قضايا وآراء

من قصائد "تلك المسلة البعيدة" للشاعر العراقي كريم النجار (ق2)

هذا كل هباءنا اليوم

وغدا سنرثي أشياءنا الباقية

الأرض منبسطة

وأنت تزرع عليها هياكل وتروس

لمن تبقى تلك الشواهد

وما الذي تبغيه

أم تراك افتكرتها

باقة من زهور

الزهور تتناثر

وهم يتسلقون القمم

لا شيء يوقفهم

لا شيء يعادل هذا الدخان

وزفيرهم الهابط وديان يسكنها الرعاة

وصابغو الأحذية والعوانس المتحجرات

 

ينقل الشاعر الواقع الدرامي في ربط حلقة الآتي بالحاضر، جاعلا من حلقات الزمن المتجزأة ما يجهض الحلم الشعري الذي قام في أساسه ولبناته على خلق الوجود من العدم، وعلى خلق الحياة من انبثاقتها الأولى، وعلى صوت الروح الذي تلتحم عبره ذرات الكون، ويبدي امتعاضه من شعر فقد صوته وصورته، ويربط هذا الوضع باللحظة الزمنية الحاضرة التي خلفت أشعارا هزيلة، لا تعبر إلا عن غياب الخلق وعدم الرؤية حيث صار غياب اللامرئي هو الخراب المستفحل الذي يشي بالموت والرثاء، وهو يسائل هذا الشعر الذي لم يتخلق من أساطير تعود به إلى ماء الخلق بل اختنق بدخان الآلة التي تغزو الفضاء وتعتم الرؤيا، ويعزي الشعراء بصور هذا الآخر المتحجر الذي تشظى في أكثر من صورة متخيلة، وأكثر من استعارة :

 

من وقتها

حين سقط قابيل في وادي

الغراب

دونت الرافدين أسطورة الهلاك

لأبنائها الذين

من فرط حبهم تشتتوا

على بقاع

متناثرة

 

يستعيد الشاعر ذاكرة القتل حين سقط قابيل في وادي الرافدين كتأشير لأسطورة اللعنة التي حلت بهذا الوادي "الرافدين" حيث رافد الموت ورافد الحياة يتمثله الماء، وحيث التقى القطبان، النهران في أول القصيد في تيمة الموت والحياة، الحب والتشتت والوحدة والتناثر، وحيث الشاعر يتمثل إعادة الحياة والالتقاء والاندماج في تجاوز اللعنة .......

 

كيف تلاقينا من وقتها

كانت القنابل صرخاتنا

والليل متسع للتسكع والنرد

اشياؤنا تلك،

تلك التي حطت ثناياها على جناح يمامة

كان لها القنص في أول

الطيران

أظأنا ضمأنا ... فعلق الدرب بالنرجس

وانبجس الاسفلت

السراق أحتموا بنا

والبلهاء نصبوا خيامهم،

وحدهم الرعاة

كانت الخراف تفتح لهم

المسرات وهم نيام

أما الخزافون عملوا برجا من حديد الصواعق

وفخروه

لكن الوقت أنتهى ... وتعلل

النهار بالانشغال

فأنكفأ النصب

 

تشتت الآخر في أكثر من صورة، وتوزع على أكثر من مشهد، فهذه الصور الظاهرة تعبر عن الأقنعة التي تروم تغليف الأنا، وهي صور تتنافى مع صور الأنا، وقد تواترت في صور فعلية تضج بحركة انخراط الآخر في نسيج اللحظة التاريخية، ترمز إلى فقدان العقل للحكمة والانسان ينحو نحو الاستعمار والبحث عن آفاق جديدة، وتسطيح الشعوب، واستعمال سلطة الحديد والنار في الهدم والبناء، لينتهي الوقت على ايقاع الزمن الذاتي وتواري صور النهار الذي يرمز لنهار الحرب الأبدي الذي قضاه الإنسان في التسلح لمحاولة التدمير وإحلال خراب الأرض والروح . فثنائية الأنا والآخر تؤدي إلى القطيعة المزمعة بين الشاعر وإرثة الزاخر بالحروب والنكبات واستجلاء الجانب الإنساني الكامن وراء تركيبته الفكرية واللغوية .......

 

اللعبة

 

.. سأرمي بالنرد

عله يصيب نزوتي على طاولة العمر

الطاولة التي فرشتها منذ سنين طوال

لعب عليها حشد من الأصدقاء ... والجنود العابرون نحو مصائدهم

الرجال ذوي الشوارب الجارحة مثل أسنانهم المصفرة

النساء المتشحات بالسواد

البلاد التي تركتني ألهث خلفها وهي تبعد

... أفرش طاولتي بالعرض .. وأحيانا

بطول المسافة الفاصلة من السقطة الأولى

أرمم لوحها وأصقله

أجدد بياضه وما علق به ... رذاذ وغبار وشوائب سوداء

أخلع المسامير الصدئة واثبت اخرى

لمسافة أخرى .. علها تصل بي شوط النهاية

أو تغرقني

بموجة عاتية جديدة

 

ككل قصائد كريم النجار لا يمكننا فصل تجربة الشاعر الشعرية عن المرحلة التاريخية والسياسية التي يعيشها سيما وأنه شاعر عراقي انتقل منذ سنوات للعيش في بلاد المهجر تاركا وراءه بلاده تبتعد كلما ركض إليها، وفي هذه الصورة معاناة سيزيفية وقدرية فرضت على الشاعر أن يعيش خارج بلده وأن تبقى صورة بلاده صورة هاربة منفلتة، يصفها حسيا من خلال صور اللحظة الراهنة تتسع للجنود والنساء الثكالي الحزينات بلحافهن الأسود، ويستحيل شكل الواقع الخارجي إلى طاولة صدئت مساميرها يعيد الشاعر تثبيت مسامير أخرى عليها، والنجار هو الله الذي صنع كرسي العرش واستوى عليه، والشاعر يتماهى مع الإلاه في صنع طاولة يعيد صياغة دفاتره الشعرية عليها وهو يبحث عن قصيدة تحمل أفقا، وتتمثل المرئي، لتختزل القصيدة رؤية تقوم على النهوض وتجاوز الأزمة الضاربة في أعماق الذات العربية والعراقية التي تزعزت إثر سقوط بغداد . والشاعر وهو يعيد صقل اللوح بعد ترميمه إنما يعبر عن تجليات ذاته الفردية الخاصة وهي تقطع مع شعر الهزيمة وموت الذات التي فرضها وجود الآخر في الوعي العربي وطمسه للأنا ليحل محلها، بل ثمة استرجاع لحالة البياض التي تزيل كل الشوائب والعوالق ..

 

وتغلف الصور الواضحة بصور مغلفة بالغموض، ففرش الطاولة بالعرض، وترميم لوهحها وصقله، وخلع المسامير الصدئة وتعليق أخرى صور واضحة وإن بدت رمزية شفافة، لكنها الطاولة غير الطاولة العالقة في الذاكرة أو كصورة تجريدية كما أن الرذاذ والغبار والشوائب، هي صور لمظاهر القبح العالقة على ألواح ذاكرة الشاعر وينحو نحو تطهيرها، وتلك غاية الشعر حسب أرسطو، فالشاعر يريد التحرر من ثقل الماضي بصور غير مباشرة حتى وإن قامت الصور على بناء فكري وتأمل باطني، وهو ينزع نحو بناء جمل فعلية حركية مركزها الأنا، وهو يصف فعلها التطهيري، فهو ينزع نحو بناء صور جمالية موحية، وإن حدد لنا مراجع لصور واقعية حسية، فهي لا تحيل إلا لفكر الشاعر وشعوره وقد تشكلا عبر الصور النافذة للفكرة .

 

وتتكرر مفردة الطاولة في القصيد، وتتحول إلى طاولة العمر، وتبدو كإناء لأفعال وأحوال، وتتحول إلى لعبة، وقد لعبت عليها صور عديدة، وتستحيل الطاولة إلى ذاكرة مادامت تحتفظ بتفاصيل الماضي والحاضر، وتمارس الذاكرة لعبة الكشف عن الصور ولعبة إخفاء الكينونة، وتستحيل الصور الجاهزة إلى لغة جاهزة لا تعكس إلا الصور المميتة المتشحة بالسواد والصفرة، وتتحول الألوان بين طيات هذه الصور إلى إحالة لظلال الموت والفجيعة التي تفضي إلى غربة الشاعر الذي ينأى عن ذاته كلما نأى عنه وطنه، وإن كان وطنا من الكلمات أو وطنا من المعاني أو وطنا حقيقيا ..وفي العودة إلى ترتيب عناصر الذات وصورها يسترجع الصور عبر الإدراك التصوري في حال السقطة التي تفضي إلى عالم مختلف، عالم قد يفضي لليقين أو لسلم الولوج نحو الذات وقد تعددت عتباته وعمقت المسافة المؤدية إليه ..

