قضايا وآراء

عودة الروح: المخاض العسير للمشهد الروائي في السعودية

 النبوية والقرآن الكريم  (1). وإن هذه البدايات التي ضغطت باتجاه وظائف مشهورة هي التذكير والتنبيه، ثم الوعظ والإرشاد، واجهت بعد فترة وجيزة أخطار الإلغاء والهدم المفروضة من سلطة رقابية ومن توسيع ماكينة المجتمع الاستهلاكي وخبرائه. وبمفردات إدوارد سعيد شرعت بالمعاناة من مخاطر كامنة في استشراق انتقائي ومن موظفين تفرغوا لترويج خطاب الغرب المستعمر، وهو  كان يتألف أصلا من أفراد طبقات صغيرة مدحورة تحاول الخروج من عزلتها ومن فشلها المتكرر، ولكنها تحمل زمرة من الأدوات والمعارف الضرورية.

و في ظل هذا التوجه شرعت عموم المغامرة الروائية بالدعوة لتحويل المشاكل من (ذهنية التحريم)، وآلية السرد الأصولي  الشبيه بميتا – نص، إلى بنية مفتوحة ومريضة، كان هدفها الأساسي رفع راية التمرد على كافة أشكال الفكر الاتباعي، ومن ضمنها العلاقات اللغوية وقواعد الذهن والكتابة، ثم التأسيس لتيار وجودي هو شكل غامض وغير معرّف من اكتشاف الإنسان لذاته. ونجم عن ذلك تكنيك مختلط يعتمد على تيار الشعور ودمج الأصوات، وبطريقة غريبة أو لا منتمية  شعارها هو القطيعة مع الماضي.

و لم يتحقق التوازن (وبالاستطراد لوازم السعادة الفنية) إلا باللجوء إلى تراث المدرسة الطبيعية وبالخلفيات والرؤية التي تدين دائما إلى نموذج فلوبير. 

و أعتقد أن هذا هو سبب العقدة رقم 1 .

كان فلوبير جريئا في مناقشة عيوب (التربية العاطفية). ولكنه لم يستبعد من خط تطوير الأحداث التفاصيل المزعجة التي تقض بالعادة مضجع القارئ والكاتب معا. وهي برأيي تفاصيل يصعب هضمها، وتضع للشخصيات حدودا مادية وربما عتبات تجعل من مسألة الفرز في المواقف قرارا مستحيلا. بمعنى أنها تضع المجتمع وأدواته على مستوى واحد من ضرورات التعبير والشرح، كما فعل الدكتور محمد حسين هيكل في (مناظره وأخلاقه الريفية) في بدايات القرن المنصرم، وهذا هو شأن عبدالله بن بخيت وروايته  (شارع  العطايف) (3).

غير أن هذا العيب التكويني، كان من المقدر له أن يذوب في أسلوب وتكنيك المرايا المتقابلة، حيث الشخصيات تواجه المكان للتعرف عما يطرأ عليها من تحولات وانعطافات، ومن رغبات وقيود، أو بعبارة أخرى عما يستجد في النفس والوجود العام والشرط البشري من عصاب وخيبات وتعارض مع الواقع وهلم جرا...

و إنه من هذه النماذج الأصيلة والتي استطاعت أن تشرّع للفراغ الإيديولوجي  مبرراته (والإشارة إلى عبده خال ورجاء العالم وما شابه) (3)، باشرت الرواية في السعودية بتصوير مشاكل الأجيال التالية، وحتما من موقع الهجاء، وحتى النقد اللاذع (4).  وقد دفعت موضوع صراع الأجيال إلى كل حدوده الممكنة، وقدمت اقتراحا جريئا وجدليا برواية متحركة ومنفصلة عن خلفياتها دون أن تصل إلى درجة الإزاحة (5).

و هنا بمقدورنا تسجيل الملاحظتين التاليتين:

صعود الخط الحكائي باتجاه الأيام الغائبة، وباتجاه عالم ومشهد الذكريات بكل ما تنطوي عليه من حنين ودهشة، ومن نوستالجيا عائلية لبيت على وشك أن ينهار بين الرمال، ثم صعود الأساليب الليبرالية باتجاه قانون العائلة الأوروبية الصغيرة، عائلة أوديب تخصيصا، والتي تعاني من ذيول وأوجاع الخلط غير الواعي بين وظائف الأفراد وطرائقهم في التعبير، ثم انقسامهم بين العقل والعاطفة، وبنفس القوة التي كان قد طرحها الرعيل الأول من الرومنسيين، وهذا هو التكنيك المتأثر بزكريا تامر، سوبرمان الفجيعة السوداء.

و مع أن الرواية السعودية لم تبدأ حتى الوقت الراهن (بعكس الحال في باقي أقطار المشرق العربي) بمناقشة وتحليل الموضوع السياسي فهي تطرق على جميع الأبواب الاجتماعية المؤدية له.

إن الطبيعة الميتروبوليتانية لمجتمع الخليج العربي قد حولت هذه المنطقة من العالم إلى سوق وإلى دائرة لها نشاط اغترابي واحد، دائرة تتحرك ضمن إطار فولكلوري تغلب عليه شعارات مستمدة من الماضي، ومن الفجر البعيد لإسلاميات مصنعة، وتشير  كل الدلائل إلى أنها إنتاج توفيقي وهجين.

و لكن اندحار ماكينة البلاغيات الأوروبية والعودة إلى  الأساليب والصور التي استوردها فلوبير أساسا من الشرق (وبمفهوم الاستشراق المعاكس)، هو أول مؤشر على عودة الروح للمثقف السعودي.

هوامش:

1 – طبعا كان المشروع السردي للداعية الإسلامي الأستاذ علي الطنطاوي يقف وراء هذه التوجهات المحافظة علما أنه سوري مقيم في المنفى منذ انهيار الأنظمة الديكتاتورية التي توالت على سوريا بعد الاستقلال، وهو يعتمد على إعادة تفسير الخطوط التي يستمدها من القرآن الكريم ومن مخزوننا الشفاهي للتراث فقط . ومن أهم مؤلفاته في هذا المجال: رجال من التاريخ (1958)، وقصص من التاريخ (1957)، وقصص من الحياة (1959)، وغيرها...

2 –  شارع العطايف . عبد الله بن بخيت . دار الساقي . 2009 .

3 – يمكن العودة لأعمال رجاء العالم ومنها خاتم الصادرة عن المركز الثقافي العربي، وأعمال عبده خال ومنها فسوق الصادرة عن دار الساقي، أو الأوغاد يضحكون الصادرة عن دار الريس وغيرها...

4 -  إن موضوعة الأجيال في السعودية عبارة ملغومة. وفي الواقع حتى تاريخه بمقدورنا تسجيل اتجاهين: أصولي ويعتمد على السرد الديني. ولا توجد بحوزتي نماذج كافية عنه، ولكن يمكن دائما العودة إلى قناة اقرأ الفضائية والاستماع إلى ندواتها وبرامجها القصصية. وهي تسير على وتيرة واحدة وتتصل بخط مستقيم مع تراث السوري علي الطنطاوي والمصريين محمد أحمد جاد المولى والسيد شحاتة. ثم اتجاه متعصب للحداثة، وهو في الواقع مريض ومصاب بجميع عيوب الحداثة الميكانيكية  أو فوضى التمرد والرفض والعصيان.

5 -  من النماذج الرصينة والتي استطاعت أن تحسم الجولة وتضع حدا لمتاهات النثر في رمال السعودية المكشوفة للرياح وللصناعة ولغزو الخبراء المدنيين والعسكريين، وهم ولا شك طلائع استعمارية هجينة، يمكن أن أذكر: رجاء الصانع وروايتها بنات الرياض الصادرة عن دار الساقي. ثم وردة الصولي في نموذجها الأنيق والمتفتح والقريب من القلب، أقصد رواية (الأوبة) الصادرة عن دار الساقي. هذا مع تجارب أولية ومتفرقة منها ما تنشره مجلة قوافل السعودية. انظر قصة كتابات لعبدالله السفر، ورواية لعنة طبطاب الجنة لعبدالله التعزي وسوى  ذلك. مجلة قوافل، عدد 25، آب 2008 .

 

صالح الرزوق - 2010

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1335 الخميس 04/03/2010)

 

 

في المثقف اليوم