قضايا وآراء

الشقراق

السحيقة حتى توقفت وتوقفت طويلاً في بلاد سومر حيث ملحمة كلكامش الشهيرة وعشتار وطائر الشقراق الذي ظلمته عشتار وكسرت جناحيه حتى ما عاد بعد تلك الكسور قادراً على الطيران وممارسة حريته الطبيعية في الحركة والبحث عن الطعام واكتشاف العالم المحيط به واختيار شريكةً له أنثى {شقراقة جميلة} تُديم معه حياة جنس الطيور ومنها جنس الشقراق . سياحة مغرية جادة فيها أدب رفيع وخيال قادر على التحليق المنافس لتحليقات الطيور وفيها قوة خارقة تبعث في القارئ التفكير في أكثر من سؤال في مقدمتها حسب قناعتي : ما رمز طائر الشقراق للقاصة المبدعة نبال شمس وما أسباب جمعها لهذا الطائر الجميل المكسور الكسير المظلوم وكاسرة جناحيه عشتار آلهة الخصب والنماء في الحياة فضلاً عن آلهة الشعر آراتو ؟ ليس عسيراً فهم رمز الطائر إذا ما فككنا رؤوس هذا الهيكل الثلاثي الذي صممته نبال وهندسته بدقة وصبر وركّزنا عليه لا علي غيره ولكن الإشكال يظلُّ إشكاليةً معقّدة فيما لو أخذنا رؤوس المثلث أو أضلاعه الثلاثة مجتمعةً معاً . هذه معادلة من الدرجة الثالثة صعبة وبالغة التعقيد لكنَّ القاصّة صاحبة الطائر الجميل نجحت النجاحَ الأوفى في معالجة هذا الثالوث والسيطرة المحكمة على أضلاعه طولاً  وقِصراً وعلى زواياه درجاتٍ وتحديد مركزه الذي جعلته دينامياً متحركاً لا ثابتاً كيما تُحكم سيطرتها على تحريك الأحداث ورسم الصور والتنبؤ بالمستجدات والنتائج المترتبة على كل نقلة ونأمةٍ وحركة . إنها عالمة بأصول هندسة التجسيم وبعلم المثلثات وحساب الزوايا . إختارت التصميم الهندسي الثلاثي لأنها كأنثى تدرك غريزياً خطورة الإرتكاز والإستقرار وضبط خطوط وإتجاهات الحركة فحاجة الأنثى للإستقرار أكبر من حاجة الذَكَر إليها .

 

من جميل بعض حوارات آلهة الشعر < نبال القاصّة نفسها > مع الطير الجميل المكسور إخترت الحوار القصير التالي:

[أراتو: يا وَجَعي ... يا وجعَ حرفي المُختلس في حلكة الفجرِ ... وصوتُ الطيرِ يقتلُني ... يذبحُني ... يُرهقني .

إرحلْ / لا ترحلْ !

إبقَ / لا تبقَ !

فأنتَ الطليقُ وأنا المُعتقلةُ في وطني .

كان الطائرُ يُنصتُ لأراتو الحزينة فرفعَ رأسهُ قائلاً :

أنا المكسورُ مُنذ بِدءِ التكوينِ .

أنا النازفُ حُبّاً ودمْاً وألماً .

 

بين عيدان القصبِ وجدوني ناراً تلألأتْ على وجه الزمن . فوق جراحي رحيقُ شوكٍ في ليلٍ أسودَ]

أعود لسؤالي السابق إيّاهُ : ما الذي جعل القاصة الساردة تتقمصُّ حتى التماهي والحلول في روح طائر مسالمٍ جميل الريش مظلومٍ كسيرِ الجناحِ ينزفُ مُنذُ بِدءِ الخليقة دماً وحبّاً؟ إنه حوار {دايالوك} ثنائي نادر ساحرٍ بقدر ما هو حزين يثيرُ في نفس القارئ أكثر من شَجَن . طائرٌ يتكلم بلسان تفهمه آلهة الشعر وتتجاوب معه ويرد على تساؤلاتها ببلاغة وطلاقة وتفهم عميق لما في أسئلتها من قضايا وجودية مصيرية ولا من عجب حيث إنها قالت بلسانها {صوتُ الطير يقتلني} فما تفسير هذا الود وهذا الإنسجام والهارموني بين طير وآلهة ؟ بأية لغة تحاورا وبأي لسان؟ {يا وجعي} قالت أراتو تخاطب طيرها ... فهل تفهم من هذا الكلام أنها هي نفسها كصاحبها مظلومة كسيرة النفس والجناح فوجدت فيه القرين الند المواسي إذ حين تختلط الجروح والجروح والدماء مع الدماء تخفُّ المأساة ويخف الشعور بالألم ؟ وهذا هو أساس الحزن الجماعي وفلسفة جماعية الأحزان وخفة وطأتها بتلاقي واجتماع الحزانى بكاءً وندباً ولطماً وتراثنا العراقي ثريٌّ بالشواهد على ما أقول . {يا وجعي ... صوتُ الطير يقتلني ... يذبحني ... يُرهبني} . صوتُ الطير هو صوتك يا آلهة الشعر القتيلة المذبوحة المُدمّاة ودمه المُراقُ غدراً هو بعض دمك يا آلهة مغلوبة على أمرها . القاصّة في هذا المشهد السينمائي المؤثّر إنما تلعب الدورين بالتناوب وبقدرة ومرونة فذّتين مع الحفاظ على التوازن الحرج في أداء وتمثيل الدورين خاصةً والطير مذكّرٌ وآراتو هي أنثى (أم أنَّ الألهة محايدون لا هم بالذكور ولا هم بالإناث فلا يتناسلون وهم رغم ذلك خالدون أبدَ الدهر والزمان؟) .

 

إنصرفَ الأدباءُ والكتاّبُ والمثقفون للكتابة عن أنكيدو وكلكامش ثم عشتار وحبيبها تموز لكنَّ أحداً منهم لم يلتفت إلى مأساة طائر الشقراق ولم يُدنْ عشتار التي كسرت جناحيه ولم يسألها أحدٌ عن أسباب ودوافع جنايتها تلك غير المبررة غير طاغية سومر البطل الأسطوري كلكامش نفسه فإنه الوحيد الذي وضع مأساة ومظلومية هذا الطائر أمام عيني الجانية عشتار لا من باب الإدانة والتجريم لكنْ من باب التحقير والتذكير بجرائمها المتعددة بحق الطائر وحق الحصان والراعي كتبريرات وحجج قوية مقنعة لرفضه الزواج منها وقد عرضته عليه فأجابها (2)

[ أيٌّ من عشّاقكِ مِن أحببتهِ على الدوام؟

وأيٌّ من رعاتكِ من أرضاكِ دائماً؟

تعالي أقصّ عليك مآسي عشّاقكِ:

من أجل تموز حبيب صباكِ

قضيتِ بالبكاءِ والنواحِ عليهِ سنةً بعد سنةٍ

لقد رمتِ طيرَ الشقراق المُرقّش

ولكنكِ ضربتهِ وكسرتِ جناحه

 

وها هو الآنَ حاطٌّ  في البساتين يصرخُ نادباً :

"جناحي جناحي"

ورمتِ بحبكِ الأسدَ الكامل القوّة

ولكنكِ حفرتِ للإيقاع به سبعَ وسبعَ وَجَراتٍ

ورمتِ الحصانَ المُجلّي في البِراز والسباقِ

ولكنكِ سلّطتِ عليه السوطَ والمهمازَ والسيرَ

...

 

وأحببتِ راعي القطيع

الذي لم ينقطعْ يُقدّمُ إليكِ أكداسَ الخبزِ

وينحرُ الجِداء ويطبخها لكِ كلَّ يومٍ

ولكنكِ ضربتهِ وحوّلتيه ذئباً

 وصار يطاردهُ الآنَ إلفهُ من حُماة القطيعِ

وكلابهُ تعضُّ ساقيه] . 

 

لي مع الشقراق قصة طريفة . الطائر والإسمُ السومريُّ ما زالا معروفين  ومتداولين في العراق حتى اليوم . أتذكره جيداً في المناطق القريبة من آثار بابل  : طائر إنعزالي مسالم وديع كتوم خجول جميل الريش بلونين الأزرق السمائي التركوازي الغالب / لون الشذر / ثم الأزرق الغامق وهو قليل على طرفي جناحي الطائر . منقاره طويل وهيكله بقدر هيكل طائر الزاغ الأسود . يعيش في حفر في تلال ترابية منخفضة ولا يطير بشكل مجموعات أبداً بل ولا يحطُّ على شجر ولا على أسلاك التلفون والكهرباء ولا يجتمع ببعضه حين يحط لهنيهة قصيرة قرب حفرته لمراقبة الوضع وخلوه من الخطر . كنت أزور مناطق سكناه قريباً أو على تلك التلول الترابية خاصةً في أوقات الربيع حيث موسم جمع الكمأة والمشروم . ولكم تمنيتُ أنْ أصطادَ واحداً منه وأربيه في قفص خاصٍ في بيتنا ولكنْ هيهات ! لا أنا كنتُ قادراً على تحقيق تلكم الأمنية ولا أيٌّ من أترابي وكان فينا صيادون مَهَرة . لم أزلْ أتذكر تلك العصريات حيث كنت وأصدقائي أطفال السنة الرابعة الإبتدائية نُقضّي أوقاتاً كأننا في حلم سريع العبور نتمتع بمشاهدة هذا الطائر  الجميل العجيب في سلوكه وأطواره والذي لا يشبه باقي الطيور ... نتمتعُ لكنْ نتحسرُ أننا لا نستطيعُ إقتناءه ولم نرَ في البيوت مثيلاً له . ما سرُّ إحتفاظه حتى اليوم بإسمه السومريِّ القديم؟ وما سرُّ شذوذ مسلكه وباقي طبائعه عن سائر الطيور؟ لماذا يميلُ للعزلة ولا يميلُ للتجمعات؟ أهو نوعٌ من الدفاع عن النفس لحفظ الجنس؟ هذا هو شقراق عشتار وأراتو ثم نبال .

 

.......................

هوامش

1 ـ على جفن البنفسج / نصوص للسيدة نبال شمس، الصفحة 141 . دار النشر ؟ عام النشر؟

2 ـ ملحمة كلكامش، الصفحات 113 / 114 . المؤلف: طه باقر . الناش : دار المدى، دمشق، الطبعة الخامسة  1986، طبعة خاصة .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1331 الاحد 28/02/2010)

 

 

في المثقف اليوم