قضايا وآراء

قراءة في رواية "النزيف" للناصر التومي

شرائح تعد نماذج  لطبقات ولعلاقات تسودها مختلف أوجه الخضوع والصراع . كل ذلك من خلال التركيز على واقع الأمكنة ومستوى العيش وعبر تشابك العلاقات بطرق يمكن رصدها وتحليلها وكشفها .

 

المكان المرجعي

تدور الأحداث في رواية النزيف في المدينة و" تتشكل المدينة في الرواية عند نقطة التقاطع بين الفضاء والزمان والأحداث والشخصيات . فهي ليست مجرد مكان يؤطر أحداثا بل تكتسب خصائصها مما يحدث فيها وممن يتحرك فيها ويصارع ويتكلم فلا يقل التلفظ قيمة في الدلالة عن المكان من وصفه الخارجي وصوره المتعاقبة " (2)، المدينة التي لم يسمها الكاتب ولكنها المدينة التي شهدت ضراوة الإضرابات العمالية في تونس في نهاية السبعينات، مدينة تحولت إلى كتل من الدخان وخربت مؤسساتها الصناعية ومجلسها البلدي على حد السواء .

 المدينة لم تعرف باسمها بل بوصفها وبالتحولات الاجتماعية التي طرأت عليها، فالمدينة ونظرا لما كانت تتوفر عليه من المنازل القرميدية التي كانت على ملك الأجانب فقد كانت تحتضن تاريخا قبل أن تشوه وتخرب وتفقد ملامح جمالها وقيمها " لما دخلت هذه المدينة منذ خمسين سنة قبل أن يدخلها الهلاليون ويستحوذوا على سفوحها وهضابها كانت صغيرة انتصب بأعلاها على النمط الإفرنجي - امالط، طليان، قريق، فرنسيس، كورس وبعض العائلات الثرية، أما سفحها المتكون من السباخ فاستقرت به بعض الأحياء القصديرية ومقابر السيارات ... قبل أن يزحف الهلاليون على المدينة ما كنت تفرق بين مسلم وطلياني وقريقي، ومالطي،  وفرنسي، كانت الثقة متبادلة، الفقير يحترم الغني، والغني لا يتكبر على الفقير، يتعاملون بنبل وشهامة رغم الفوارق، لكن الآن تغير كل شيء، الكل يتربص بالكل، الحسد والضغينة، الأحقاد نخرت الأجسام .. " ص123 .

فالتحول الاجتماعي لا يمس هوية المكان ولا هوية من سكنه بل هوية القيم التي كانت تسود فيه . قبل أن يستقر به الدخلاء الذين أطلق عليهم الكاتب لقب الهلاليين لأنهم شوهوا معالمه وقيمه  إزاء أطماع رئيس المجلس البلدي وعائلته الذين استحوذوا على الأراضي ومنازل الأجانب ومسكوا مقاليد العمل السياسي، حتى مصب النفايات فيتحكم فيه أفراد من عائلة حسن الهلالي " النحيف والبدين "، ليخربوا ما تبقى من عذرية القيم في مكان يشير للدنس .

وتبدو المدينة منخفضة بين الهضبتين، هضبة يعيش فيها علية القوم وهضبة غابية يستقر فيها المهمشون حيث يعيش المهمشون خارج المدينة في طرفها الغابي وفي السباخ " المسكن الذي يأوي القصير وعائلته من البناءات القديمة المتداعية للسقوط، وهويقع في الهضبة الغابية المطلة على المدينة، وكان لعائلة فرنسية، تشققت سقوفه وسقط بعضه ولم ينج هذا المسكن من الانهيار كليا إلا حيطانه الحجرية التي بقيت محافظة على صلابتها رغم تىكلها وتساقط طلائها . ولما كان المنزل منعزلا عن بقية بناءات المدينة ووقوعه وسط غابة من الأشجار فلم يكن من السهل على أي كان أن يجعله مقرا آمنا . فحتى الطريق بينه وبين المدينة غير آمن، وغالبا ما يكون مسرحا للصوص والمخمورين "ص9 - " سكنت عزيزة مع زوجها الشلك أحد المساكن القصديرية المحاذية لمقبرة السيارات، وهي بقايا سباخ لم يصلها برنامج التهيئة العمرانية لتعدد الأطراف المدعية لمكيتها " ص176 "، كان المسكن عبارة على كوخ من الكنتول سقفه من القصدير، بينما تسكن أم الشلك العجوز بكوخ آخر ملاصق له " ص177 .

إن السكن في طرف المدينة لا يعني وجود حزام أسود خلفي لهذه المدينة بل ديار آيلة للسقوط وأكواخ هنا وهناك . وهي  تؤشر لتدني المستوى اللفظي لسكانه، فالسباب واللعن هي من سمات خليفة القرد المعتوه، و تحمل دلالة العنف المادي من خلال الشلك إبن المتسولة زهوة، في حين أن العربدة والسكر  والعلاقات الجنسية الغير شرعية هي من سمات المركز والقاع في هذه المدينة .

