قضايا وآراء

من قصائد "تلك المسلة البعيدة" للشاعر العراقي كريم النجار

حاضرنا فهي بذلك تجعلنا قادرين على النظر إلى اللامنظور بفعل الضوء هذا الشرط الترندستالي لخلق المرئي "، فهو يعيش في عالم من الصور، وينتقي الصور بدقة، انطلاقا من الحالة التي يعيشها، إذ يراها بروحه، لتبدو الصور أكثر التماعا في مخيلته، قد تكون صدى لصور غائبة يقع استرجاعها، أو صور تحيط به، وفي كلا الحالتين فعمق التجذر في الذات والغوص في تجلياتها والتعبير عن همومها، هي تلك النقطة التي ترتكز عليها صور قصيدة الشاعر العراقي كريم النجار:

 

في النقطة ترتكز الأصول، ينحرف المستقيم قليلا

وفي إبهار الضوء تلتمع فقط ... عيون تبحث طافية على الماء

تبحث عن قشة لتقصم بها الموج

تبحث عن شراع تكسر

مصير يجر إلى الأعماق، أو طمي يتلبس الرموش

 

تلك النقطة التي تلتمع متمثلة حالة البحث عن الخلاص في ظل تكسرات الذات التي تتمثل مشهد الغرق في دوامة العناء، يبحث فيها الإنسان عن قشة يحتمي بها للنجاة، عن قطعة مكسرة ليرمم بها ذاته، لكي يعيد إبصار هذا العالم عبر التماعة الضوء في ظلمة الوجود . و ينقل لنا حالته اللاواعية وقد تلبست بالوعي وهو يلتقط الصور حدسيا عبر شعلة الضوء الروحي الذي يستكين في أعماق الفنان عامة وتنير له طريق التجسيد الفني لاعتمالاته . وقد تمثلت صور القشة التي تقصم الموج، أو الشراع المكسر، كصور رمزية لأنا تجنح نحو الارتفاع عن وضعها، والملاذ الذي يفتح لها أفقا في بحثها عن نقطة التمركز وإعادة الارتكاز، ولبحث دائم عن إعادة بناء الحياة التي تقوم على أنقاذ ما تهدم، لأن أدوات التجسيد لحلم الخلاص هي أدوات ماثلة في مركز الذات العميق، تماما كاللغة تبني عوالم ومساحات للحلم في عالم يكسوه الخراب وتحيط به المآسي الخارجية والهموم الوجودية للشاعر .

 

كم عميت أبصار،

وكم تحدرت سلالات منذ أزل التاريخ

بقيت تبحث عن ضوء

أو رفقة قديمة تأسرها منذ جناحي عصفور

الملائكة يتساقطون كحروف الجرائد عند الصباح

وتهشم أسنان المطبعة حروف الغرقى ... أنهم هناك ينعمون

في النهر المتواري خلف المنارات

في جنون البشر...

والصواعق ...

وزمن الحرب الذي مضى هناك

 

يبدو الشاعر مفردا في صيغة الجمع وهو يعدد حالة الضوء التي تلتمع في أعماقه على العتمة التي تشف عن عين القلب التي تنفذ عبر فجوات الظلام وهي تتغنى بضوءها الأزلي، أو بجناحي الملائكة التي تلتبس بالإنسان في حالة الخلق، كلما تلبس الإنسان بالإلاه وسما عن الواقع العادي المباشر إلى عالم الرؤيا التي ترتفع به وتعيد بناء ذاته. والشاعر الغريق استعارة للشعراء الغرقى الذين يبشرون عبر أحلامهم بنهر الخلود ... الذي يكشف عن الضوء الروحي والمعرفي، في حالة الجنون الفني الذي ينعتق عن حدود العقل الذي يعلق رؤيته على تكسرات الراهن، فيتجاوزه الشعراء وهم ينهلون من الضوء وقد تركوا زمن الحرب وراءهم مبشرين بالسلام .

