قضايا وآراء

علل التخلف الثقافي !

  وبالإمكان التأكّد من هذه المعادلة من خلال إستقراء راهن أمة ما من الأمم ومقارنة هذا الواقع بماضي هذه الأمة ومميزات بيئتها ورجالاتها وفكرها وثقافتها وشعرها في الوقت الذي إنعدم وهو الماضي والوقت الراهن الذي تؤدّي فيه هذه الأمة دورها .

وإذا عدنا إلى الواقع العربي والإسلامي نجد أن أبرز سمة ورثناها من الأجيال السابقة هي النكسة والإنكسار الحضاري حيث ولحدّ الآن لم نكتشف الرؤية الإستراتيجية والمسلكية النهضوية التي يجب علينا أن نسلكها لنخرج من دائرة التأثّر الحضاري وإلى دائرة التأثير الحضاري، أو من دائرة الإنفعالية إلى دائرة الفعّاليّة .

 وحتى لا يتشعب البحث ونأتي على ذكر آلاف الأسباب التي أفضت إلى نكستنا الماضية والراهنة وربما المستقبلية إذا إستمرت الحالة العامة على ما هيّ عليه في عالمنا العربي والإسلامي، نحصر سبب النكسة في عامل قد يكون الأبرز والأكثر تكريسا لنكستنا وهو الفرقة أو التفرّق وما يتفرّع عنها من مدلولات لفظية وفكرية من تحزّب وتمذهب وطائفية وفرقة وتشيّع – من كثرة الشيّع أي الفرق - .

 ولعلّ أبرز من كتب عن حال الفرق في ماضينا هم الإسفراييني البغدادي في الفرق بين الفرق، وإبن حزم الأندلسي في الملل والنحل والشهرستاني في الملل والنحل أيضا، والذي يقرأ هذه الكتب برمتها وبتمعن شديد يكتشف كم كانت خارطتنا العقائدية والفكرية والثقافية والفقهية والفلسفية ممزقة ومشتتّة ومبعثرة وموزعة ومتطرفة في نفس الوقت، وحبذا لو توقفّ هذا الإختلاف في كل التفاصيل عند حدود الإحتجاج الفكري والثقافي والجدل اللفظي والكلامي، لكنّ هذا الإختلاف تحوّل إلى معسكرات وطوائف ومدارس فقهية وكلامية إختفلت في تفاصيل الشريعة المحمدية بدءا من القرآن الكريم وعلومه ومرورا بالسنة النبوية وبقية مقاصد الشريعة وأصول الإستنباط، وبدل أن تنطلق هذه الطوائف والفرق من القرآن الكريم لصناعة النظرية المعرفية فقد إنطلقت من مرتكزاتها المذهبية والكلامية وأستنبطت من القرآن الكريم ما يبررّ توجهها المذهبي ومسلكيتها الكلامية وطريقتها العبادية والمعاملاتيّة، وأمتدّ هذا الترف الفكري إلى كل ما يمت بصلة إلى الثقافة الإسلامية، فحدث الخلاف الكبير حول القرآن وتفسيره، وحول السنة النبوية والأحاديث النبوية ومدلولاتها سندا ومتنا، وحول التاريخ الإسلامي ورجالات هذا التاريخ، وحول لغة الشرع ومدارسها، وكثر التفريع والتحشية والإجترار إلى درجة أن أحدهم كتب كتابا بعنوان المعتصر  في شرح كتاب المختصر، فكان المعتصر في مجلدات ضخمة، ولعلّ هذا ما يفسّر إدماننا الكلام على حساب العمل، على عكس الغربيين الذين يعملون أكثر مما يتكلمون .

وقد أفرز الجدل الذي جئنا على ذكره إلى إنتاج طوائف ومذاهب تقرّ جميعها وصلا بالإسلام، لكن كل ملة تكفّر الأخرى، وكل ملّة تبحث عن مثالب الفرقة الأخرى وكل طائفة تدعّي أنّها الفرقة الناجية وبالتالي تدعّي أنّها صاحبة الفضل والتفسير الصائب والحقيقي للقرآن الكريم وللسنة النبوية وما إلى ذلك، وفي الوقت الذي كانت تبحث فيه كل فرقة عن مثالب الأخرى، وفي الوقت الذي كانت فيه كل فرقة تحرّض هذا السلطان ضدّ الفرقة الأخرى، كان جدارنا الثقافي والحضاري والأمني والعسكري يتدكدك وينهار الأمر الذي سهلّ للآخرين المتربصين بمواقعنا التدخّل في جغرافيتنا وبدون عناء يذكر، بل إنّ بعض الملل ساهمت ومكنّت لهذا العدو الخارجي من معرفة مواقعنا بالتفصيل الممّل، ولو أنّ هذه الفرق برمتها وحدّت مسعاها ونبذت ما به تفترق عن الأخرى وإجتهدت لإيجاد رؤية نهضوية واحدة لأمكننا أن نحقق إنتصارات في هذا الصعيد، والذي يقرأ بإمعان تاريخنا الإسلامي يكتشف أنّ التفرق هو الذي دكدك واقعنا الداخلي في كل تفاصيله وهو الذي جعل جغرافيتنا مستساغة للقراصنة الغربيين الذين زادوا الطين بلة وأستثمروا هذا التفرّق لصالحهم .

والذي يجري مقارنة بسيطة بدون كثير عناء بين راهننا وتاريخنا لا يجد كثير فرق بل إنّ التطابق سيكون في الكليّات والجزئيات على حدّ سواء، بل أضيف إلى  الفرق القديمة فرق جديدة تحمل إيديولوجيات مختلفة وشعارات مختلفة، فالدائرة السنية تتفرّع إلى دوائر لا حصر لها وكل دائرة ترد على الأخرى وتسفّه رؤاها وتوجهاتها، والدائرة الشيعية تقع في نفس السياق حيث الإختلاف سيد الموقف في كثير من القضايا الإجتهادية وحتى تلك التي ترتبط بمجاهدة المحتلين لبلاد المسلمين، والدائرة الدرزية والإباضية والإسماعيلية والعلوية ويضاف إليها المذاهب الراهنة حيث الدائرة القومية أصبحت دوائر قومية والدائرة الشيوعيّة أصبحت دوائر شيوعيّة والدائرة الليبيرالية أصبحت دوائر ليبيرالية والدائرة الحداثية أصبحت دوائر حداثية، وأصبحنا أمة لا يجمعها شيئ على الإطلاق، إختلفنا حول الله والرسول والقرآن والصحابة والنص والعقل واللغة، كما إختلفنا حول الإستعمار والإحتلال والحكومات الوضعية وإختلفنا حول الكليات والجزئيات، والأوليات والثانويات والثوابت والمتغيرات والتكتيك والإستراتيجيا والظاهر والباطن، وأستتفذنا الجهد بين حرام وحلال ومباح ومكروه وتوزعّت الآراء والأحكام وكفرّ بعضنا بعضا، وبهذه الطريقة تشتت قوانا وألغينا من قاموسنا الحياتي والعملي مبدأ الفرد للمجموع والمجموع للفرد، وتسللت إلى بدننا المريض والمنهك الأمراض الداخلية والخارجية وأصبحنا عرضة للسقوط الحضاري المرير، ولن تقوم لهذه الأمة قائمة إلاّ إذا إستحضرت فعليا عصر محمد بن عبد الله – ص- حيث القول الفصل الواحد والقول الراقي والحضاري الذي إجتمع حوله رجال من ذلك العصر وأوصلوا رسالة الحضارة الإسلامية إلى اطراف الصين قبل أن يتمزّق الجسد الإسلامي إلى فرق وشيع والذي ما زال ممزقا إلى يومنا هذا، وبدون إعادة اللحمة إلى هذا البدن الممزّق والتمحور حول رؤية إستراتيجية واحدة، ستتداعى  إلينا الأمبراطوريات الإستعمارية كما تتداعى الآكلة إلى القصع، ولات حين مناص !   

 

بقلم / يحي أبوزكريا .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1335 الخميس 04/03/2010)

 

 

في المثقف اليوم