 وهي مدينة مهيأة للغرق والفيضانات كلما دنست مقدساتها، فالفيضان الأول الذي أغرق المدينة كان إثر الركعة الأولى التي سجد فيها الباسي السكيرالعربيد وهو لا ينوي الصلاة بل وجه إلى الصلاة تحت تأنيب زوجته، والفيضان الثاني الذي شهدته المدينة فقد اقترن بالإضرابات العمالية التي خربت مؤسسات المدينة . ولئن غرقت المدينة في المرة الأولى وقصر حسن الهلالي يشهد حالة الرخاء والديار الخربة والقصديرية في حل من هذا الفيضان :" كانت المدينة منخفضة بالنسبة إلى موقع الخربة " ص11  فإن فيضان ما بعد الإضراب امتد على مساحة منخفضة من القصر المخرب الذي توازى مع الديار الخربة . فاستحالت المنازل الفاخرة لعائلة حسن الهلالي إلى خرب كتلك التي تأوي إليها عائلة القصير وبنتيه عزيزة وفطيمة اللتين تعرضتا للاغتصاب من طرف عائلة الهلالي في القصور والمزابل .

فعلو المكان لا يشير إلى الرقي ولا يعتبر مركز المدينة بل هو يشير إلى القاع بما أنه مرتبط بالخصاصة المادية من جهة وبما أنه تدنس  وفقد براءته  وثراءه الثقافي وقيمه الإنسانية . فالقاع بمعناه القيمي هو الذي اقتحم المدينة وبقي يعيش الصراع المستميت بين المناضلين الذين غنموا المناصب السياسية الكبيرة وطوعوا السلطة لصالحهم وبين الهطاية الرحل الذين لا أرض ولا رزق لهم بعدما زحفوا على المدينة فطحنتهم الرؤوس المخربة التي صارت تسيرها .

والملاحظ في هذه المدينة أنها تخلو من دار ثقافة بما أن كل الذرائع كانت تحول دون قيامها مثل سقوط مقرها نتيجة الغش في البناء . وذلك لأن الأساس الذي بنيت عليه عائلة حسن الهلالي نفوذها كان هشا ودون أسس ثقافية متينة، ثم إن مصب النفايات لم يكن قائما قبل زحف عائلة الهلالي وقبل أن يتبوأ حسن الهلالي رآسة المجلس البلدي وعضوية مجلس النواب : " انفرج الطريق عن متسع من الأرض غير مشجر، أديمه متغير اللون، أقرب إلى السواد، ولاحت في الآخر هوة تغطي أرضيتها، أكوام الزبالة المنتشرة في كل مكان " ص13  . كما أن الفرق الرياضية كانت تعرف الانتكاسات بسبب غياب الدعم المادي باستثناء نادي الكرة الحديدية الذي دعمه حسن الهلالي بأموال المستثمرين حين تحولت المدينة إلى قطب صناعي، فالمدينة صارت حديدية في غياب الروح وانتزاع الأراضي الفلاحية لتحويلها إلى مصانع : " لم يكن حرق النفايات وحده الذي تسبب في تسمم الهواء بل مصانع المدينة الصناعية التي تنفتح ليلا نهارا سمومها " ص143،  فصارت أمراض الجلد والتنفس هي التي تتصدر قائمة الأمراض بالمدينة  .

فثمة زحف للقاع على المدينة، وثم تحول صناعي أفرغ المدينة من روحها ةترك لها القناع وحالات الاختناق .

ولكن في المجمل نجد في هذه المدينة الشارع رئيسي، ومحطة الحافلات ودكان الفطايري، والروضة البلدية، ومقر الاتحاد النسائي، ومقر الحزب، وخمارتين نظرا لإقبال جل سكان المدينة على شرب الخمر، ومنازل أجنبية فوتها حسن الهلالي لعائلته، وأخرى فوتها سكانها الأجانب لبعض الفقراء مثل منزل زهوة العجوز المتسولة وإبنها الشلك : - " سكنت عزيزة مع زوجها الشلك أحد المساكن القصديرية المحاذية لمقبرة السيارات، وهي بقايا سباخ لم يصلها برنامج التهيئة العمرانية لتعدد الأطراف المدعية لملكيتها " ص176 " كان المسكن عبارة على كوخ من الكنتول سقفه من القصدير، بينما تسكن أم الشلك العجوز بكوخ آخر ملاصق له " ص177 .

 

الشخصيات

بما أن الفضاء المكاني يكتسب خصائصه من خلال الشخصيات التي تتحرك فيه، فإن بناء الشخصية التي تستقطب الأحداث في النزيف هي حجر الأساس في هذا العمل السردي، فحولها تلتف شبكة علاقات مع علية القوم، ومن خلالها نرصد علاقة تسلط مع المهمشين ليصعد خيط الأحداث نحو وجهة الانفجار . وبما أن حسن الهلالي دارت من خلاله وحوله الأحداث فهو أنموذج لشخصية واقعية يستمدها الكاتب من مرجعية الواقع الاجتماعي ومن مرجعية المكان حتى وإن قام بتشويه بعض ملامح الشخصية، يبقى الواقع المرجع المحسوس والمتخيل على حد السواء .

وحول تحويل الشخصية ذات المرجعية الواقعية إلى نسيج العمل الروائي يرى محمد زروق : " ولذلك فإن الشخصية من حيث هي كائن ينشأ داخل الخطاب ويتكون بواسطة اللغة التقريرية والتصويرية - في الخطاب السردي هي صورة من صور الواقع تتمثل بطريقة مخصوصة، ويبنيها متمثلها صدورا عن هذا الأصل وإدراجا خاصا تتدخل فيه ثقافته وموقعه الحضاري، ومنزلته التاريخية، فهي صادرة عن ذات متكلمة هي في منتهى المطاف المؤلف الذي يختار شخصياته ويخصص لها خصالا يركزها في خطابه ويصلها بعلاقات ويدفعها لآداء أحداث عديدة، ثم تقع هذه الشخصيات في أنفسنا مواقع شتى بين القبول والرفض بين التماهي معها أو التنافر، فالذات المتكلمة قادرة أن تقد شخصياتها على هيئة تدفع القارئ إلى الإيمان بها واقعا وحقيقة "  (3)

