قضايا وآراء

بالمكان رديفا تعبيريا للشخصيات .. موسى كريدي أنموذجا

وتقصى تجليات مفهوم جماليات المكان من خلال جهود التأليف في المرحلة الأولى مع بدء انتشار الحداثة في سبعينيات القرن العشرين .

 لقد عُرف المكان كوحدة أساسية من وحدات العمل الأدبي والفني في نظرية الأدب، وعدّ إحدى الوحدات التقليدية والأساسية الثلاث، ولطالما كانت هذه الوحدة مثار جدل في بنية العمل الأدبي والفني، ولم يتجاوزها منظرو الأدب في العصر الحديث، بل صارت ركيزة من ركائز الرؤية الجمالية في النظرية الأدبية الحديثة.وبالرغم من أن باختين في عام 1938 أشار إلى صعوبة الفصل بين الزمان والمكان في شكل العمل الفني في كتابه (أشكال الزمان والمكان في الرواية) وتأكيده في أكثر من قول على أن(الزمكان Chronotope هو الوحدة الفنية للنص الأدبي وهو الذي يبين علاقة المنتَج بالواقع الفعلي. ولهذا السبب ينطوي الزمكان في النص دائماً على لحظة تقييمية لا يمكن فصلها عن الزمكان الفني الكلي إلا في التحليل المجرد فالزمانية المكانية في الفن والأدب لا ينفصل أحدها عن الآخر، وهي دائماً ذات صبغة انفعالية تقييمية)1 فتلاحم الزمان بالمكان يعد تلاحميا حتميا فوفق التصور النيوتني يعد المكان موازيا لكلمة فضاء لتعبر عن مجمل المكان التي تشغله المادة و بالتالي المكان هو الفضاء المحيط بنا بأكمله و المملوء بالمادة فالنظرية النسبية تقوم على تحطيم صورة المكان المنفرد عبر دمجه مع الزمان في ما يدعى الزمكان و هو فضاء رباعي الأبعاد، ثم تأتي النسبية العامة لتجعل هذا الزمكان متحركا متموجا . كما تقدم نظريات علم الكون تصورا عن الفضاء يبين أنه يتوسع مع الزمن نتيجة رصد تباعد المجرات عن بعضها، و بالتالي فالفيزياء الحديثة تقدم صورة مخالفة للفكرة الكلاسيكية عن المكان ولكن بالإمكان الفصل بينهما عن طريق التفكير المجرد وتجريدهما من اللحظة الانفعالية للحظة الكتابة وذلك ما تعزز بالفعل مع شيوع النظرية العلمية في الأدب وممارستها بعمق فقد تعزز مفهوم المكان المجرد مفارقاً للمرجع أو الواقع ومستغرقاً في تخييله وشهد مفهوم المكان المنفصل تطورات جذرية في المناهج النقدية الحديثة، ولاسيما النقد الظاهراتي الذي يقوم على تحليل الوعي وقد استبطن الأشياء فتحولت إلى ظواهر، وكان أبرز مطوري هذا النقد جاستون باشلار وجان بيير ريشار. وقد أطلق باشلار نظريته عام 1938 في كتابه (التحليل النفسي للنار)، واتبعه بكتبه الأخرى، ومنها (جماليات المكان) (1957) وهو من ترجمة غالب هلسا إذ يقول المترجم في مقدمته

((أن النقطة الأساسية التي ينطلق منها المؤلف هنا هي أن البيت القديم، بيت الطفولة، هو مكان الألفة، ومركز تكيف الخيال. وعندما نبتعد عنه نظل دائماً نستعيد ذكراه، ونسقط على الكثير من مظاهر الحياة ذلك الإحساس بالجمالية والأمن اللذين كان يوفرهما لنا البيت. أو هو البيت القديم، كما يصفه باشلار، عندما (يركز الوجود داخل حدود تمنح الحماية). إننا نعيش لحظات البيت من خلال الأدراج والصناديق والخزائن التي يسميها باشلار (بيت الأشياء). العش يبعث إحساسنا بالبيت، لأنه يجعلنا (نضع أنفسنا في أصل منبع الثقة بالعالم... هل كان العصفور يبني عشه لو لم يكن يملك غريزة الثقة بالعالم؟). القوقعة تجسد انطواء الإنسان داخل المكان في الزوايا والأركان، لأنّ فعل الانطواء ينتمي إلى ظاهراتية فعل (يسكن))) 2. وقد اخذ مصطلح المكان أو الزمكانية بالتطور بفعل علم السرد وخصوصا إنجازات

