم الحب عند المدني الأوروبي في القرن الحادي والعشرين ليس هو ذاته بالنسبة إلى شخص ارتبط مفهومه عن الحب بالبلاط الأوروبي في العصورالوسطى. وعلى كل حال فإن بمقدورنا اليوم أن نشرح الأفكار والاعتقادات والطقوس التي حفظت أشكال الحب في أوروبا الوسطى والتي تتضمن ترجمة على المستوى السيميائي، تقود إلى أسئلة عن مفهوم البيْنصية . وفي كل حال فإن استمرارنا في تأويل تلك الممارسة بأنها تعبير عن الحب -رغم تقادم الأزمان واختلاف النموذجين- إنما يرجع إلى أننا نمتلك مفهوماً واحداً ومتفرداً عن الحب.

يوضح لنا المثال الأخير الحاجة إلى إعادة تعريف الثقافة كمفهوم، وهل الثقافة التي تشكلت في مرحلتين مختلفتين من مراحل تطورها، ثقافة واحدة أم ثقافتين مختلفتين. لأنه لو قام شخص من أوروبا -في زماننا هذا- وشرحَ لأوروبي من العصور الوسطى معنى الحب لقلنا إنه قام بفعل ترجمة.

لا يأخذ الإناسي موقفاً خارجياً فيطبق المعرفة العلمية على المجتمع والثقافة فقط. الإناسي أو الأنثروبولوجي مترجم أيضاً. فهو يدرس الجوانب الثقافية، والتواصلية، والممارسات اللغوية عند البشر بما يعينه لاحقاً على وصف تلك النشاطات لمن هو غريب بالكامل عن هذه الثقافة أو تلك. وكي يحقق هدفه ذاك عليه أن يصف هذه الممارسات المختلفة، ويبين الظروف التي يمكن معها فهم تلك الممارسات بالنسبة لشخص لا ألفة له بها. وستمثل تلك العملية الوصفية الأنظمة التصورية التي يستنبطها هو، والتي بها يفسر تلك الممارسات.

هذا يدعونا للتركيز من جديد على ما هو مشترك بين أولئك الناس الذين يختلفون بقوة من حيث الجغرافيا والثقافة. وما لم يتحقق ذلك فلن يكون بمقدورنا أن نفهم المؤسسة الاجتماعية المجتمع ، والطقوس، أو الممارسات الاجتماعية العامة التي تختلف عن ثقافتنا. وقد رأى فولي أن من المستحيل وجود الإناسة من دون وجود تلك القواسم المشتركة.

تظهر التماثلات نفسها أيضاً في صنوف الكتابة الإبداعية الرفيعة والحرة، كما في الفنون. فعندما يحاول واحدنا في السينما كما في الأدب أن يسرد أحداثاً تقع في العوالم المتخيلة أو الغرائبية -بما فيها الكواكب الأخرى- فإن الشخصيات التي يبتكرها تعطى سمات شبيهة بالسمات الإنسانية وسلوكياتها. ويبدو أن الإنسان غير قادر على ابتداع أي شيء لا يقدر على تصوره. وهذا ما ينطبق على الترجمة في لغة الهدف والمصدر، لأن ما يجعل الترجمة ممكنة -من المنظور الذي نشير إليه- هو أنها تجسيد لما هو مشترك بين عالمين اثنين. ويعود للمترجم أن يلحظ أو يكتشف تلك التماثلات ويستعملها وفقاً لذلك السبب وخدمة قرائه.

 

الخاتمة

تعدّ الترجمة واحدة من أقدم النشاطات الإنسانية، سواء في صيغها المكتوبة أو في صيغها الشفاهية. فالترجمة أساسية من أجل تحقيق التواصل بين مختلف الناس من مختلف الثقافات. وبقدر ما تركز الترجمة على الجوانب الشكلية أو على المضمون، فإن النقاش يجب أن يأخذ في الحسبان السمة الوظيفية للترجمة.

فليست الترجمات كلها في المستوى نفسه، ولا الهدف ذاته. هذه الحقيقة تستدعي أن تكون الترجمة الاحترافية مبنية على تعدد المهارات، مما يعني أهمية التخصص للمترجم. ومن جهتها، فإن العلوم الإنسانية المختلفة يمكن -من وجهة نظرية- أن تدرس العوامل التي تدخل في عملية الترجمة. وهذه الإسهامات من حقول معرفية مختلفة تمكن المترجم من التفكير في الهدف من الترجمة من وجهات نظر مختلفة لم تُكتشف بعد.

 

الترجمة من الإنجليزية: أيمن حمودة

 

..........................

@ ولدت كارمن جوردن في مدريد. ودرست في كاليفورنيا ولندن. حاصلة على دكتوراه في اللسانيات المعرفية. هذه المقالة منشورة في موقع مجلة الترجمة على شبكة الإنترنت:

accurapid.com/journal/27philosophy.htm

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1325 الاثنين 22/02/2010)

 

 

في المثقف اليوم