قضايا وآراء

السنين إن حكتْ .. نازك المــلائكة تفجّر قنــبلة وسط الأدباء العــــرب...!

الجو الأن بارد جدا، وتحديدا في اليوم العاشر من شباط عام 1965... نهضت من مكتبي المتواضع، قاصدا غرفة استاذي "شاكر علي التكريتي" للتوسط عنده، وكان " رحمه الله" في حينه مديرا للتحرير، أن يسمح ليّ بالذهاب الى هذا المؤتمر لتغطية فعالياته... فلم يوافق لصغر سني، وقلة تجربتي (كان عمري، وقتها 18 عاما).

 

غير أني، لم أجعل اليأس يأخذ مني مأخذه... فالمؤتمر، حدد له يوم الخامس عشر لبدء فعالياته... وبقيّ أمامي خمسة أيام ... وفي اليوم التالي، إنتظرت مجيىء الاخ " نمير" الابن الاصغر للحاج العاني وأحد مشجعي الدماء الجديدة في الجريدة ... كان من ضمن العاملين في الجريدة عدد من الشباب (اصبحوا كهولا بإمتياز فيما بعد!!) مثل الدكتورهادي نعمان الهيتي عميد كلية الاعلام بجامعة بغداد في ثمانينات القرن الماضي والمذيع إبراهيم الزبيدي والصحفي مظهر عارف والاديب عمران القيسي الذي سار على طريق النقد التشكيلي واصبح أحد أعمدته في لبنان والاديبة الفلسطينية سائدة الاسمر ..والخ.

 

وقبل حلول الظلام في ذلك اليوم (الشباطي) تحدثت مع " نمير" حول نفس الموضوع راجيا أخذ موافقة والده لمتابعة مؤتمر الادباء العرب، فوعد خيرا، دون أن أخبره برفض مدير التحرير، وهذه خطيئة مهنية لم اغفرها لنفسي حتى اليوم... وأخذت أنتظر الساعات، قبل ان يخرج "الحاج العاني" من غرفته وبيده أوراقا، تتضمن إفتتاحية اليوم التالي للجريدة .. فهمس "نمير" في اذني بأن والده وافق .. كان فرحي كبيرا... فها أنا احد المحررين الذين سيجلسون مع كبار الادباء العرب ومع أشهر الصحفيين المهتمين بالثقافة ... فياله من حظ جميل .. قلت ذلك لنفسي مرارا.. كانت سعادتي لاتوصف.

 

ادباء.. كنت أتمنى رؤيتهم

ستة أيام، هي فترة إنعقاد المؤتمر، ظلت عالقة في ذهني حتى اليوم، وكأنها حدثت البارحة .. لم افارق المؤتمر لحظة .. الوجوه التي تمرق من امامي، مثّلت لي خارطة الوطن العربي .. أدبيا !!!

 

رأيت في المؤتمر: محمد مندور، يوسف إدريس، عبد الرحمن الشرقاوي، بنت الشاطىّ، زكي نجيب محمود، امين الخولي، د. محمد احمد خلف الله، خليل حاوي،أحسان عباس، احمد رامي، نزار قباني، مطاع صفدي، سهيل إدريس، عبد الكريم غلاب و.. و.

 

لقد تسمّرت عيناي، فرحة، وهي تلتقي وجها لوجه وأنا الصحفي الغض، بعدد من الأدباء العراقيين ... فها هو الدكتور مصطفى جواد، حافظ جميل، د. علي الزبيدي، عاتكة الخزرجي، جمال الألوسي، د.خالد الشواف، سعيد الديوه جي، هلال ناجي، نعمان ماهر الكنعاني، نازك الملائكة، الشيخ احمد الوائلي، حارث طه الراوي، عبد الرزاق محي الدين، محمد حسين آل ياسين (كان اصغر الشعراء سنا)،عبد الحميد العلوجي، مصطفى جمال الدين وغيرهم كثيرون ..

 

 وأنا، أسرد هذه الذكريات، عدّت الى أوراقي القديمة، فوجدتها إصفرت وتقصّفت، وقسم منها تهرء بفعل الزمن وتداعياته ولأنني فوضوي في حاجياتي الخاصة، فقد عانيت

حتى، لملمت سطورا تؤرخ حضوري للأول تجمع شهدته في ذلك الوقت ...