 لقد اقترن حرق المجلس البلدي كواقعة تاريخية حقيقية سجلت بين طيات الرواية، بشخصية حسن الهلالي الذي حمله الكاتب تبعات الخراب بما أنه يمثل صورة للبورجوازية الجديدة التي أشعلت  فتيل الصراع الاجتماعي . هذا على مستوى تأريخي أما على مستوى درامي فإن عائلة الهلالي التي محقت الطبقات الدنيا هي التي ألهبت فتيل الأزمة، فحرق المجلس البلدي تعدى الواقعة التاريخية إلى بحث الكاتب عن تبرير روائي يجعل فعل الحرق هو نتاج لمرجعية وظيفية ما تحفز ذلك الفعل في الرواية .

علية القوم :

وتتسم هذه الشخصيات بالعنف والتسلط وتتكون من عائلة " حسن الهلالي" وكل جذوره وفروعه المنتشرة في الواجهة الأمامية أو الخلفية للمدينة . وهي شخصيات تكتسب النفوذ وتسرب سمومها من خلال فراغات القانون والحيل الكيدية وأساليب الالتواء الأفعوانية . عائلة حسن الهلالي الممتدة بين القصور والمزابل . والمجموعة الاجتماعية العلية التي ينتمي إليها حسن الهلالي .

 حسن الهلالي الذي تتألف داره من طابقين كانت على ملك عائلة أجنبية اشتراها بسعر زهيد إثر الاستقلال ـ تعتلي الهضبة المطلة على المدينة وأضاف إليها شرفة واسعة تطل على المدينة . يعمل رئيس المجلس البلدي ويلتقط الأخبار ليساوم بها أخلاقيا وسياسيا . وقد كان مناضلا وعرف السجن، ولكن الثمن هو استحواذه على تلابيب المدينة سياسيا واقتصاديا : " بل لتحكمه في جل النقاط التجارية، السوق اليومية، والسوق الأسبوعية، والمسلخ البلدي، وأغلبية أسهم المنطقة الصناعية التي يديرها أنفار من عائلته الكبيرة "ص8، أما أبناء حسن الثلاثة : مرعي ويحيى ويونس، عرفوا باللهو وارتياد الملاهي والمراقص والسفر . وتداولوا على اغتصاب الخادمة عزيزة . ولحسن عشيقة وهي الممرضة دليلة . انتقلت من مستشفى العاصمة إلى مستوصف المدينة . ذات جمال لافت، تعرفت على السلطان حسن الذي مرض في المستشفى ونبشت في أغواره الشبقية . عوضت زوجته نافلة التي غزاها الكبر . وكانت قد تزوجت من زوج مزواج معقد نفسيا، وأقامت علاقة شاذة مع غيره في بيته وعلى فراش الزوجية . ثم طلبت الطلاق لتعيش مع العشيق حسن الهلالي .

 

 وزوجته نافلة رئيسة فرع الاتحاد النسائي، ابنة مناضل، رشحها زوجها لعضوية مجلس النواب مما أدى إلى غضب أخته لتمثل صورة المرأة في العمل السياسي التي تفرض بالوصاية والتعيين . وأخته الجازية  زوجها حسن من إبن عمها، شريكه في معمل الأقمشة، اشترى لها قطعة أرض قرب البلدية أقامت عليه منزلا بطابقين . مديرة روضة البلدية ورئيس فرع الهلال الأحمر، وتنافس زوجة أخيها للترشح لعضوية مجلس النواب بعدما نجحت في عضوية انتخابات الحزب . ورغم جمالها وأخلاقها إلا أنها كانت تحمل احتقارا للطبقات المطحونة فعلي العاطل عن العمل الذي كان يتفاتى في خدمتها بتنظيف الحديقة والمنزل والحراسة .. دون مقابل نعتته بالرخيص حين لاحظت أنه يتقرب لها إعجابا بها، وهي ترى : " إن أمثال هؤلاء من الذين يفدون على المدينة من القرى ماكانوا يعيشون إلا كما تعيش الكلاب، وخاصة المعدمين منهم، حتى إذا ما أفلحوا في الحركة بيننا، وسعدوا بخدمتنا، طلعوا علينا بما يعكر صفاء حياتنا، فإما بالبله أو الإجرام أو تقلص رقعة الاخضرار، واتساع رقعة الغازات الخانقة " ص246 

 وفي المقابل فإن صديقه النوري المحب للهو والطرب وشرب الخمرة والركض وراء البنات والعاهرات مثل خضراء، فكلمته مسموعة عند مركز الأمن فهو الذي حال دون توقيف الهادي لبرق صاحب الحانة غريم حسن الهلالي . وهو الذي أدخل الشلك للسجن حين دفعه حسن الهلالي للاعتداء على الشاذلي محاسب البلدية الذي كان يريد الزواج من عزيزة فزوجها حسن للشلك ليدرأ فضيحة ابنائه، فرغم صداقته بحسن فهو على خلافه كلمته مسموعة عند الأمن . وذلك لدفع أي مظلمة .

 ومن بين شلة حسن الهلالي العزعزوي أكبر تاجر للمواد الغذائية في المدينة، يحب شرب الخمر، وعبد القادر المرابط موظف البلدية، والباسي الجريدي بطلعته البهية وجبته البيضاء وشاشيته وهو صاحب مقهى المفترق يحب شرب الخمر ومغازلة النساء، وخميس الحوات صاحب الخمارة وهو لا يحسن إلا الدسائس والتقرب للسلطان . من أكبر المالكين لمساحات الأرض بسفح المدينة تعرض للانتزاع لكن حسن مكنه من بيعها إلى أصحاب المصانع المزمع إقامتها بالسعر المتداول، وهو سليط اللسان .

 وهناك الهادي لبرق صاحب الحانة، لا يستسيغه السلطان حسن لسلاطة لسانه ومجادلته في الإجتماعات في المجلس البلدي أو في العمل السياسي، يحرض عليه كل الجهات لغلق حانته دون أن ينجح في ذلك .

 

المهمشون

وفي مقابل هذه الطبقة العلية نجد المهمشين الذين يعملون في مصب النفايات ولئن بدت لنا بعض الشخوص بسيطة مهمشة أحيانا فهي شخصيات مركبة، تحمل ذاكرة مليئة بالانكسارات وبردود الفعل الغير عقلية على غرار ردود المعتوه " خليفة القرد " أو العجوز "صالح الورتاني "، إلا أنها شخصيات تحاور الواقع المعتم من خلال ذات الفضاء المرجعي المظلم، فهي شخصيات معبرة عن انحرافات الواقع وما يحويه من عنف مادي ولفظي، تعكس الواجهة المعفنة منه، وترصد حالات القرف والغثيان .

ومن أبرز هؤلاء المشردين البرباشة ـ وهم المهمشون في مصب النفايات " تفرقوا بين أكوام الزبالة ملتفين بالخرق البالية، أعمارهم تتراوح بين الأربعين والستين، يكاد لا يخلو أحدهم من عاهة، فهذا أبتر الرجل وعوضت بقطعة من الخشب، وذلك مبتور الذراع من فوق المنكب فظهر ما تبقى منها أسود كخشبة نجت من لهيب النار، وهذا أغمضت إحدى عينيه بينما الأخرى تدمع كافة النهار، وذاك أبرص، والآخر في وجهه تشويهات الجدري، وثمة من اعتلت ظهره حدبة جعلت جسده ينحني إلى الأمام على الدوام وكأنه يهم بالسقوط في كل لحظة، ولاح على أطراف بعضهم الدمل والأورام، وحالت الأوساخ والخرق دون تحديد جنس الأنثى بينهم " ص21

أما المهمشون الذين كانوا مطحونين من خلال أحداث الرواية فعلى رأسهم القصير عامل البلدية وهو من الهطاية الذين لا يملكون سكنا ولا أرضا . وإبنته عزيزة التي اشتغلت خادمة في قصر السلطان حسن مكرهة، ثم طلب منها قضاء الليل هناك مسلوبة الإرادة لينقض عليها الأبناء الثلاثة لهذا الأخير ويسلبونها عفتها .

 أما فطيمة الفظة العنيفة، سليطة اللسان، التي كانت تنبش الزبالة في مصب النفايات، وتبحث عما يلقى من أشياء تعود بها إلى البيت . ورغم أن برباشة مصب النفايات يخضعون إلى شروط البدين والنحيف في تقاسم ما يجمعون من أوان وأشياء، فهي بفظاظتها وضربها لهم بالحجارة ما جعلها لا تخضع لهذه الشروط . ولكنها تعرضت للاغتصاب بعدما نومت من طرف البدين والنحيف، وحملت وأجهضت .

وقد توخى الكاتب تقنية التوازي عند تعرض الأختين للاغتصاب  إذ حرص على تعميق الحدث انطلاقا من من حدوثه في الزمن ذاته، مع تغيير المكان . وقد حاول معالجته انطلاقا من تركيبته الشخصية أثناء مواقعة عزيزة وفطيمة في الآن نفسه .ففطيمة وقع تنويمها وعزيزة المتكتمة الخاضعة، مسلوبة الإرادة، فقد اتسمت ردود فعلها بالمقاومة الصامتة إلى أن انكسرت إزاء عدم امتلاكها القدرة الكافية للدفاع عن نفسها .

فتوازي الحدث يشير إلى سلب عزيزة وفطيمة البراءة الجسدية، ذلك أنها لم تكن تمتلك مقومات اجتماعية تساندها في بلورة ردودها فوقع إفراغها بالكامل من الحركة، وفي ذلك لعب بالمشاهد وتصويرها من خلال أكثر من زاوية لتكتمل الصورة في ذهن القارئ، ويبحث عن ظلالها وتأشيراتها الرمزية، وليطرح تساؤلا لا تخلو من جدية لتستحيل المرأة المضطهدة تعبير عن قضية شائكة تبرز الانفصام بين الصورة الحديثة للمرأة التونسية في نهاية السبعينات وصورتها في الواقع .

ونجد خليفة القرد المعتوه : إبن القصير " يجرش أماكن حساسة من جسمه ويطلق سراح لعناته العادية يعلوبكم، يعلبوكم " ص5، يتأرجح في مشيته، يهدد الآخرين بالرفس والركل ( العنف الفظي والمادي) تجسده شخصية معتوهة . يهذي بكلام غير مفهوم في العادة . ينساب بسيل من الشتائم، ينزع ثيابه كلها وهو يعض على يديه . " وشاعت شعبية خليفة في المدينة في مدة وجيزة فبعيوبه الجسدية وأوساخه وألفاظه النابية والفاحشة في بعض الأحيان يجمع حوله الشبان وهم يتفننون في إثارته إلى أن يرمي شاشيته على الأرض ويرفسها ويشرع في نزع ثيابه إلى حين تهدئته ببعض النقود " ص11، وكلما اعترضه حمة ولد خليل المعتوه وأشبعه ضربا ليترك خليفة يعوي .

وقد صار سيد المدينة، ويعرفة الجميع ، وصار مصدر تبرك ولعنة في آن . وهو الموجود في كل مكان والذي يتقرب له الجميع بالمال لتجنب سبابه وإعطائه الفطائر وبعض الأكل، بل إن حسن ووجهاء المدينة كانوا يتجنبون مواجهته في الطريق لكي يأمنوا لعناته .

 المدينة  لم تكن تخلو من المعتوهين وعنفهم، فقد وظف الكاتب واقعة في سياق الرواية، وهي ظهور شخصية حمة المجنون ذي البأس الجسدي لتعنيف خليفة القرد وتركه يعوي .

وكل من خليفة القرد وحمة المهبول ولد خليل هما شخصيات حقيقية التي عرفتها ومازالت تجوب شوارع المدينة الصناعية ... . فهذه النماذج المهمشة مستقاة من الواقع الحقيقي و طرافة شخصية خليفة القرد المعتوه هي التي جعلته يترك بين شوارع مدينة وأحداث الرواية ليجسد ردة الفعل العنيفة الممكنة وليكون المعنف كاسم فاعل والمعنف كاسم مفعول في آن، فالعنف مستبطن بين طيات كل الشخصيات .

علي :  دخيل على المدينة، صاحب ابتسامة مسخ، يجلس حذو خليفة القرد أو زهوة العجوز المتسولة، عمل حمال دون ترقب المقابل . عهدت إليه الجازية الهلالية بري الحديقة ومرافقة ابنتها إلى المدرسة ولكنها تبرمة منه في آخر الرواية لتبرز الهوة العميقة بين أصحاب الجاه والطبقات المطحونة ." وما ضاعف هذا التبرم هيئته المزرية، شعر أشعث مغبر على الدوام، عينان ترشحان دوما بسائل أبيض، سحنة شاحبة زرقاء توحي بأن صاحبها مشرف على الهلاك، ثياب لامعة من الأساخ، تنبعث منه رائحة كريهة، ينتعل حذاء فقد معالمه الأصلية وبانت منه بعض أصابعه " ص203 

الشلك إبن المتسولة زهوة : سكر وعربدة واعتداء بالعنف . كان ملاكما لكنه فارق الحلبة حين صرعه ملاكم من الهلاليين الجدد، همش، وصار صاحب سوابق : طلب منه الهلالي أن يتزوج عزيزة بعدما أغتصبت من طرف أبناءه الثلاثة، وطلب منه أن يدعي أن حسن ضبطه في غرفة نومها  . وهومحترف الصعلكة والعنف . سدد قبضته نحو الشاذلي في الحانة لأنه أصر الحقيقة للآخرين . ولكن النوري لكمه وأراد إدخاله للسجن .

الشاذلي: الصراف بالبلدية الذي أراد الزواج من عزيزة ، يكره التملق ويحب المواجهة . تردد على الحانات وفضح حسن الهلالي الذي كان يمنع زواجه من عزيزة، فاستنطق في مركز الشرطة عن مصدر الأموال التي كان يصرفها في الحانات . حين اعتدى عليه الشلك وقدم شهادة طبية لمدة شهر لإدانته ابتزه الهلالي بأنه معرض للرفت إزاء التهاون في مصالح البلدية إذا لم يتنازل عن الشكوى . وبعد إيقافه من العمل لمدة شهر نقل إلى عمل آخر أقل قيمة . وبذلك وقع تهميشه .

صالح الورتاني حارس المستشفى، وحيد رغم كبره، يسكن في المستوصف، يجوب المقاهي والحانات، يتحدث عن نضاله . قتل إبنة عمه في شبابه حين عرف أنها لوثت شرفها وهو الذي يريد الاقتران بها، وقتلها بطريقة لا تسرب الشك لأحد بأنه الفاعل . ولكن حسن الذي كان يعرف حكايته كان يضغط عليه ويلوي ذراعه .

خضراء كما صورها الراوي إمرأة عاهر، وقع سلبها تاج عفتها من قبل أبناء عمها  بإرادتها وهي لم تطأ مرحلة البلوغ، لتستحيل إلى امرأة لعوب، لفظتها التقاليد والأعراف فهربت إلى المدينة لتعمل خادمة عند الجازية أخت الحسن الهلالي، وهناك استسلمت لرغبات زوج الجازية وأخيه إلى أن كشفتها الجازية وطردتها . لتمسك بخيوط اللعبة الاجتماعية وتشكل علاقتها بمن حولها انطلاقا من تلبية طلباتها المادية . اكتشفت الهذلي الذي فقد رجليه في حادث الرتل، وقد كان مدمنا على الخمر، ولما تحكمت فيه صارت تستقبل بعض الراغبين في جسدها في بيت الزوجية، وهي في الرواية عشيقة النوري و حسن الهلالي وباسي الجريدي والشلك وكل من يرغب في جسدها، وهي تسير في الحي الرئيسي بلباس شبه عار لتثير الرجال . وفي حالة الاكتئاب لا تسمح لأحد بملامستها لكنها تطلب المال ولو أيقظت كامل المدينة للفرجة عليها ومن يريد ستر نفسه .

وقد استعمل الكاتب تقنية التكرار عند سبره لأغوار شخصية خضراء وبقية الشخصيات النسائية المهمشة، إذ تتميز بعض الأحداث بالتكرار في أكثر من موضع مكاني تمارس على شخصيات منفعلة مختلفة الملامح والتجارب النفسية، ولكنها تشترك في تشكلها كضحية للظروف الاجتماعية . وهي شخصيات نسائية بالأساس تعرضت إلى مواقف تطمس كيانهن الجسدي والإنساني .

 وقد نحت الراوي شخصية خضراء كمساحة استكنهت تجارب عزيزة ودليلة . ولئن ظلت كل من عزيزة ودليلة شخصيات ثابتة غير متحركة معرقلة لتنامي الأحداث، فإن شخصية خضراء كانت بمثابة أرضية خصبة، تختزل معنى الصراع والدفاع عن ذاتها في أقصى لحظات التعفن والتفسخ، ولا مناص أن تحرك فتيل الصراع ضد السلطان حسن مدافعة عن عزيزة ومتهجمة على دليلة في الاجتماع الذي عقد بفرع الاتحاد النسائي والذي توسط فيه حسن زوجته وأخته . فباسترجاع واقعة عزيزة وهي تغتصب من طرف أولاد حسن السلطان بالتداول، وهذا الحدث الممجوج المكرر أشارت إليه خضراء حين كانت تسترجع شريط ذاكرتها : " كانت الصورة لعزيزة، أما الإحساس والخفقان لخضراء . إثنان في واحد ..كانت صورة عزيزة صورة الشاة الجريحة . أما نبض الشهوة فكان لخضراء لذلك تجاوب الجسد مع الخيال، حتى إذا ما اختفت الصورة عن زعيق السيارة وهي تقطع الطريق آلمها مشهد الصورة ".

 ومن ثمة نستكشف ثورة خضراء على الواقع، فقد كانت تتحرك حسب ما تقتضيه رغباتها الداخلية كموضوع لتوحشها وانزلاقها إلى متاهات الخيال المطلقة، لتنظر إلى الواقع بعينين مغمضتين تواريان بؤسها وشرخها العميق ولتنساب في تقمص اللعبة والتماهي مع مكوناتها إلى نهاية المطاف للمسك بتلابيبها وخيوطها ولتقر في نهاية المطاف بأنها تلوثت بما فيه الكفاية . وأن سبيل تطهرها الوحيد مساندة عزيزة في محنتها . وبررت ذلك قائلة : " هل تتصور أن  باستطاعتي فعل أي شيء باستثناء الثورة في وجهك والتشهير والتشنيع بعائلة حسن الهلالي ؟ لا أعرف لماذا تأثرت بمأساة عزيزة، لعلها ذكرتني ببداياتي لو كانت مثلي عاهرا .. لما أفزعني حالها، لكنها كانت ملاكا " ومن ثمة تنصهر مأساة خضراء ومأساة عزيزة في حالة واحدة تعد حالة الانشطار بين الواقع والخيال، بين الخضوع والثورة وبين الجمود والحركة . إلى أن تتفصد الحركة الواقعية كفتيل للصراع الذي يطور الحدث ويكسب الشخصية معنى .

 كما أن التكرار يبرز في موقع آخر حيث يكرر الكاتب وضعية خضراء ودليلة العائلية فكلاهما استبدل الزوج المنفر بالعشيق في عقر داره، وفي هذا الوضع اشتركت الإثنتان . إلا أن دليلة إثر طلاقها انصاعت للقيود والرقابة وسجن حسن السلطان، في حين قامت خضراء باستفزازها في اجتماع رسمي نادت فيه بشعار عزيزة وقامت بتمزيق ثوبها .

 

رواية الشخصية أم رواية الحدث ؟

إن الأحداث في رواية "النزيف " تلتصق بالأشخاص رغم اعتماد الكاتب على " الحوافز المشتركة التي لا يمكن حذفها أو إسقاطها من النص، باعتبارها تشكل أسسه البنائية الصلبة وتقوم بوظيفتها حسب السياق والواقعة . وعبر اعتماد الحوافز الديناميكية مثل " خضراء" التي ساهمت في تغيير الأحداث وتطويرها وتناميها . و" الحوافز القارة " التي لم تضطلع بأي دور تغييري، ولكنها تشكلت كشخصيات مساعدة هيأت لوقوع الصراع . فالحدث سيبقى محنطا إذا اقتصر على الشخصيات الثابتة وبالتالي لن يقع أي صدام بين الذات والموضوع، وتبقى الشخصيات ثابتة متقوقعة منهزمة وقدرية .

 بذلك أسند الكاتب مهمة التمرد على الواقع إلى الجماعات المثقفة والجماعات الدينية والجماعات المستندة إلى مرجعية القوانين المناوئة للمظالم . وقد انتقى نماذج للطبقة المثقفة متمثلة في الشاعرخالد الصعلوك الذي كلما سكر ثرثر بما أسره نهارا، نظم قصيدة هجا فيها حسن الهلالي، ثم صار يكتب القصائد المنتقدة ويعلقها على الحيطان، و الكاتب منصور الذي نشر قصتين في مجلتي "الفكر" و"قصص" وإن كانتا من الأدب الرمزي تشير إلى ماضيه - حسن الهلالي - والثانية إلى حاضره بأسلوب ساخر، والكفيلة بفضح أصنام الفساد، والمحامي عادل الشريف الذي كان يتبنى كل قضايا العمال الفردية بما أنه شيوعي وهو أصيل المدينة . وقد اضطلعت هذه الزمرة التي كانت تؤلف جمعية " جماعة ابن خلدون " بنشركتابات على جدران نادي الكرة الحديدية عن ماضي حسن وأخطائه . والصحف الحائطية التي تسب الرأسماليين الجدد، كذلك نجد الصوفي وجماعته الذين كانوا يكتبون الأحاديث القرآنية والمناشير ويوزعونها سريا .

ورغم أن سبب هذا التمرد هو عمالي ونقابي بالأساس إلا أنه كان بمثابة الشرارة التي فجرت الوضع، فالأحداث النقابية التي عرفتها تونس في أواخر السبعينات كانت نتاج موقف الحكومة التي سلكت طريق المماطلة إزاء مطالب النقابة مدعية التريث والصبر وأن هناك في الحكومة من يرفض استعمال الشدة " المؤسسات تماطل في تحقيق الطلبات المشروعة والحكومة من خلال إطالة المشاورات مع اتحاد الشغالين والأعراف تستغل الزمن لصاحبها لإخماد هذه الانتفاضة إما باتفاق لا يثقل ميزانيتها أو لجر شيخ الشغالين إلى خطإ كبير لا يغتفر " ص230، إلا أن الواقع الاجتماعي الذي ظهرت فيه نماذج حسن الهلالي وبورجوازية الحزب لم يعد قابلا للمهادنة : فالأنباء غير سارة بمقر اتحاد الشغل بالعاصمة ونواب العملة يهددون . الفوضى، الإضرابات تهدد مصالح حسن . " لم تكن الأخبار التي تصل الهلالي سارة سواء كانت من الحزب أو من السلط الأمنية أو من أعوانه وشركائه في المصانع بالمدينة، عدوى الإضرابات على أشدها، النقابة أحكمت قبضتها على المنطقة الصناعية، الهلاليون والموالون للسلطان حسن لم يقدروا على إسكات الهدير .." ص138 . والسلطان حسن الهلالي حمى مؤسساته بالكلاب المدربة التي تكفل بها  الأسود خميس سلامة  لتفريق التجمهرات .  ولكن عند اندلاع الإضراب العام كانت الحشود التي كانت تضرب بالحجارة أكبر من أن تتأثر بشراسة الكلاب  إذ هشموا بالقضبان الحديدية  النوافذ وفتحوا الأبواب وكسروا كل ما اعترضهم .

وهذا الإضراب العمالي الذي استوعب مختلف المشارب السياسية المعارضة استقطب رجل الشارع المهمش بدوره  حيث ناصر المتظاهرين العاطلون والمتطفلون وتلاميذ المدارس وأحرقوا قصر البلدية وبيت السلطان حسن ونهبوا المتاجر، وانطلقت خضراء مع المتظاهرين تردد إسم عزيزة، والشاذلي وجد نفسه وسط المظاهرة بدوره والشاعر الصعلوك، وأصحاب اللحي، وأقطاب اللائكية والحريات المطلقة . والكاتب منصور الذي كان فوق الصومعة يراقب الملحمة، والمخربون الذين نهبوا وحرقوا وحولوا المدينة إلى كتلة من لهب ودخان، وحسن الذي كان يعتلي هضبة مصب النفايات، إذن فالتكرار عبر وجود خضراء كمحرك للصراع وهي تتبنى قضية عزيزة يفضي إلى رسم شخصية مركبة طورت سير الأحداث بطريقة شكلت لبنات لردود فعل الشاعر والروائي والمحامي والعمال لتكتسب حركتها صبغة العمق في الشعور والفكر والإلمام بمكونات الواقع . كما نتبين أن الحدث الذي تكرر وفق أكثر من شخصية وتكرر بين الماضي والحاضر . فقد وقع استرجاعه عن طريق خضراء التي استرجعت تجاربها لتكتسب الحركة بعدها الزمني . ولئن كانت ردة الفعل لا تقل همجية وتخريبا عما خربه الهلاليون فقد انتهت الرواية بفرض حالة منع الجولان واستجواب خميس سلامة الذي قتل أحد المضربين مدعيا أن مهمته قتل الكلاب السائبة وأنه قتل شبيه الكلب،  و تكرر الحدث حين غرقت المدينة ثانية في أمطار طوفانية .

فالجروح الغائرة تتكرر، وحالات الإغتصاب متكررة، وصورة المعتوه متكررة - خليفة القرد وحمة ولد خليل، والمناداة بشعار نصرة عزيزة متكررة، واستبدال الزوج بالعشيق متكررة، والأمطار الطوفانية متكررة، وفعل التخريب المعنوي مكرر بتخريب مادي، ومن ثمة تكتسب رواية " النزيف " دلالة عنوانها من خلال الشروخ النازفة والتي لم تعد قادرة على الاستتار، فالدم الطاهر الذي سال اغتصابا دنس طهارة المجتمع وفتح ردة الفعل إزاء النزيف، تماما كالطائر المكسور الأجنحة الذي يريد التحليق وإذا عجز عن ذلك فهو يقيم محرقته لأنه استشعر الهدم وزوال الحلم، فالنزيف أكبرمن أن يضمد، لذلك كان اللون الأحمرالذي صبغ به عنوان الرواية دلالة على الخطر الذي حدق بالمجتمع حين فقد المواطن كرامته .

النزيف بين الواقع والرمزوالألاعيب الفنية

تستند النزيف إلى مرجع واقعي حيث تطابقت وقائعها مع واقع المدينة التي كتب عنها، وتطابقت الأحداث مع تلك التي جرت في هذه المدينة، فالواقع الثري بالنماذج البشرية وبالأحداث المفصلية في تاريخ تلك المدينة وفي تاريخ البلاد التونسية ما جعل هذه الرواية واقعية بالأساس، لم يقم الكاتب بنسخها وإنما بضخ الواقع بطاقات الخيال التي تنسجم مع ذلك الواقع ولا تخرج عنه باعتبارها ممكنة الحدوث . فالرواية غير منفصلة عن جذور المدينة وشخصياتها المعروفة سواء كانت من علية القوم أو مهمشة، والرواية ترسم هوية المكان، وتواكب أهم حدث تخريبي عرفته المدينة في إضراب 1978 : " سمة كتاباتي كخط مدروس من البداية  وعن وعي تام، هو أن تكون الأحداث والوقائع مستمدة من واقعنا، وكما يحلو للبعض أن يقول من تاريخنا غير المدون . وهي في نظري شهادات على العصر لا بد أن تكتب ضمن أعمالنا الأدبية بحرفية، وإذا لم نسجلها نحن أدباء هذا البلد فمن الذي سيتولى ذلك ؟ لكن هذه الوقائع التاريخية كل كاتب له فيها زاوية نظر مخالفة لغيره، وبالتالي فإن الخيال سيحدد مجالات أو مساحات كبيرة للذهاب بعيدا لغاية فنية بحتة، ولا أرى في ذلك تشويها لهذا الواقع بل إبرازه ضمن لوحات درامية تكشف عن خفايا ما كانت تخطر على بال القارئ لأنها تاريخيا غير معلومة فتبدو انعكاسا للحدث الرئيسي ونتيجة، وبذلك يكتشفها القارئ وكأنه يطلع على هذا الحدث لأول مرة، وهذا في نظري هو دور الروائي، البحث المتواصل عما يزيل غبار النسيان عن تلك الوقائع من نوايا مختلفة تستفز مسلمات القارئ إذا لزم الأمر، وتبعث فيه الدهشة . وقد تكون هذه الوقائع من الخيال الصرف لا يشدها إلى التاريخ إلا خيط واه، وذلك هو الإبداع الحق "(4)

 ولكن الواقعية هنا وقع تطعيمها بالرمز الذي يفتخ مجالات لقراءة الواقع بإشارات رمزية فنية، ذلك أن الواقع قد يترك فراغات للرمز، وقد يترك تقطيعات ينفذ منها الرمز ليبلغ باللون والصورة المجازية والإشارة الخاطفة . والرمز وإن كان شفافا وواضحا فهو ينكتب بطريقة تنطوي على الإيحاء والاستعارة، فالرواية تستعير العنوان من النزيف حيث ينزف الجسد بتقطع أحد شرايينه، والمدينة قطع شريانها في حوادث التخريب التي عرفتها، وكأن النزيف فعل انتحاري مرضي في غياب لغة العقل والحوار، وفي تفجر حالة الكبت نتيجة المظالم الاجتماعية التي عرفتها المدينة، ثم إن الأمطار الطوفانية   وقد تركت روائح آسنة استحالت إلى نزيف يعكس بشاعة المشهد، أما خميس الأسود الذي استوت عنده صور البشر بصورة الكلاب السائبة فهو يعري عن الوجه المظلم لحراس أصحاب المؤسسات الذين حولوا البشر إلى مرتبة الكلاب الضالة، وكأن دمهم يستوي مع دم الكلاب وذلك هو المسخ والدنس . ويبقى كل من الدم النازف والأمطار الطوفانية   لتحيل هذه السوائل إلى التطهير والتجدد .

أما فنيا فقد توخى الكاتب التراجعية النفسية في رسم الشخصيات، فهو يعود إلى ذاكرتهم، إلى ذاكرة المكان الذي قدموا منه، إلى معاناتهم في الماضي سواء عبر النضال أو ارتكاب الجريمة أو ارتكاب فعل العهر، أو المعاناة من شظف العيش . وهو يقدم الشخصية كلما أدخلها في أحداث الرواية، ثم يحلل تلك الأحداث التي تنتقل من قصها على لسان الكاتب إلى التلفظ بها عن طريق الحوار، والكاتب وهو يعطي نبذة عن الشخصية في البداية يوحي للقارئ أنه يرسم تلك الشخصية بحياد، ولكنه يحملها وزر أفعالها عن طريق الحوار الذي لا يخلو في كثير من الأحيان من مكاشفة ومن نقد ذاتي، وفي لعبة الذاكرة والحاضر تتداخل الأزمنة وينفذ الماضي إلى الحاضر وذلك ما حدا الكاتب باستخدام تقنيتي التكرار والتوازي في العديد من المرات، فالأحداث والوضعيات المكررة ما هي إلا تناسل للعبة الذاكرة وهي تستحيل إلى دوائر تنعكس على الحاضر، وكأن الكاتب يكتب روايته " النزيف " المعبرة عن مرحلة تاريخية بروح الحادث، وكأنه يعيد اكتشافها للتو، وكأن اللحظة باقية طالما بقي فعل الكتابة  .

 

.......................

(1) النزيف، رواية للناصر التومي عن  ... في 2003 ط1

(2) ألسنة السرد، محمود طرشونة، الدار العربية للكتاب، 2007، ط1، ص95

(3) محمد زروق، البعد الواقعي في الرواية التونسية في رد الشخصية إلى الشخص في الخطاب السردي، مجلة قصص، العدد 126، أكتوبر-ديسمبر2003، ص118

(4) الناصر التومي في حوار مع هيام الفرشيشي، الملحق الثقافي لجريدة الصحافة، 2 ديسمبر 2005، العدد 512، ص 3

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1328 الخميس 25/02/2010)

 

 

في المثقف اليوم