قضايا وآراء

"هودج مهجور" لنعمان الفخفاخ

قصة عن لحظة شعورية غامضة لم تنكشف أمام الوعي إلا في القصة الأخيرة "شهادة" ... هذه النصوص تكشف عن تصدع الذات الراوية وقد تقنعت بضمير الأنا الذكوري الذي يعاين المرأة كجسد مشوه، طمسته الخطيئة، وجعلته يشعر بالانكسار والعجز عن مواجهة الآخر، والرؤية للمرأة في هذه النصوص غالبا ما تصبغ بالنعوت التي تلصق بها ككائن مدنس .

 

فالنصوص واحدة في تيماتها وفي معالجتها لواقع المرأة من خلال رؤية رجل يعيش هواجس المرارة وضيق الأفق، لنتستشف ذلك التحويل من الذات إلى الآخر، وإكساء المواضيع الخارجية بمعاناة الراوي، فيعمد إلى كشف المشاهد والصور المرئية لحد المأزق ووطأة الزمن باستخدام التشابيه والنعوت . وبذلك فهو يترجم اللحظة الشعورية حسيا، وكأن الراوي يعمد في كل نصوصه إلى نفث انفعاله في من حوله وما حوله، لكي لا ينكشف الوعي الذاتي خالصا وواضحا، في هذه الحالة فهو يعكس الكابوس في شخصياته القصصية، وذلك ما انكشف خاصة في قصة "عابر سبيل " : " كانت الهواجس تخترق غشاء ذاكرة آية، تفتك بها، ترهقها بلا هوادة ... وهي تقف واجمة ترتجف، ترتعد، تحتاج لمن يدثرها .... إذ راودتها حينها بقايا حلم أيقظ مضجعها طيلة ليلة أمس " ص39

 

فما اتضح من خلال قراءتي لنصوص هذه المجموعة أن الراوي لم ينجح في الإفصاح عن حالة شعورية يعيشها، فكان ينسبها إلى المرأة الماثلة أمامه كمرآة، محاولا اقناع الراوي بتجرده من أي عملية تمثيلية تحويلية . ويبدو أن تركيبة لغة الشاعر نعمان الفخفاخ الشعرية ما جعلت نصوصه مفتوحة لا تنصاع إلى قواعد الفن القصصي المتعارف عليها، سيما وإن كان موضوع النص انفعالي يتفحص لحظة شعورية من الداخل، على خلاف الفن القصصي الذي يكشف تلك اللحظة بتصعيدها وتحويلها إلى حدث تحركه الشخصية فاعلة أو منفعلة :

 

- في قصة " رفات تتنفس " فثمة بحث عن رعشات نفسية هاربة يريد الكاتب إدراكها من خلال بناء شعري يقوم على بعث دلالة شدة الزمن عبر العزلة، ثم يبعث النشوة بالتعبير عن النشوة الحسية، ثم يقع كشف اللحظة الشعورية التي قام عليها النص لتعبر عن نتاج فعل الزمن في الإنسان، عبر توليد المعاني في لوحة تتميز بالتآلف بين أجزائها وملامحها . اللحظة الشعورية بدت كئيبة أول النص إذ تضمخت وتضخمت بكل هواجس النفس، فإذا بتسابيح التهجد تتحول إلى " تسابيح هواجس "، مع اقتران هذه العبارة بعبارات أخرى تحيل إلى تيمة طقوسية طهورية " تيممت "، "ذهنها يسجد " ... فالمعاني المتناقضة تنزاح عن الصور المقررة، خارجة عن المألوف والسائد، تنتقل من النقيض إلى النقيض " وفي كل مرة تتحول نسمات هذا الفردوس إلى شرارة تتوهج من جحيم الوحدة " ص 97، التحويل من خلال إدراك مضاد للأشياء يكشف تصدع النفس وانكسارها، وغربتها ووحشتها في "غرفة خالية من الدفء"، ألم عقيم تبدد من خلال تجربة العشق المعبرة اتساع فجوة الحلم وانسيابها كاشفة عن بداية الرحلة نحو المجهول الذي تبين أنه وهم أعاد اجتثاث براعم الحلم . وبذلك انتهت القصة من حيث بدأت لتكشف عن العزلة النفسية، وقد اكتظت القصة بالتشابيه للكشف عن معان غامضة، غائمة، متشابكة ...

 

- في قصة " هواجس أخيرة " يقول الراوي " شعور داخلي بأن ما بيننا كالقيض كالغبار "، فالانفعال متوار في قاع النفس ينعكس من خلال صور خارجة عن الذات، لذلك تختلف هذه التشابيه عند اقتراب الراوي أو ابتعاده في ملامسة شعوره . وهي تكشف عن أساليب متعددة في التصوير :

- تشبيه مباشر : " كأنه نوع من الذعر أو الرعب يرهقني "

- تشبيه حسي تمثيلي : " كأن وحل العالم بأسره قد التصق بقدمي "، " أحس كأنني مشدود إلى مقصلة الإعدام "

- تشبيه إبداعي : " كالغائب أو الحلم، فاتن مدهش "

" فجأة استعادت ذاكرتي بعض من هذا اللغو كأنه رجع غيب بعيد "

- تشبيه تمثيلي تأليفي : " كأني أغرق في بركة الخضوع الآسنة "، " أحسست كأن الغيوم بيتي الوحيد الذي نسفته الصواعق " ......