فماذا حملت اوراقي الصغيرة، المصّفرة من ملامح ذلك الحدث؟؟؟

 

إنفجار.... قنــــبلة!

تقول اوراقي ... (الجو العام عند افتتاح المؤتمر كان ينذر بالتشنج لحساسية ما ستتم مناقشته وهو موضوعة الفكر الغربي وغزّوه للثقافة العربية، وقد بنيت ملاحظتي هذه على عناوين المحاضرات التي، ستقرأ، فهي بين مؤيد للحداثة وبين شاتم لها ... بين التعصب للاداب العربية القديمة وبين من يدعو الى تهميشها والانفتاح الى الادب الغربي .... كانت سيدة الموقف واللافتة للانظار والتي اصبحت حديث المؤتمر، هي الشاعرة والاديبة العراقية : نازك الملائكة.. لقد شنت في بحثها الذي حمل عنوان

 

" الأدب والغزو الفكري " هجوما لاذعا وقويا ومباشرا على الصحافة الأدبية وعلى الادباء العرب الذين سمحوا بغزو الفكر الغربي لعالمنا العربي بصور شتى.... ومما قالته نصا : لقد اصبحنا نقلب المجلات العربية فنجد فيها مقالا عن (ارثر ميلر) يجاوره مقال عن (بيير كورني) يليه مقال عن (برنو)

 

وتمضي الملائكة فتقول في محاضرتها امام حشد الادباء العرب : إننا نعجب من إن تفكيرنا بات منحصرا في آداب الغرب ... فلا نتحدث إلا عنهم وكإن ليس لنا ادباء على الإطلاق.

 

وعلى هذا النحو فاضت الملائكة بسرد الأمثلة المقترنة بهجوم شديد على كل من يسمح بركن الادب العربي وإحلال الادب " الغربي " محله بحجة التجديد ..الخ

 

وعلتّ في المؤتمر، كما تسعفني ذاكرتي، همهمات بين مؤيد ومعارض للاديبة الملائكة ... وزادت هذه الهمهمات، لتصبح اصواتا مسموعة، وعندئذ فجّرت الملائكة قنبلتها بقولها:

 

(.. كان لإقبالنا الشديد على قراءة ادب الغرب ونقله الى لغتنا، أثر سيىء في حياتنا العقلية، فما لبث ان أصابها بالإنحراف، فلقد أخذنا عنهم موقفهم من الدين وإلتقطنا نظرتهم االمادية الى الحياة)

 

 بيد إن الادباء الحضور من الذين اخذتهم " موجة المد الستيني " بين الفكر الديالكتيكي واليساري، لم يعجبهم كلام نازك الملائكة، ففي اليوم التالي، طالعتنا

 

 جريدة المؤتمر الصادرة عن الهيئة المشرفة على المؤتمر بتعقيب كتبه الدكتور " علي الزبيدي " يتعلق بمحاضرة الملائكة ... ومما قاله (إن موقفنا من التراث يجب أن لا يكون عاطفيا، خياليا بحيث نجعل من الماضي معبدا مقدسا او صورة مثالية يبعدها التزويق والخيال عن الحقيقة التأريخية .. ففي تراثنا، خير كما كان فيه شر ... وفيه جميل وفيه قبيح وفيه ذرّوة وفيه حضيض... إن موقفنا من ممتلكاتنا الفكرية والخلقية الحاضرة، يجب أن لا يكون موقف المغرور الذي يظن إنه كامل .. وهو ناقص وإنه عالم وهو جاهل وإنه نشط وهو كسول)

 

ومضى الدكتور الزبيدي في تعقيبه ... (لا نريد لقوميتنا أن تنحصر في قوقعة بل نريدها واسعة الأفق وعلينا أن نفكر بهذه الاجيال من الشباب التي لن يحيدها خوفنا من الافكار والاداب الاجنبية عن المضي في قراراتها .. فعجلة الزمن لا تقف عند حد..

 

... وتعقيب من سهيل إدريس

 

ولم يكتف المؤتمرون " الغاضبون" وكانوا يشكلون نسبة ضخمة في قاعدة الحضور، بتعقيب الدكتور الزبيدي، حيث إنبرى الدكتور سهيل إدريس قائلا (لقد رسمت السيدة الملائكة عن ادبنا القديم وادبنا الحديث لوحتين متناقضتين ، تناقضا جذريا ... فكل ما في ادبنا القديم ... عظيم وأخلاقي ومبدع ورائع ... وكل ما في ادبنا الحديث منحط، متحلل، ركيك، والحقيقة إن الرؤية التي تنظر فيها المحاضرة الى أدبنا القديم وأدبنا الحديث هي رؤية خاطئة ومشوهة أصلا، لأن الطبيعة البشرية والعلم ينكرانها كل الإنكار)

 

وراح الدكتور ادريس يقول بصوت حاد النبرات (إن ادبنا لا يزال في طور تكوين نفسه.. إنه مدعو الى ان يأخذ ويقتبس ويقلد أحيانا فيما هو يسعى الى تأصيل ذاته.... ولقد سبق للغرب أن إقتبس طوال قرون من نور الحضارة العربية في القرون الوسطى وتأثر بها حتى إندرج هذ ا التأثير في كيان فكر ذاته... إننا حين نقتيس اليوم من الغرب، فإننا نقتبس بعض آثار فكرنا وماضينا وعراقتنا ونسترد بعض فضلنا ... ولكن هل صحيح إننا لا نقتبس إلا المنحل والسطحي والفاسد؟؟

 

ثم تساءل الدكتور ادريس (اين ذهبت الباحثة بجهود العلماء و الباحثين والمدققين العرب ودراساتهم عن عيون الأداب الأجنبية ؟ إن هذا الذي زعمتها الملائكة يشوّه جميع أعمال المترجمين المحدثين)

 

... وتبقى صفحات الذكريات مفتوحة على ابواب وشبابيك هذا المؤتمر... ففيه أجريت عشرات اللقاءات الساذجة على طريقة (ماهي إنطباعتاك وانت تشارك في هذا المؤتمر ... وماذا تتوقع أن يخرج فيه المؤتمر من توصيات... الخ)

 

إن معظم تلك اللقاءات لم تجد لها مجالا للنشر في الجريدة التي مثلتها بسبب زعل مدير التحرير عليّ لتجاوزي قراره بعدم (أهليتي) لحظور مثل هذا المؤتمر الكبير، مما دفعني لأعطائها الى هيئة تحرير النشرة اليومية التي كان المؤتمر يصدرها بعنوان (جريدة المؤتمر) ....

 

وربما من المفيد، الاشارة الى بعض الملامح التي تذكّر بهذا المؤتمر، خصوصا للذين لم يعاصروه من خلال التنبيه الى بعض اللقطات التي دأب التلفزيون على عرضها بين فترة واخرى ، دون ان يدري المشاهد إنها سجلت لحفلات ترفيهية، اقيمت على شرف الوفود المشاركة.... وأشهرها المقامات والبستات العراقية التي أداها بإسلوبه المقتدر مطرب العراق المرحوم "محمد القبانجي" ... لقد إنداح الشعر والغناء منه حتى الضياء الاول من النهار... طرب الحضور للحد الذي لم يتمالك فيه شاعر "ام كلثوم" احمد رامي، نفسه، فأخذ يرمي (برنيطته) في الهواء ثم يعاود الامساك بها وظل على هذا المنوال حتى إنتهاء الحفل الذي شاركت فيه " عفيفة إسكندر" وقد ظللت محتفظا بصور لهذاء الحفل الكبير ولفعاليات المؤتمر الاخرى لعقود من الزمن، حتى إندرست وضاعت مع ما ضاع !!

 

وألان وبعد 45 عاما على هذه التجربة... هل أشعر بالندم على جهد ضاع تمثل بعدم نشر الجريدة التي جاهدت لأكون مندوبا لها في المؤتمر، اية مادة كتبتها بقلم لم تصقله المعرفة.. وهل أندم على تجوال مضن ... إنتهى الى لاشىء...

 

كلا ... فذلك كان بداية مشوار لدرس طويل ظل عالقا في ذهني حتى الان.

 

  [email protected]

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1334 الاربعاء 03/03/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم