قضايا وآراء

علي بدر والرواية العراقية المعاصرة

فقد رسمت بم?ارة فن?ة عال?ة تور?ط عائلة كرد?ة بحرب تجري تحت شعارات العروبة والبعث، وأثر سلوك الإزاحة على الدولة والمجتمع . ثم روا?ة (عجلة النار) لكل?زار أنور والتي تتحدث عن نفس المأساة من خلال ض?اع ضابط في الأ?واز وانعكاس ذلك على ح?ات? وعلى ظروف عائلت?. ويمكن أن نخص بالذكر أيضا مجموعة من اللوحات القصصية لسعد خيون البغدادي، الصادرة بعنوان (رائحة الصندل)، وهي عبارة عن نصوص ملتهبة ومحاصرة بالكوابيس والإحساس المستمر بالسقوط والموت والخيبات، وترافقها لغة تتألف من زلات اللسان، وبالمنطق : من زوايا اللاشعور المتورط والمتحفز.

و لكن بدأت رحلة المتاعب مع الروا?ة لدى العراقي علي بدر عام 2000 م، و?ذا ?تقاطع مع جملة من الأحداث ال?امة التي عصفت بالمنطقة، ومن?ا حرب الخل?ج الأولى والثان?ة كما أن?ا كانت في فترة الحضانة المشؤومة لغزو العراق من قبل قوات التحالف .

و ?ذا وحده لا ?كفي كي نربط العمود الفقري لمغامرت? الروائ?ة مع جو الإحباط العام وجو العبث، ثم أخلاق وسلوك الرفض التي ?ضع?ا أمامنا، وأكاد أقول التي ?تخصص ب?ا، ثم ?حاصر نفس? بد?ال?ز?ا، كب?وت الدعارة والمقا?ي الباردة في الشتاء والمحترقة بأتون الشمس في الص?ف والملا?ي الل?ل?ة التي ?رتاد?ا اللصوص والضباط السابقون ورجال الأمن الصغار والمتشردون، و?كذا دوال?ك...

و ?ناك في جم?ع روا?ات? عدة مشا?د، إن لم تعبر عن العنف وعن الطب?عة المعاد?ة لحب الح?اة داخل وطن? العراق وخارج? في عدة محطات، ?حق لنا أن ندعو?ا باسم المنافي : كدمشق وب?روت وأد?س أبابا وطنجة وغ?ر?ا، ف?ي تعب?ر صرف وبطر?ق المجاز المرسل عن القلق التار?خي المكبوت والناجم من جنون الإرت?اب على صع?د شر?حة الكاتب، أقصد الأنتلجنس?ا الثور?ة الم?زومة والمعرضة لمخاطر وجدان الانتظار (أن تأتي ولا تأتي كما ?قول ب?ك?ت، ومن بعده رائد الحداثة في الشعر العربي : الب?اتي).

?ذا أولا.  ثم الناجمة عن الطب?عة التار?خ?ة للعراق وبلاد الرافد?ن عموما . ف?ي كما ذكر المفكر الكب?ر حسن العلوي (2)، في عدة مناسبات، كانت على استعداد منذ فجر التار?خ للدخول في دوائر الأزمات أو الفتن الس?اس?ة . كما أن?ا ش?دت تناقض?ن دمو??ن في ن?ا?ات الدولة الإسلام?ة ب?ن السلاجقة والصفو??ن، ثم في خر?ف القرن العشر?ن ب?ن العرب العاربة والعرب الأغ?ار .

و أعتقد أن ?ذه إشارة خف?فة ود?بلوماس?ة إلى صراع السنة والش?عة، وإن كان ?تملص من ?ذا المعنى الضمني بطب?عة الثغور وضرورات التوسع للس?طرة على مكامن الثروات، وبالتكوين المختلط للشعب بسبب الاحتكاك مع الوافدين، وغيره، وغيره...

إن فن الروا?ة لدى علي بدر ?و فن مأزوم منذ البدا?ة، وإن العقدة أو الحبكة بالمصطلح النقدي لم تكن تنطلق شرارت?ا من الصراع ب?ن الأشخاص ولا من الانتقال في الحكا?ة من طبقة في الأحداث إلى طبقة غ?ر?ا، ولكن من التضاد ب?ن الظا?ر والمستور.

لقد كان علي بدر في مجمل أعمال? ?كافح تلك الأخطاء المغمورة، والتي ?ي بالنسبة ل? التار?خ غ?ر المكتوب أو نثر الح?اة والعالم، لو شئنا الاحتكام لمفردات فوكو.

ثم في المقام الثاني كان ?عوّل في دفع عجلة الروا?ة وفي تحر?ك?ا على عنصر?ن أساس??ن:

1 - انعكاس مشا?دات? على مرآة أو م?زان شخص?ت? . ول?ذا السبب ?ستخدم، في معظم الأح?ان، تكن?ك ضم?ر المتكلم، فالكاتب ?و بطل الروا?ة والخ?ال لد?? ?توازى مع الواقع.

2 - التناقض ب?ن الإثم والبراءة . وأح?انا التناقض ب?ن فطرة الطب?عة وشرور المجتمع . و?ذا في الحق?قة ?و محور واحدة من أ?م روا?ات? (صخب ونساء وكاتب مغمور) (3).

لقد استطاع علي بدر و?و في وسط تجربت? مع فن الرواية (العص?ب) أن ?ضعنا مع أشخاص ?حدو?م ?م واحد : التمسك بالجنة. ونستط?ع بقل?ل من الاستح?اء أن نقول : البحث عن الفردوس المفقود.

و ?تبقى قبل الختام أن أش?ر إلى الحلقت?ن اللت?ن توزعت عل??ما مجمل كتابات?.

1 - الأولى و?ي ?موم? الوجود?ة . و?تلخص موضوع?ا بالمأساة المحزنة للخسارات على صع?د الذات، ح?ث الفقر والتخلف والاستعمار. وعلى صع?د الموضوع والحقبة ح?ث فج?عة كل الماركس??ن بمركب?م (و حسب لغة الس?اب بمعبد?م) الغر?ق، وضرورات شد "حزام الإ?د?ولوج?ا" على الخصور قبل التفر?ط بآخر ذرة من الكرامة الشخص?ة وآخر حصن للمقاومة على خط النار. و?مكن أن أضرب مثالا نموذج?ا على ذلك بروا?ت? البسيطة (الركض وراء الذئاب) (4)، و?ي نص ?تبنى أخلاق المرا?ا المتعاكسة وتكن?ك الرحلة . ولكن كان بمقدورنا دائما ونحن نتابع رحلة الشخص رقم 1 وتنقل? ب?ن عواصم وحواضر ?امة تمتد على ضفاف الأن?ار الكبرى وعلى شواطئ المتوسط أن نلمح أط?اف روائ??ن آخر?ن ?نتمون للصف الأول من ?ذا الفن، ولا س?ما ن?بول مؤلف (نصف ح?اة، والبذور العج?بة) (5)، وما ?وجد خلف ذلك من مفا??م كمبدأ الثورة الدائمة وصورة الثوري العالمي .و أخ?را، ولكن ل?س آخرا العطالة الثور?ة والفدائي المتقاعد.

 و?جب أن لا ننسى أ?ضا التنو?? بالعلاقة غ?ر المباشرة ل?ذا (الخط) من ح?ث التكن?ك والمضمون مع نموذج (ثائر محترف) لمطاع صفدي (6)، الروا?ة المل?مة التي حرضت أفراد الج?ل الغاضب والضائع ممن عاشوا خص?صا لتحمل أعباء النكبة وخ?بات الحكومات العسكر?ة المتعثرة أو العم?لة.

ثم ?جب أن ننوه بالبعد الثالث ل?ذه الروا?ات و?ي روح الت?كم برطانة حز?نة و?جائ?ة لا تخلو من?ا، إجمالا، النصوص المتألمة والتي ?دف?ا البحث عن مصادر الانحراف والشذوذ والسقوط والسخر?ة و?لم جرا.

?ل بوسعنا أن نقترح العنوان العر?ض التالي لنصوص علي بدر : ?جاء ورثاء الزمن الض?ق ؟.

ربما..

2 - الثان?ة، و?ي وجدان? الشعبي والفولكلوري . وب?ذا الخصوص كان ?محض أقصى ا?تمام? لجم?ع مكونات الشعب العراقي من أصول وطوائف ومذا?ب وإلى درجة الاستغراق حتى الو?م والتلف?ق لمفا??م روح?ة غ?ر موجودة. لقد كانت محبة علي بدر للمكان ت??ب ب? لاختلاق أساط?ر وعقدة ملحم?ة مكونات?ا من الخ?ال ومن وراء التار?خ . وبلغ ذلك في روا?ت? (الطر?ق إلى تل المطران ((7) حتى درجة العشق الصوفي . و?نا ?قترح الموضوع والإطار العام عل?نا دلالات ل?ا مرتبة الوحي، بصفة أن? ملقن للظروف والأحوال ثم حامل للرسالة والمعنى . وفي الن?ا?ة بصفة أن? وس?ط ?تحلى بق?مة إبلاغ، وللتوض?ح أقول ق?مة تبل?غ.

و أعتقد أن ?ذه الوجبة الدسمة من العشق أو الغرام قادت? إلى تفاص?ل تدخل في باب لزوم ما لا ?لزم، وفي نفس الوقت إلى تفك?ك فن الروا?ة نفس? . لقد تطور النص في ?ذا النموذج ب?ن قوس?ن متعاكس?ن : وجدان?ات أرستقراط?ة باردة تذكر بتراث ج?ن أوست?ن صاحبة الخطوة البط?ئة والثق?لة والمصابة بشحوب في الألوان والمعا??ر . ثم م?تا- نص مس?ب ومسرف ?ذكر بأمبرتو إ?كو وبفذلكات? التار?خ?ة وبفائض الق?مة لحداثة تدا?م الواقع وتصنف? في عداد الأو?ام ول?س الثوابت.

و لكن على ما ?بدو إن فن التفاص?ل ?و بذات? في نفس الوقت الفن الأص?ل المؤ?ل لإزاحة الستار عن موطن الشر ومكامن الضغائن في العالم . ومن ?نا ?تحول إلى ضرورة محتمة، ثم إلى جزء عضوي من اتجاه الخطاب ذات?. و?ذا ?نطبق وبصورة نموذج?ة ومثال?ة على رائعت? (حارس التبغ) (8). إن ?ذه الروا?ة ?ي نقطة نور في ظلام دامس، وب?ا ?ضع علي بدر حدا لتكن?ك القناع الذي ?ستر ب? الإنسان عورت? وعر?? الأخلاقي والوجداني تم??دا للدخول إلى أعتى النوازع الأنان?ة والمدمرة على صع?د الأفراد، وإلى أبشع لحظات الضعف الإ ?د?ولوجي والتار?خي على صع?د الأوطان . والإشارة ?نا ل?س إلى خ?انة الرجل لامرأت? الشرع?ة، ولكن لغدره بالجندر والحب في وقت واحد. ثم لقطع الخ?ط الذ?بي الذي ?ربط الإنسان ب?و?ت?، والأرض بتار?خ?ا.

إن ?ذه الروا?ة ح?ن تعتمد بكل ثقل?ا على أسلوب الدوائر المتداخلة، تقدم لنا أعذب وأرشق صورة لثلاث محطات حاسمة في ح?اة الشرق الأوسط. و?ي بالتحد?د: نكبة 1948، وغزو الكو?ت، ثم ورقة الضد : غزو العراق. أ?ضا إنها تعمل على تقش?ر المستو?ات المتراكمة من شخص?ات الصفوف الأولى كالأبطال ورجال الد?ن وسدنة (الب?ت)، أعني رجال الدولة . و?كذا ?تطابق صوت الزع?م الثوري مع العم?ل والخائن . وتندمج ملامح الدعاة إلى التجد?د مع من ?حمل لواء الدعوة إلى الماضي الجامد والمنصرم . وإن أ?م نقطة بالموضوع ?ي التعر?ف الجد?د الذي تقدم? الروا?ة لمعضلة أو التباس معنى ال?و?ة : من أ?ن ?نبثق أصل الشخص . ومتى تبدأ الأصول بالتكو?ن والتملك . وهل ?ذا ?رتبط بأو?ام من التار?خ ?ذك??ا اتجاه خط الأحداث الس?اس?ة (حسب التصورات السائدة لدى ال??ود)، أم أن?ا حزمة من الحقائق والأفكار والأسال?ب..

و?نا ?قترح علي بدر مف?وم? التعو?ضي : إن أ?ة ?و?ة في ?ذا الوجود العابر ?ي مجرد حراسة ل?و?ة أخرى دائمة، ولكن?ا تنام في الأعماق بانتظار توق?ت?ا ودور?ا، و?ذا صح?ح أ?ضا ح?ن ?نتقل للحد?ث عن معاناة الم?اجر الدائم إدوارد سع?د، الشخص?ة المعقدة والمتقاطعة مع عدة أصول واتجا?ات، في (مصاب?ح أورشل?م) (9).

كلمة أخيرة، بتطبيق مفهوم الوحدة الروائية (أو بالمصطلح الحديث : ذات الموضوع وذات التكنيك) على نصوص علي بدر، بوسعنا أن نحصر مجمل أعماله في ثلاثة خطوط :

أولا، الرواية العائلية. ويبدو فيها أكثر انسجاما مع أخلاق الرواية التراجيدية، حيث التركيز على البيت الكبير ومحتوياته، ثم الذكريات، مع الانتقال من الصور القديمة الدافئة إلى عالم مجهول تحكمه أشباح من غير أسماء وقلوب فوضوية بشعة، ولكنها تبحث عما تبقى لها من (صور جميلة) (10) ...

ثانيا، رواية السيرة الشخصية، والتي لا تقدم لنا غير معلومات مرضية عن انحراف الأفراد في مجتمع على وشك الانهيار والتفتت، وعلى وشك فقدانه لجميع أنواع الهوية والانتماء والمرجعيات.

و ثالثا، رواية المرحلة . ودائما يبدو علي بدر فيها بعيدا عن الإطار الديالكتيكي للتاريخ، بمعنى أن الأحداث تعوم فوق الأسباب، وتتطور وراء ستارة كثيفة من النسيان والإهمال واللامبالاة. أو أنه كما قال لاكان : ينتقل بطريقة حزينة من اللاشعور إلى العالم، ومن العقدة النفسية إلى طرائق تصويرها . وهذا يعني ضمنا تخطي أسباب العصاب وليس أساليب التعبير عنه . لذلك إن النص يبدو مثقلا بالخطايا غير المفهومة والمشوقة، والخطاب يكون كآبيا.

على أ?ة حال، إن علي بدر ?و الإبن الشرعي لمشاكل وطن? العراق، بحدوده الس?اس?ة بعد الاستقلال، ولمشاكل فن الروا?ة بعد أن دخلت في مرحلة الانفجار والتضخم وتحولت من تسل?ة وترف?? لطبقة بورجواز?ة ناشئة إلى خطاب فني ??تم بجم?ع الطبقات وكل المراحل.

 

?وامش :

 

1 - نشرت روا?ة موسى الس?د في دار الحوار بسور?ا عام 1983، وتجد فيها ظلا ثقيلا لماركيز وروايته القصيرة (ليس لدى الكولونيل من يكاتبه)، ولكن يطيب لي أن أتجرأ وأقول إنها تبدو أعمق من ناحية التفاصيل وأشد تركيزا بالتعبير عن المرارة الناجمة من أثر الإزاحة في الدولة والمجتمع . كما صدرت رواية كليزار أنور في بغداد، ونصها منشور في مجلة القصة السورية الإلكترونية. وكذلك كان صدور قصص (رائحة الصندل) في بغداد عن مديرية الشؤون الثقافية، وتجد جزءا منها في مجلة أورنينا الإلكترونية للثقافة العامة.

2 - لقاء مع حسن العلوي . برنامج حوار خاص . قناة الحرة الفضائية . الجمعة 6 – 2 – 2010 .

3 - المؤسسة العرب?ة للدراسات والنشر . ب?روت . 2005

4 - المؤسسة العرب?ة للدراسات والنشر. ب?روت . 2007

5 - V S Naipaul : Half Life  وMagic Seeds .

6 - منشورات دار الطل?عة. ب?روت . 1961

7 - دار ر?اض الر?س . ب?روت . 2005

8 - منشورات المؤسسة العرب?ة للدراسات والنشر . ب?روت 2008.

9 - مصاب?ح أورشل?م : روا?ة عن إدوارد سع?د . المؤسسة العرب?ة للدراسات والنشر. بيروت  2006 .

10 - وهذا ينسجم بدقة عالية مع روايته شتاء العائلة. دار الشؤون الثقافية . بغداد . 2002 .

 

 

صالح الرزوق - 2010

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1330 السبت 27/02/2010)

 

 

في المثقف اليوم