 

في قصيد الضوء يشف عنك

 

المكائد

مصائد غزلان

تصيد حجلك

فتتعثر قدماي

 

الشك يذهب بك

فأعيد ذاكرتي

لأعيدك

 

الوهم

كان سيد الوقت

فاقتلع اليقين بقصد

واستوعبك

 

 يتحول القصيد إلى حمال لقصائد ومضة تتكامل في قصيد واحد، فيستحيل القصيد كالتماعات البرق وهو يكشف عن المعاني الكامنة في الغيوم كالمعاني الحبلى المنهمرة شعرا، كيف لا وهي قصيدة الضوء التي هي تمثلا لللحظة الحادسة في أكثر من صورة نواتها مركز الأنا الشاعرة المتمثلة للحظة ولادة القصيدة، وهي نواة النص الشعري ونواة كل القصائد الأخرى . وفي التماعات الضوء يرى الشاعر المعنى وقد كبلته قيود اللغة التي تحمل فخاخها . وقد قامت هذه الومضات على الإشارات المستمدة من الواقع في المقطع الأول مادامت المصائد واحدة تحيل إلى الفخاخ وتعطل الحركة، أما في المقطع الثاني فهو يستبدل الشيء بالتصور انطلاقا من الشك واستعادة تفاصيل الذاكرة التي تعيد الإشارة أو الرمز، في المقطع الثالث فيعود إلى الرمز حيث يتحول الواقع إلى مرجع يدحضه الشاعر إذ يراه يجر إلى الشك ولا يفضي لليقين . وفي تصويره للإشارات والرموز فهو يتناولها من خلال ضمير الغائب، ويحول الأنت إلى مفعول به والأنا إلى فاعل وقد تعثر ثم يعيد الذاكرة عن قصد ليبرز تمثله للحركة الذاتية الممكنة .

 

تمددي مثل زوبعة

وانحلي في يدي

الدراويش يعتقون خمرتي

فأطلق العنان

كي يتعقبونني

في دمك

 

يعيد الشاعر صياغة منطق اللغة الشعرية بالانحراف عن منطق اللغة العادية، ويعيد صياغة الصور بالانزياح، فالتمدد مثل زوبعة يمكن فهم علاقتها على ضوء الرجات التي تصيب الذات وهي تعايش ارهاصات التشكيل اللغوي، تلك اللغة التي تمددت وانحلت وتحولت إلى صلصال لين، خافق بالروح..

 

اليد فأس

تتعاقب عليها أجيال

من النسيان

 

يعود الشاعر إلى لحظة الكتابة التي تحفر طبقات متكلسة من اللغة، وتدخل رحلة النسيان لتتمثل المحتجب، الغائب، فالكتابة تستحضر المعنى الكامن وراء الذاكرة ...

 

الضوء يشف عنك

فينبعث كزئبق

يفر من يديك

 

وفي التماعة الشعر عند حلوله يشف الضوء وقد ترك ظلاله عبر الحدس المتلبس باللغة وهو يتزئبق، يتمدد وينحل، يعتق الروح وقد امتدت في شرايين اللغة باعثة فيها شهوة جديدة لمراودة الضوء ...

 

تركض أبعادك

أجهد كي ألمها

لكنها تجرني

من حيث تراودينني

 

والقصيدة وإن أتت وانبثقت تبقى عصية على كشف أسرارها كاملة، يراودها الشاعر وهو يراود اللغة المفخخة - مصائد غزلان - لتبقى القصيدة هاربة، منفلته، عصية على تشكيل المحتجب في صوريته وتحويله إلى حقيقة مكتملة، لتحاكي القصيدة انفلاتة المعنى في عدم ولوج الميتا لغوي الكامن في قاع النص إلا عبر اللحظة الحدسية المخادعة، والتي عبر عنها غوته بقوله : " ليتني قلت للحظة ابقي معي " ...

 

الملاك كان يصهل في مراعيك

فأين يا ترى أمسي

بعد انحسار المياه

 

وإن غابت تلك اللحظة الحدسية الملائكية فقد تناسلت عنها صور مكثفة يحيكها الشاعر، جاعلا اللغة الملائكية صوتا سيكولوجيا، يوقظ الكامن وراء اللغة ثم يمضي باحثا عن منابع جديدة ........

 

خذي

لقمة الأسد

وأتركيني للأنياب

تصول رايتك

 في كل

 مكان

وتنحني راياتي

في مراعيك

 

ولكن الشاعر لا يغادر تلك اللحظة المنتشرة بكثافة الضوء وإن غادرته، بل يبقى رهين اللحظة المعبرة عن ذات فردية تنحو نحو كشف اللحظة الأنطولوجية في لغة مثقوبة بالفراغ، يوجد عن طريقها الشاعر في لحظات كتابة القصيدة، ولكنها سرعان ما تفرغ من شحنة الضوء وهو يشف وينأى ليبقى الشاعر رهين ما تفصحه اللحظة الحادسة في حالات أخرى ....

 

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1336 السبت 06/03/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم