قضايا وآراء

أهناك شاعرات في العراق؟: قصيدة (قصائد مهجّرة) لنجاة عبد الله نموذجا

بوجهٍ جاحدٍ

ولحية افغانية ...)

              (نجاة عبد الله)

مقطوعة (غيمة) – مجموعة (ذات وطن)

 

(انتهتْ رحلتي الساحرة

لم يتبقَ في قبضتي

شيء من الرقة

ودأبتْ أصابعي

تقشـّر كتاب العراق

سأبدأ غداً بالعويل

والتلصّص

على الجثثِ البرونزية

وتقليمِ أحزاني تحت السرير )

                      (نجاة عبد الله)

       قصيدة (رحلة) – مجموعة (ذات وطن) 

 

لمن أنكر وجود شاعرات في العراق أقول العراق متخم بالشاعرات، وهذه الشاعرة "نجاة عبد الله" التي ندر أن قرأت لها نصا عاديا أو مفبركا، وقد يندهش القاريء من وصف "المفبرك"، إذ كيف يفبرك الشاعر الشعر؟ وكيف يصطنع القصيدة؟ فأقول أن من المضاعفات المرضية لسوء فهم معنى الحداثة وما بعد الحداثة (وهل نعرف كمثقفين عرب ما هي الأخيرة ونحن نرددها كتلاميذ خائبين؟ يعلق (أوكتافيو باث) في كتابه "الشعر ونهايات القرن" على المصطلح قائلا: لقد سمّيت المرحلة الحالية مرحلة "ما بعد الحداثة" وهي تسمية ملتبسة . فإذا كانت حقبتنا هي "ما بعد الحداثة" فماذا سيسمّي أبناؤنا حقبتهم؟ ما بعد بعد الحداثة؟ ويعتقد عادة أن مجموعة الأفكار والمعتقدات والقيم والممارسات التي تميّز ما سمّي بالحداثة تتعرض الآن لتغييرات جذرية . فإن صحّ ذلك فإن هذه المرحلة لا يمكن تسميتها "ما بعد الحداثة"، بل ببساطة هي ما جاءنا بعد الحداثة، إنها شيء مختلف . شيء له مواصفاته الخاصّة به . وذلك على الرغم من أنها ماتزال في طور التكوين والتشكّل – هل لهذه المداخلة علاقة ببحثنا؟ .. سنرى في النهاية) هي تحوّل الشعر إلى لعب لفظي وصور ملغزة في قصيدة النثر خصوصا حتى أن مبدعا كبيرا مثل (مظفر النواب) قال لي في لقاء معه قبل أشهر إنه أمضى أكثر من نصف قرن في كتابة الشعر لكنه لم يعد يفهم الشعر الذي يكتب الآن !! . وتجري هذه المحنة وراء أستار من المهادنة بين النقاد والشعراء "الجدد" ممن يدّعون الحداثة . حتى في أوربا انتبه النقاد إلى هذه اللعبة وكانت الفضيحة التي رتبها أحد الأساتذة في إحدى الجامعات الفرنسية والتي جمع فيها مقاطع من مقالات بنيوية مختلفة ولا على التعيين وأرسلها إلى المجلة البنيوية الأكثر شهرة في بريطانيا والتي نشرتها باعتزاز ومع مقدمة !! . لكن هل تستطيع تمييز الشعر المفبرك القائم على اللعب اللغوي والتلغيز الصوري المصطنع من الشعر الحقيقي الذي - وبفعل الفهم الصحيح للحداثة - يجنح أيضا إلى التكثيف والتركيز والإنزياحات والاستعارات الغريبة فيصبح غير يسير على الفهم المباشر؟ نعم، يمكن ذلك . وهنا تظهر الحاجة للناقد كي يميز العملة الشعرية الجيدة من العملة الرديئة وليس من أجل التدخل بين النص والقاريء لمضاعفة شحنة ووعي الاستجابة النفسية الأصيلة حسب . ولنأخذ قصيدة للشاعرة نجاة عبد الله كأنموذج تطبيقي ولتكن أول قصيدة في مجموعتها "ذات وطن" التي - أي المجموعة - سيصدمك إهداؤها المتخم بالروح التحرّشية والخروج على السائد، إهداء قالت فيه نجاة:

(إلى وطني السعيد: العراق عليه السلام !!)