غريماس في مصطلح الفضاء في الانفتاح أو الحيز في التحديد والتضييق فضلا عن إفادة المنهج ألعلامي /السيميائي في تحليل السرد من هذا التطور في فهم الزمكانية نحو مصطلح الفضاء المستند إلى إنجازات السوفييتي يوري لوتمان الذي تطرق إلى دلالات المكان في كتابه (بناء العمل الفني) وبذلك صار مفهوم المكان واضحاً في النقد الأدبي العربي الحديث بتأثير المناهج النقدية الأجنبية الحديثة لنصل إلى إمكانية فصل المكان عن الزمان والحركة .

 

المكان رديفا تعبيريا للشخصيات:

 من خلال تتبع المكان في قصص موسى كريدي في مجموعته (غرف نصف مضاءة)ومجموعة (فضاءات الروح) نلاحظ أن كريدي لا يؤثث أمكنة قصصه بصورة زخرفية كمالية بمعنى انه لا يخلق لنا مكانا منعزلا عن الشخصيات بل المكان لديه ما هو إلا امتدادا نفسيا أو تعبيريا للشخصية فانه يؤثث المكان بما يتلائم و (صياغة عالمه الحكائي، حتى أن هندسة المكان تساهم أحياناً في تقريب العلاقات بين الأبطال أو خلق التباعد بينهم)3 ويبين لنا أمزجتهم وهواجسهم، بل أدهشنا في كل التقاطاته المكانية ليعطي أهمية بالغة لدلالة المكان فالمكان عنده هو امتداد للذات الإنسانية وهو رديفا تعبيريا للشخصية فهو(يسهم في خلق المعنى، وقد يتحول أداة للتعبير عن مواقف أبطال الرواية)4

 إننا نطلع على الأجواء الداخلية والنفسية للكاتب من خلال أجواء المكان بل وقد اعد المكان عند كريدي بطلا مساندا للشخصيات ومهيمنا عليها واستطيع القول انه قدم (سيكولوجية المكان)،فقد تشكل المكان بأبعاده النفسية العميقة فراح يتنقل بين وصف الشخصية وبين وصف المكان من جهة وبين حكي الشخصيات وبين حكي المكان وعلى أساس ذلك يمكننا القول إن أمكنة موسى كريدي تنقسم إلى أمكنة مادية يمكن تتبعها أو مقارنة ملامحها مع أمكنة حياتية أخرى وأمكنة فنتازية يمكننا مطابقتها مع أمكنتنا الموغلة في الخيال وتناغمها مع أمزجتنا لحظة اقتناص المكان الفنتازي .

 

الأمكنة الحقيقة:

ليس بالضرورة أن تكون الأمكنة موجودة واقعا إلا أننا يمكن إيجاد توصيفاتها بالواقع، وهو يلجأ إلى تأثيث ذلك المكان بما ويتلازم من تعبيرات نفسية للشخصية ويهيئ أجواء المتلقي لتقبل تلك الشخصية وتصدعاتها النفسية، ففي قصته غرف نصف مضاءة ومنذ الأسطر الأولى يعلن لنا عبر المكان عن أجواء تلك القصة وتأزم إبطالها(حجرة نصف مضاءة . حجرة رطبة) ليؤكد عبر المكان إن أبطال تلك الحجرة (هرمين) أو قوله(فلم يكن هناك عشب ولا ظل لشجرة واحدة ..) ليدعم بذلك التأثيث الفارغ من العشب والشجر بطله المتعب والذي يبحث عن الراحة وما من راحة وذلك ما أكده بقوله(يلزمك ألان أن تريح راسك) فأين يريح ذلك الرأس المتعب إذا لا شجرة ولا عشب ثم يستمر المكان بدعم البطل الباحث عن الراحة ليبين لنا أن لا راحة للبطل،فلا يوجد غير(قاعدة مثلثة الشكل لصخرة مدورة) ثم سرعان ما ينتقل الراوي العليم إلى خلق مكان معادي يحيل البطل من خلاله إلى المكان الأليف (أبصر الصحراء فلم ير الرمل مثلما كان يراه في طفولته نقيا، ابيض،) إذا الصحراء التي يراها البطل هي صحراء غير أليفة والرمل ليس نقيا ولا ابيضا لأنه بطل يعيش يوميات مهزومة ومرعوبة ويحاول الهرب من هذه الأمكنة المعادية المملوءة بـ(نقاطا بحجم حبات الخردل تتموج بأسود واخضر وتنتشر على مدى بضعة أمتار من بؤبئه) لقد رسم لنا شبكة تحاول اصطياد البطل وخلق ممازجة بين المكان الحقيقي والمكان النفسي المخيف الذي يرعب البطل عبر ملازمة الشبكة للبطل ومحاولتها الإحاطة به رغم مقاومته ذلك المكان المخيف بوعي يمتلكه إلا انه لم يستطع التغلب على تلك الشبكة التي انبثقت من المكان(حاول مرة ان يبعدها وكان يتمتع بقدر كاف من الوعي فلم يستطع) لقد أدرك موسى كريدي ان الأماكن هي الأخرى مثلها مثل البشر لها طبائع، وأوضاع مختلفة؛ فهناك مكان واجم مطبق وحزين تخرج منه حزينا، وقد أورث الحزن في نفسك، وهناك مكان جميل يرد إليك الابتسامة إلا انه مكان بعيد يمكنك الهرب إليه إذا شئت التنفس منه انه مكان الطفولة أو المكان الحلمي الذي ينتشل البطل المأزوم من مواجهة الواقع ففي قصة الحلم يهرب البطل إلى السعادة التي تختفي خلف باب حديدي كبير وصل إليه بعد اجتياز الغابة الواسعة كان يحاول اجتياز ذلك الباب الذي يريد خنقه وهذه الأصوات (حيوانات تئن مختلطة بأصوات ذئاب جريحة) هذا البطل المتمرد باجتياز الغابة والباحث عن أمكنة أخرى هو خائف ومرعوب هو يلتصق بالباب التصاق خائف فكأنه أدرك مقولة باشلار(لو طلب منا أن نحصي الأبواب التي اغلقناها والتي فتحناها، وتلك التي نود ان نعيد فتحها لتوجب علينا أن نسرد قصة حياتنا بأكملها) فأراد كريدي غلق أبواب المكان المخيف وفتح هذا الباب المطل على عوالم أخرى، (انفتح الباب) فانتقل البطل من المكان المعادي ومعادله الغابة وحيواناتها إلى المكان الأليف وهو مكان حلمي عبر بوابة وعيه بضرور مواجهة ذلك المكان وتغييره أو الهرب منه، يدخل البطل ذلك المكان فيشاهد

(برك الثلج وهي تتناثر عبر الحقول، والأحراش وبهر عينيه الضوء الذي ألفاه يحيط به لهبا ابيض كالفضة) ويستمر الراوي العليم بوصف ذلك المكان والتوغل بالوصف كلما توغل بالمكان حتى يخيل للمتلقي انها قصة عن مكان حلمي فحسب إلا أنها قصة عن رفض البطل لمكانه الحقيقي عبر إيجاد البديل (مكانا حلميا) فموسى كريدي لم يطرد الإنسان من مكانه الحلمي وإنما أثثه واحضر فيه الإنسان المفترض (حين أراد لمس عنقود متدل من شجرة دانية، نصحه طفل نظيف واسع العينين ..... ألا يفعل)، (رأى في طريقه وجوها نضرة، يزيدها الضوء الأبيض لمعانا) إذا فالبطل يرفض المكان المؤثث بالأمراض والذي يرعب هذا الكائن بكل تفاصيله هذا الكائن الباحث عن مكان أليف مؤثث بالجمال والإنسانية.

 

الأمكنة الفنتازية:

 لابد من تطرق النقاد لبنية المكان في المتن القصصي أو الروائي لما لهذا المجال البصري من أهمية في فتح أفاق قراءة النص ولا يمكن عد المكان الفنتازي ترفا فكريا أو لعبة مجانية لأنها أمكنة يلجا إليها الكاتب في دعم الحالة النفسية للشخصيات في قصصه، أمكنة لا يمكن مقارنتها مع أمكنة واقعية ولا يمكن القول أننا يمكن أن نجدها أنها تعانق السرد وتعطي امتدادا نفسيا لحالات الشخصية فهي قد تبدأ من خلجات الإنسان وتنتهي خارجه أو تبدأ منه وتنتهي به أو تبدأ من الخارج وترتد إليه عبر تكنيك سردي محبك،(ويميّز البعض المكان البصري عن المكان السمعي والمكان الشمي والمكان اللمسي والمكان التذوقي) 5 إلا أن هذه الأمكنة كلها تتبادل الأدوار وتتداخل لتنتج مكانا نفسيا قد يكون معاديا لبيان الحالة النفسية المأزومة أو أليفا لبيان الحالة النفسية المستقرة ومن هذا المنطلق فقد شكلت الفنتازيا المكانية في نصوص موسى كريدي دالا ومدلولا وولدت تصورات وترسيمات سلوكية لشخوص القصص كما فعل في قصته (شمس وفنارات ليل وأرجوحة) إذ يصور لنا مكانا عبر لغة تخلق صورة ذهنية له (والبئر عين تثب ألينا من قاع دهليز) فالمكان في قصص موسى هو الذي يبلور نفسه ويفرض وجوده على جو القصة عبر ربطه بجوهر الأشكال يقول (وسالت حجرا في الرحيل .....، والشجرة صوحت) وإذا حللنا هذه العناصر المكانية عبر سياقها البنيوي سنجدها تفضي وتصرح بنوع من الهلوسة المكانية المنفذة بوعي كتابي مقصود مستفيدا من التحويلات المجازية في تنفيذ شبكة المكان لتعمل كبنية اتصالية وتوصيفية بذات الوقت يسقط به سايكلوجية الشخصيات وبذلك نستطيع القول أن بنية المكان الفنتازي تنتج إنسانا عبر تأثيرها به وبذلك يمكننا القول أن القاص استطاع أن يدفع ويبث في المكان حيوات عبر إبقاء دال الاتصال بين المكان والإنسان عبر تأسيس صلة اجتماعية أو نفسية بينهما وذلك عبر خلق أو إعطاء دور مهيمن للمكان فمرة يشير للموت ومرة يشير للحياة مستفيدا من ذلك في تحديد درجة الانفعال فأصبح المكان رديفا شاحنا للمشاعر ومعبرا عنها ونلحظ ذلك في معظم قصص كريدي فإما مكانا واقعيا أو فنتازيا يؤثث به ملامح قصصه كرديفا تعبيريا ومساندا للشخصيات.

 

.........................

الهوامش

1-   ينظر أشكال الزمان والمكان في الرواية ص230

2-   ينظر جماليات المكان،جاستون باشلار، ترجمة غالب هلسا،يصدر عن مجلة الأقلام دار الجاحظ للنشر، وزارة الثقافة والإعلام بغداد ص9

3-   ينظر: من ألواح سومر،صموئيل كريمر،ت طه باقر،مؤسسة الخانجي القاهرة 250

4-   بنية النص السردي ص 72

5-   تأويل النص الروائي،ت عبد الهادي احمد الفرطوسي،سلسلة كتب ثقافية شهرية يصدرها بيت الحكمة العراقي،بغداد 2009،ص 105

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1335 الخميس 04/03/2010)

 

 

في المثقف اليوم