 

هذه النماذج تعبر عن تشبيه يقوم غالبا على التمثيل الذي قد يقبل التأويل ويضيء جوانب شتى من الانفعال ويمتلك بعض مفاتيح تفاسيره إذ يقترب التشبيه من الايحاء عبر الغوص في باطن الصور الحسية الماثلة أمامه . فهو يحقق ذلك الترابط بين ما يشعر به وبين الصور التي تشير إليه، وكثرة التشابيه جعلت النص لا يستقر على موضوع ويعكس صور النفس . وقد غابت في هذا النص دينامكية الحركة فظل الموضوع تهويمات معلقة ...

 

- في قصة " مقرف وجه الذاكرة " ثمة تحويل لشعور الراوي وتفكيره إلى العالم الخارجي، فإذا اقترن المكان بالوصف ورسم صور تتناسب أو تتنافر، فإن المكان هنا عبارة على استعارة مركزية " غرفة ليست فيها نافذة للخروج من الخواء، من هدير العتمة، من وحدة قادرة على ثقب حيطان الأفق وهتك كينونة الصمت "، وقد تجاوز المكان الواقع الفعلي للتعبير عن خفايا النفس المنحبسة في قاع العتمة غير قادرة على التفصد من شحنة ألم تستكين في الذاكرة، فالعلاقة الحسية بالمكان تكاد تكون منقطعة، إذ انصرف القاص إلى أغوار النفس، ينسج من خيوط الذاكرة تفاصيلها ... الذاكرة لا تحمل بين طياتها التصوير الخارجي للمرأة الحلم، فهي " إمرأة من زحام الصباح، من بهاء كف الليل، تضيء قطرات الندى بين يديها في فوضى أريج الوقت " ص9، لا يطل الواقع الخارجي إلا من خلال بعض التفاصيل العابرة بمثابة التقطيعات، وينزع من المكان بعض تفاصيله الواقعية ليحولها إلى ذلك التوهم الذي غزا الشخصيات حد التلبس، انعكست على المرأة الحلم وأسقطت عليها اسقاطا كدلالة لتصدع النفس وانشطارها محاولا خلق علاقات غائمة بين الرجل والمرأة . قد تكون ظلالا أو مشاهدا لحالة شعورية معينة ليصور لحظة شعورية هي من صميم الحياة المتناقضة .

 

الشخصيات تتحرك في ذهن الراوي، لا تخرج للواقع إلا من خلال ومضات الذكرى الخاطفة، ولم تترك القصة صدى في نفس القارئ عدا الاطلاع على معاناة خلت من الحركية ولم تثر أي اعتمالات عاطفية لدى المتلقي ....

 

- قصة " شرخ في الذاكرة " فإن عصب القصة " غموض يغتصب الفكرة، وطوفان مشاعر يكتسح المجال كاشفا عن شذوذ فني جفت طلاسمه خلف سراب الزمن عند اختفاء آثاره " ص21، فالفكرة الكامنة والمسطرة لأحداث القصة تتقطع لتعبر عن حالة الهذيان، لا تتوالد فيها المعاني ولا تسطير فيها للأحداث، ولا رجة تقوض بناء القصة، فقد أكسى النص بالصور الغامضة وبرسم ثنائيات النور والعتمة والماضي والحاضر، عذرية اللحظة وغربة الضياع، حوار يعري النفس مع وصف حركات اليد والوجه لتتناغم مع الشعور .. فالشخصيات غائمة لا تمتلك صورا حسية واضحة المعالم، فكل ما تراءى بين الأسطر صور تتحرك دون أن تدرك هويتها أو خصائصها : " تلمس أنفه الرطب، حكه بعشواية، غازلها بجفونه التي رسم عليها لحظة مواقعة على كفن الميت وفرج شفتيه وأغمض عينيه في استسلام بلين "، ففي الوصف تجاوز للصورة المرئية إلى الصورة الذهنية، ولو وجهت بعض ملاحظات المدرسة الواقعية لهذه النصوص فستتركز حتما حول صور الشخصيات كصور غامضة، لم تتشبع بواقع الحياة، بل هي بمثابة هياكل خاوية لا تحوي نسيج الواقع كما لم يقع تحديد هوية الأشخاص، نظرا لان الكاتب ينزع نحو التجريد ليعبر عن عوالم النفس .

 

ويبدو أن اللحظة الشعورية الغائمة التي تسللت إلى كامل أقاصيص "هودج مهجور" هي اللحظة التي انكشفت في قصة شهادة : " "لحظة عبث قاتمة شكلها رعب الحدث " لحظة لن تقود حتما إلا إلى عزلة الطرق المهجورة، سيما وإن عبرت عن لحظة العشق المغلفة بالرغبة، فهي تنحرف عن الجمال وتزل إلى التهويمات، لينتهي اكتشاف اللحظة إلى إقرار الشعور بالفراغ : نحن الذين نحاول جاهدين البحث عن مخرج ينتشلنا من فراغ .. ها نحن نظل دوما وباستمرار عاجزين مرة أخرى عن تجاوز أنفسنا ... وبذلك كانت دلالة العنوان تشير إلى الفراغ، وعزلة النفس خارج فضاء الهودج

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1327 الاربعاء 24/02/2010)

 

 

في المثقف اليوم