وقد قلت مرارا وتكرارا أن الروح التحرّشية هي من بين أهم صفات النص الشعري التي أفرزتها الحروب التي عصفت بوجود الشعراء ووجود شعبهم ووطنهم، والحصار المميت الجائر منذ عام 1980 . في هذه الروح التحرشية تُنقل الأوصاف والألقاب والمسمّيات من سماوات المقدّس إلى تراب العادي الأرضي وحتى المدنّس . هنا ينفض الشاعر يديه من خديعة الاعتماد المتطاول والكسول على المرجعيات الروحية والاجتماعية والسلطوية المؤسسة ويبدأ بالالتفات إلى قداسة قدره ومصيره الفردي بتجلياته اليومية وتفصيلاته الصغيرة والمبتذلة . حتى اللغة تفقد قداستها القاموسية والمرجعية لأن الشاعرة – ممثلة لما يحتدم في نفوس أبناء جيلها - تدرك أن واحدة من أخطر مظاهر عبوديتنا هي العبودية اللغوية . وإذا كانت صفة (عليه السلام) مخصصة للأنبياء والأولياء والصالحين باتفاق جمعي يتخذ صيغة دينية وتربوية آمرة تترسخ في الوجدان الهش منذ مراحل الطفولة المبكرة من دون أن تتعشق بعملية تبريرية موازية أو بتجسيد عملي للأحقية فإن جسد هذا الوطن الذي تهشم صدره حوافر الخيول وتدك أضلاعه سُرف الدبابات منذ فجر التاريخ هو سيد شهداء أوطان هذا العصر، سيكون من فروض الإيمان بالله، ومستحقا - بل أقل من حقه المتأصل - وصف عليه السلام . وتستهل نجاة قصيدتها الأولى " قصائد مهجّرة " بالقول:

(أنظرْ يا حبيبي:

المطرُ يفترسُ الشباك

ورأسكَ مثقلٌ بأولِّ الأنباءِ)

ومن هذه اللمحة الاستهلالية سنجد أن كل شيء ؛ كل مفردة، كل فعل، كل صورة، كل تسلسل لغوي أو مشهدي، كل استعارتين متتابعتين، وكل تركيب مقطعي، محسوب من جانب، ومقصود من جانب آخر، وهذا هو جوهر الحداثة في الفعل الشعري، أن يكون لكل مكون من مكونات النص دور وغاية ووظيفة رابطة لخيوط نسيج النص . فبالفعل (أنظر) تحيلنا الشاعرة إلى مشهدين علينا - على حبيبها قبلنا ومن خلاله طبعا - أن ننظر إليهما: المطر الذي يفترس الشباك، ورأس حبيبها الذي تثقله أول الأنباء . المشهد الأول مهما كان عنفه هو مظهر لفعل الحياة في هياج غريزة النماء الوحشية، يحصل في الخارج، فيصعّد- بالمقابلة والمقارنة - من "خمود" فعل الرأس الذي"افترسته" أوائل الأخبار، وهو فعل ساحته في الداخل . هنا يتناشز إيقاع عالمين: عالم الطبيعة الخارجي ممثلا بفعل عنفوان المطر الإخصابي المستفز لقوى الحياة، وعالم الذات الداخلي، الذات المجهدة التي أوصلتها ضغوط الحياة المرهقة إلى  هاوية الاكتئاب . ولأننا أصلا نؤمن أن لا شيء عبثيا في السلوك البشري، ولا حركة لغوية أو فعلية عشوائية، وأن حتى هفوات الإنسان الكلامية والعملية تحمل غائية مستترة، فإن استخدام الفعل "يفترس" يرتبط خفية بالرأس المثقل . وهنا تتضح القصدية اللاشعورية - ولاشعور الشاعر هو شعوره - من جانب، وعبقرية اللغة العربية الجبارة التي تُتهم ظلما باللاحداثة والجمود من جانب آخر . فالجذر فرس، فرسا الأسد فريسته: دقّ عنقها، والعنق المدقوق يقارب الرأس المرهق الذي يتجسد وهنه البالغ هو أنه ثقل لأبسط الأنباء التي دقت إدراكه وغيبت صحوته، أي أن فعل الافتراس الإيجابي الذي يقوم به المطر يقلبه انخذال الرأس السلبي الذي أصاب الحبيب . ويتقابل أيضا - وبصورة قد تبدو غير مقصودة في الظاهر لكن اللاشعور ينسج خيوط شباك علاقاته خفية وبمكر – فعل المطر الإخصابي مع المضمون الرمزي الإنخصائي بما يمثله الرأس من معاني الإرادة والذكورة بالنسبة للحبيب . ولغةً - ويا لعظمة اللغة العربية – فإن الجذر نفسه يعني تثبيت النظر وإدراك الباطن من نظر الظاهر، ونظر وثبّت نظره فيه، وهو فعل يتعلق بالرأس، كما يعني: تراب أبيض يُبسط على السطوح ويُحْدل فيُتقى به تحلُّب مياه المطر إلى المنازل . وكاستهلال استدراجي تبدو دعوة الشاعرة حانية ومتعاطفة من خلال تلطيف وقع الفعل الآمر (أنظر) بالنداء الحبي (يا حبيبي) . وهكذا يأتي الاستهلال هادئا ومخططا للتمهيد للخطاب اللاحق الذي تسترخي فيه انتباهتنا من خلال الظرف (بين) المتصل بما الزائدة والذي تجعلنا الشاعرة من خلاله نمضي في توقعنا المسترسل في أنها ستكمل خطابها المتصالح والهادىء مع حبيبها وإذا بها تفاجئنا وحبيبها بسؤال مباغت هو: هل تعلم؟:   

(بينما .. هل تعلمُ؟

لا أحدَ يهذي

في هذا اليومِ الموجعِ)

وتنبري الشاعرة للإجابة على سؤالها الذي وجهته لحبيبها المثقل رأسه، والذي قد يوصله التشوش إلى الهذيان، فتنفي أن يكون أحد ما قادر على الهذيان في هذا اليوم الموجع . وهذا نفي يؤكد الحقيقة المعاكسة ويؤجج الواقع القاسي المخالف، فإذا لم يهذي الإنسان بتأثير الوجع، فتحت أي مؤثر ستتهشم روابط خطابه ويتصدّع وعيه؟ . لكن - ومن جديد، وكل حركة محسوبة حدّ الملم كما يقول العامة -، فإن تماسك الناس الظاهر بوجه الوجع هو استدراج يوغل في إرخاء قبضة انتباهتنا لتأتي الصورة الطاعنة في المفارقة حيث يصمت الإنسان بينما تهذي (تقرقر) المدفأة المعدنية، المدفأة التي (تؤنسنها) الشاعرة وتحمّلها كلّ سخطها على صمت البشر المذلين الذين لا يهذون محتجّين مهما أنبت فيهم وجع المهانة أنيابه، فتنفعل هذه الأداة الجامدة وتبدأ بشتم البلاد والنفط في موجة سخط عارمة هي نوبة (مُسقطة - projected) من مرجل الداخل المقموع:

(لا أحدَ يهذي

في هذا اليومِ الموجعِ

غيرَ قرقرةِ المدفأةِ

وهي تلعنُ البلادَ

والنفطَ

والبطاقةَ التي هَجَرتْ

رقمَ الزقاقِ

وداءِ المحلةِ

وسحنةِ البيتِ)

وبحرقة ماحقة يتحول رقما المحلة والبيت اللذان يكملان رقم الزقاق على البطاقة التموينية الملعونة المباركة التي لم تعد توفّر النفط اللازم لتشغيل المدفأة، إلى داء المحلة وسحنة البيت، وبقي رقم الزقاق الوحيد المحافظ على طبيعته الأصلية التي لن تعود ذات نفع بعد إلا في توسيع لعنة الخواء والسخط واليأس، فهو يوصل ويفيد في التعرف بين سحنة البيت وداء المحلة، لينسرب الداء الموجع إلى أوصال البيت المرتجفة . وفي عودة ثانية إلى فعل الهذيان تعيدنا الشاعرة الحاذقة وبقصدية عالية إلى موضوعة الاستهلال: الرأس، لكنه الآن رأس يهذي، هو رأس الشاعرة المثقل بآخر الأنباء:

(لا أحدَ يهذي

في هذا اليوم الدافئ جداً

غير رأسي المشتعلِ

 بآخر الأنباء)

والشاعرة الممسكة بشروط الحداثة "لا تنسى" كيف بدأت، ولا تفرّط بطاقة المفردات والصور التي استهلت بها قصيدتها، وها هي "تغلق" هذا المقطع بالعودة إلى مرتكزات البداية، لكن بعد أن جعلت اليوم الموجع يوما دافئا جدا، والرأس المثقل بأول الأنباء مشتعلا بآخر الأنباء، وبهذا تكون العلة والمعلول متناسبين، والسبب والنتيجة متوازنين . فقد تراكم فعل الأخبار الباهظ، وأهاج آخرها توترات الذهن وصخبه الناقم . وقد يعتقد المتلقي أن هناك تناقضا بين الإشارة إلى المدفأة الهاذية سخطا على النفط، واليوم الماطر بغزارة حدّ الافتراس، وبين إحالة الشاعرة الجديدة إلى دفء اليوم الشديد . إنها الاحترافية العالية، ففوق أن الشاعرة تؤكد على أن المطر يفترس الشباك في البداية فتأتي هذه الإشارة الختامية إلى دفء اليوم الشديد بعد سخط المدفأة على النفط المفقود والبلاد الغادرة لتشعل التهكم التضادي، فإن الإحالة إلى اليوم البارد جدا فرضا سوف يفسد لهيب السخط والحماسة الناقمة التي يمثلها اشتعال الرأس، في حين أن الصفة تتأجج هنا بزخم الصفة المطابقة لها . وفي المقطع الثاني يأتي ردّ الحبيب الذي أثقلت رأسه أول الأنباء - والسمة الحوارية من السمات الأسلوبية في شعر نجاة - ليؤكد أنه شديد الإرهاق كما شخصت حاله في البداية . وهنا تدخلنا الشاعرة في (تراسل حالات) جديد يتحول فيه التعب الذي يتعدى حدّه إلى جوع، والجوع إلى نمط مغاير من أنواع الجوع . وهو السير إلى نهاية الصورة كما أود أن أصفه لأن بعض الشعراء يقفون بالصورة عند تخوم بداياتها ويخشون المضي بها إلى ذروتها السريالية إذا جاز الوصف . فالتعب الذي يتحول إلى جوع لا يمكن أن يكون هذا الإنهاك البدني المعتاد، إنه تعب / جوع الروح اللائبة المحبطة التي لن يشبعها الطعام المعتاد، بل أغذية من نوع مفارق، أغذية من جنسها: كسرة طابوق رمزا للمأوى، وشربة شمس تعبيرا عن الفراغ النفسي وظلام الذات، وملامح بيت يعكس الحنين إلى الرحم الأمومي: 

(أنا متعبٌ يا حبيبتي

متعبٌ حدَّ الجوعِ

هل لي بكسرةِ طابوقٍ

أو شرْبةِ شمسٍ

أو ملامح بيت؟)

إنه محاصر بالخيبة من كل مكان، تتراكم حوله مذلات الإحباطات الصغيرة - أو التي تبدو صغيرة - وتكبر مثلما يتكون الطوفان الكاسح من قطرات ضئيلة لا قيمة لها، حتى لم تعد كل ممكناته (مفاتيح يده) قادرة على التعامل مع أنموذج سلطوي بسيط هو المختار الذي أصيبت محلته بالداء العضال، كما أن عيون الجيرة الراصدة المتلصصة باتت مصدرا مقلقا له أيضا: 

(مفاتيح يدي

كلّها لا تصلحُ

لمزاجِ المختارِ،

وعيونِ الجيرة 

تودّع شبح الثقوب

أية ثقوب تقصد

وقد خلعنا باب الدار؟)

ولو تأملنا تساؤل الحبيبة الشاعرة الأخير الذي وجهته إلى حبيبها: أية ثقوب تقصد، وقد خلعنا باب الدار؟، وربطناها بحديث الحبيب عن تعبه الذي تحول إلى جوع، وجوعه الفريد الذي لا  يشبعه سوى كسرة طابوق وشربة شمس، فسنجد أن رأس (أحدٍ) قد بدأ يهذي غير رأس الشاعرة المشتعل بآخر الأنباء . وهنا تأتي سمة ثانية من السمات الأسلوبية التي تميز أغلب نصوص نجاة منذ مجموعتيها الشعريتين الأوليتين: (قيامة استفهام - 1996) و (مناجم الأرق – 1999)، وهي أنها تقدم في بداية المقطع أو القصيدة حكما ثم تفسّره أو تناقضه بصورة شعرية تستند إلى الإيحاء المبطن لا الإفصاح المعلن . وقد تأتي الصورة الإيحائية بعد مسافة مقطع أو مقطعين وحتى ثلاث، وهنا أكرر القول أن مثل هذه الشاعرة - وغيرها من الشاعرات العراقيات المجيدات والممسكات بشروط الحداثة - بحاجة إلى قرّاء وليس قارئا حسب، وشتان بين صيغتي فعّال وفاعل . لقد بدأت برأس الحبيب المثقل بأول الأخبار، وقابلته في نهاية المقطع الأول برأسها المشتعل بآخر الأخبار، و(فصّلته) بالنتاج الفصامي – الشعري طبعا، والشعر جنون منضبط – لرأس الحبيب المتصدّع في المقطعين الثاني والثالث . وترتبط بهذا الموقف سمة أخرى مهيمنة أيضا وتتمثل في المتواليات الثيمية إذا جاز التعبير، وهي الثيمات التي تطرحها في المقطع الأول ثم تبدأ بالطرق على أوجه مضامينها ومعانيها الرمزية والمباشرة في المقاطع اللاحقة بين وقت وآخر . قد تبدو أمام العين التي تلاحق سطح النص أن خيط الصلات بين المقاطع وصورها وثيماتها المختلقة واهٍ، بل مفقود . لكن عين القرّاء الراصدة ستلتقط خيطا جديدا يؤسس لوحدة القصيدة . ففي المقطع الأول إشارة إلى سحنة البيت – وهي مكفهرة قطعا وإلا لما لعنتها المدفأة الناقمة -، لكن هناك عودة، في المقطع الثاني، إلى ملامح البيت التي يتشوق الحبيب الجائع إلى أن يسد رمقه بها . وفي المقطع الثالث تفسّر لنا الشاعرة سحنة البيت المكفهرة التي جاءت نتيجة طبيعية لخلع باب الدار والإنكشاف المهين المعاند . هذا الخلع الذي تؤججه خفية مفاتيح اليد البائسة العاجزة . ويتكرر الطرق على الثيمة نفسها - ثيمة البيت في المقطع الرابع - الذي صار أملا بعيدا، وتحققا مخادعا يثير الأسى المتعاطف . أسى توغل الشاعرة في محق نفوسنا به بعد تحية صباح رقيقة متبادلة بين الطرفين:

(صباحُكِ سكّر

صباحُكَ وطن

ألم يكتملْ بيتُ الرملِ؟!

نعمْ

وأصبحنا هرماً

يسكنُه الصغارْ)

وعبر الحوار الموجز - والطابع الحواري سمة أسلوبية لدى نجاة كما قلت - تترسخ الخيبة الفاجعة من خلال الرد الإيجابي الذي يدحضه الجواب المفصل الذي يصبح فيه الحبيبان هرم السكنى الموهوم للصغار في وطن خسران يتصبّح به الأحبة . أما في المقطع الخامس فسنجد الشاعرة تعود لتضرب على وتر من أوتار معاني الجيرة التي أشارت إليها في المقطع الثالث، فتفصح عن شعورها بخواء العلاقات .. خواء المشاعر الإنسانية .. خواء الدموع .. ولا حقيقية وجود الأشخاص أنفسهم رغم أن الفعل الذي يوصف مثير لمشاعر الحزن والإحساس بالثكل، لقد تبلّدت النفس واستولى عليها اللاإكتراث المفزع:

(جارتي ليست حقيقية

ودموعي أيضاً

وأنا أضعُ على كتفِها

فساتينَ الحداد)                                           

ويأتي الفصل الخامس الذي تتجسد فيه سمة مركزي أخرى مرتبطة بالسمات السابقة حيث تعمد نجاة إلى تخصيص مقطع تجمع فيه الخيوط التي تشعبت من المقطع الاستهلالي، تغنيها بالدلالات وتثريها بالتعابير الرمزية المضافة، والأهم أن هناك إثراء ذاتي يتحقق من تفاعل الثيمات المختلفة فيما بينها . نحن الآن في "قلب" البيت، والشاعرة تواصل خطابها المعبّر عن اللهفة الممزوجة بخيبة الغياب .. تفتش عن (غائبها) في الجدار ودولاب الملابس والكراسي . ودائما يأتي الإعلان عن الخسارات باهرا مسربلا بأردية الشعر التي تجعلها أكثر مضاء مثل خنجر صغير يخز خاصرة القلب كلما نبض بحنين الذكرى . ولا أعرف لماذا أشعر أحيانا أن الجهد التفسيري للناقد يمكن أن يفسد احتدام الانفعالات الملتهبة والاستجابات العارمة التي يخلقها الخطاب الشعري في روح المتلقي، وأن هناك لحظات شعرية يجب أن تُترك لفعلها التلقائي . لقد ضاع الحبيب وهاهي الشاعرة المثكولة تلوب بين جدران البيت، وتمرّر بحذاقة جانبا من دورها الوطني وشعورها الغيور بالمسؤولية الجمعية، هذه المسؤولية التي تستميت تيارات الحداثة وما بعد الحداثة الوافدة في خلع الشعور بها من ذات الشاعر ونظرته إلى واجباته تجاه البشر المسحوقين المحيطين به . فالأصابع النحيلة الضائعة والفراغ الأسود الثقيل الذي خلّفه الرحيل، يشتبك به تحسّب مفزع من ضياع وجود كلّي وفراغ مفزع يهشّم الأغاني وأزقة الأمل وأفراحها سيسببه الصراع الطائفي والتعصب المذهبي الذي نلطف الشاعرة من وصفه شعريا:    

(دعني أقَبل شجرةَ التينِ

وأبحثُ عن أصابعكَ النحيلة

في الجدارْ

ليس في دولابِ الملابسِ

 ما يدلُّ عليك

أو في الكراسي التي

تغادرُ الآن

ليس في شَعركَ

ماءٌ طائفيٌّ

أو رغوةٌ مذهبية

فلماذا تقودني

مثل حلمٍ ضالٍّ

الى زقاقٍ لا أشتهيه

وأغنيةٍ لا أعرفُها

وفرحٍ بلا سيقان؟)

وفي الدار أيضا توسّع الشاعرة دائرة الثكلان الاجتماعية لتتجاوز حدود دائرة وجودها الشخصي إلى الطرفين المركزيين في العائلة: الأب والأم، حتى يتعزز استنتاج أن الراحل أخ شقيق روح، لا حبيب غرام . وحظوة الأم من العناية من قبل الشاعرة وثقل العذاب الذي تخصصه لها أكبر من الأب حتى أنها ذكرت أمها وابنتها فقط في الإهداء، وهو تقرير واقع فعلي في هذه البلاد حيث أصل الحضارة أمومي وحيث ضحية الخراب الأولى ومفتاح البقاء الأوحد هي الأم . ولعلها مناورة كاشفة التي تجعل تحول الشاعرة إلى وصف استجابتي الأبوين شديدة المكر وهي توازي بين نوعين من الصلاة .. صلاة الأب التقليدية التي تصفها بضربة سريعة: أبي مازال يصلي، وفيها من معاني نفاد الصبر من اللّاجدوى الطقوسية الكثير، والوصف (التفصيلي) لصلاة الأم المقابلة والمغايرة، صلاة مديدة تتمتم بها على أواني الفضة وخوذ الحرب والبساطيل المطفأة، بقايا راحلين أعزة صارت أكثر قداسة من الرقى والأدعية التقليدية:  

 (أبي ما زال يصلّي

وأمي تهرّب الوطنَ

من صندوقِها المقفلِ

وتتمتمُ بأواني الفضةِ

وخوذِ الحربِ

والبساطيلِ المطفأةِ

في زاويةِ الدار)

وحين نراجع البناء اللغوي للمقاطع السبعة السابقة والمقطع الثامن الختامي المقبل من هذه القصيدة وفي قصائد المجموعة الأخرى، فسنجد شيوع المصطلحات الحربية (قد يستغرب ناقد غربي أو عربي ما بعد حداثوي ذلك من امرأة شاعرة) مثل الخوذة والبسطال والرصاص والعبوات، وهي سمة مركزية من سمات النصوص الشعرية العراقية الآن، فهذه المفردات ليست كلمات عابرة بل هي عملة الخطاب، كما أنها لغة جيل لا يتفاهم بها حسب بل تتضمن شدائد حيواتهم، وخيبات أعمارهم، وانطفاءات جذوات آمالهم . وقد يتهكم ناقد غربي أو عربي ما بعد حداثوي على تعبير (البساطيل المُطفأة) الفذّ، في حين أن ناقدا عراقيا مثلي يحيله هذا الوصف إلى ثلاثة وعشرين عاما من جحيم أو ما بعد جحيم (ما بعد الجحيم العراقي يقابل ما بعد الحداثة الأوربية؟؟) الحروب لم يكن فيها من صديق يلتحم بجسده أعز من البسطال الذي يضع فيه بعض المقاتلين إلى الآن وردة حمراء أسبوعيا . البسطال هو خفّ وجودنا الكريم الذي تعفّر بالتراب المقدّس المعجون بالدماء الطهورة . إن العنف هو من خصائص النص الراهن رغم أن الجواهري الكبير يعده شرطا لازبا للإبداع الشعري . والمناخ العنفي يخيم على قصائد نجاة كنتيجة طبيعية للنقمة العاصفة التي تهدر في أعماق جيلها المضيّع وسط دوّامات الموت والخراب بنوعيه: الناجز والمؤجل، والأخير هو الأشد رعبا وإهلاكا . إنه يُفسد عمرها بالتحسّب والترقب والقلق الموجع . فكل الطرق تؤدي إلى خرابها وأين ما يممت وجهها فثمة شبح الموت الذي يطلع عليها بوجه قبيح ولحية أفغانية . هكذا تختم الشاعرة قصيدتها بعتاب آسر (أي عمر هذا يا عمري) يخفف حدّة بطش مخالب الخسران الباشطة مثلما لطفت وقع دعوة النظر إلى هياج الافتراس ورعب الهذيان في الاستهلال:

(أيُّ عمرٍ هذا

يا عمري !

بل أية ُعبواتٍ راجلةٍ

تسير بي الآن

في أي دار ستكونُ أشلاؤنا؟

من أي بقال سنبتاعُ الرصاصَ؟

وفي أيّ فِرن

ستجهزُ قلوبُنا للحبِ

هذا المساءْ؟)

لكن، وقد بلغنا محطة الختام فالوداع، قد يتساءل قارىء عن موقع العنوان، عنوان القصيدة (قصائد مهجّرة)، في هذا التحليل الموجز . وهو تساؤل مشروع أخرناه لأننا لا نؤمن بتسليم مطلق وتام بأطروحة أن العنوان هو (ثريا النص) . يمكن أن يقدّم العنوان إيحاءات بسيطة قد، وأؤكد على هذه الـ "قد" - تشكل نوى لتأسيس تأويل يظهر في أغلب الأحوال أنه ناقص ومخادع، لكنه لا يملك قوة الثريا التنويرية التي تضيء ظلمات النص من عتبة بابه أبدا . تظهر وظيفة العنوان بعد إكمال تحليل النص ورسم صورته الكلية (الجشطلت – gestalt) لكي يأخذ موقعه الصحيح ضمن إطارها . وإلا ما معنى "قصائد مهجّرة"، هل استعد المتلقي للتعامل مع قصائد - مهما كان المعنى الرمزي للقصيدة هنا - طُردت من بيوتها وأحيائها؟ وأين هو بيت القصيدة وحيّها؟ ويجب أن نفرّق هنا بين صيغتي: مهاجرة – مفاعلة، ومهجّرة – مفعّلة، لأن إدراك الصيغة الأخيرة لن يفيد شيئا – وهو مفتاح العنونة والقصيدة كلها – إلا إذا أكملت القصيدة واستوعبت معنى الرؤوس المثقلة بأول الأنباء والمشتعلة بآخر الأنباء فتفر منها القصائد، والبطاقة التي (هجرت) رقم الزقاق وداء المحلة وسحنة البيت والتي تلعنها المدفأة، والغائب / شقيق الروح الذي (هجّره) المثكل إلى الأبد، والوطن الذي تهرّبه (تهجّره أو هجّر) الأم من صندوقها والعمر (يا عمري) الذي سيُهجّر قريبا .. و .. و .. وكلّ ذلك لن يُفهم سرّه إلا إذا مزّقنا شرطين شهيرين من شروط ما بعد الحداثة ؛ إلا إذا عرفت هوية المؤلف الذي يرفض الموت أولا، وأعدت – ثانيا – النص إلى حاضنته الاجتماعية التي لن تفهم أي صورة أو ثيمة في النص من دونهما، وحاضنة النص هي العراق عليه السلام .  

وقفة ختامية:

--------------

.. وهذا مقطع من قصيدة للشاعرة العربية التي عدّها أحد النقاد أهم شاعرة الآن في الوقت الذي نفى فيه وجود شاعرات في العراق:

(جلبة سيوف خوارج

وبعض من رجاء النقاش

هستيريا الوداع في غرفتي الشرقية

فيما الغريب يقطع السماء فوق المحيط

كي يضع الخاتم في إصبع الجميلة

ليس المال بل اقتسام القروش

من أجل الحلوى والبطاطا

فوق كوبري عباس

ليست هجرة الطير بل البرودة

التي تجعل الورد يجف بين أصابعنا

هكذا يا حبيبي ضاع خلخالي

هنا انفرطت جديلتي وغابت وردتك

وهنا تصعد فقاعة

من فم سمكة على صفحة الماء

فترتسم دوائر يحفها طائر

يعرف كيف يرسم ظله بحنكة التأثير وبلاغة الغواة

يتلخبط وجه النهر وترتبك الفرشاة

لكن أسئلة جوجان لم تكتمل

وهناك هبط القامشلي من هضبة الشام

كي يسرق الوردة من فلاح كمشيش)

................ إلى آخره .. إلى آخره .. إلى آخره ....

وتحية للشاعرة العراقية المجيدة المظلومة (نجاة عبد الله) .... 

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1332 الاثنين 01/03/2010)

 

 

في المثقف اليوم