 

الجثث الطافية على أطلس الموت

وفي كأس الوزير المتبجح ... المقنع ببدلة رجل الإطفاء

وفي حقائب الأطفال حين يذهبون للدرس .. لطرق اللاعودة

في النقطة ترتكز الأصول، ينحرف المستقيم قليلا

 

وعند استعراض الشاعر لصور الراهن فهو لا يقدمها بصور رتيبة حين يتحدث عن جثث الضحايا، ورائحة الموت، واستشهاد الأطفال وصورة السياسي البهلوانية وهو غير قادر على إطفاء حريق الحروب، هو يعطي صفات وصور الجاني والضحية في قالب ساخر متسم بالسخرية السوداء وهو يعري لغة الآخر المقنعة الذي غزا وقتل بعدما تقنع بقيم الحياة، وتغنى بعكس ما يضمره، لكنه كان يقتل الأمل والأطفال و عذوبة المعنى ورحيق الحياة ويعلن محرقته . وينقل الشاعر هذه الصور عبر تلبس الصور المادية الحسية برؤيته لهذا المشهد الأسود المركب من لقطات مجزأة مشحونة بتعاليق الشاعر الذي كلما تفحص العالم الخارجي إلا وانحنت الخطوط التي تشده لذاته مما يدل على التحول النفسي وانحرافات المعاني عن صورها المألوفة نحو صور مباغتة ساخرة . عبر شحن المفرادات بدلالات جديدة تعيد رسم الحياة في حالة خاصة . وعبر شعوره الخاص المتلبس بالحدس حد الالتحام بين النقطة ومركزها ... إن الشاعر يدخلنا إلى ظلال المشاهد، إلى تجسيدها بروح خاصة، وتصويرها بظلالها ولئن انطلق من مشاهد الواقع الحسي، وعبرها يكشف عن حالة الصدق الفني التي تتوهج فيها الروح بصور اللحظة الزمنية الحادثة التي انطلق منها .

 

ماذا يصيب التوازن

هشة عظامهم ...

عظة الشيخ لا تعنيني، حيث يتأرجح المعنى

بين علامة الاستفهام، والزحف للمخابئ

المخابئ تتطاير كصعدات رأس السنة، لكن ال

CNN تنقل أخبارنا من كوكب يشتعل بالنجوم

دائما هناك ....

وجه المذيعة المبتسم بسخاء، جزمة الجنرال ... قناع البهلوان

الصبي الذي يشير إبهامه نحو الحضارات، منهمك بتأثيث دفتره

أنتم معنا ... أو علينا

هكذا ترتكز النقطة في أصولها

تفتح أمريكا ذراعيها لبنو السلالات كي يتجمعوا

تفتح الحرب جوفها لتنحني الرؤوس

 

بين النقطة المتمركزة في بقعة وجودها الحقيقي، وبين الآخر. يختل التوازن بين الأنا والآخر، هذا الآخر المتسم بهشاشة حضوره أمام تجليات الذات المحافظة على مركزها، الآخر الذي يلبس جبة الشيخ وهو يلقي دروسه ومواعظ قيمه الاستهلاكية لتسكين الذات بقيمه الزائفة، تبدو قيمه هشة أمام الذات الحصينة، المسيجة، الذات الحائرة وهي تلقي نقاط أسئلتها، وتعبر عن حركتها وتيقظها، ومحاولة الهروب من هذا الوضع الجديد في مخابئ الفكرة، ترى الآخر في صورة كاريكاتورية وهي تقترب من الكاميرا وتكبر صورتها الحقيقية وتتضح ملامحها، ابتسامة وجزمة الجنرال و قناع البهلوان، فالذات ترى الآخر في صورة اصطناعية، خاوية من القيمة والمعنى تحاول الدوس على كرامة الشعوب ... يبني الشاعر تفاصيل الصورة الإعلامية والسياسية والعسكرية للآخر من خلال القناع المخادع الذي غزا به العالم العربي، وقد قام تصويره على منطق تأجيل الشاعر لللحظة الحادثة إثر التعبير عن اللحظة الأنطولوجية ولملمة وجوده الشعري عبر الصور الحسية المرتبة والصور الرمزية، واستحضار الغائب - من تحتيات اللغة، ويعيد اكتشاف العالم الخارجي بحدسه عبر "الصورة والإشارة والرمز"، فهل غرقت النقطة في ارتكازها ؟

 

 قسم الشاعر قصيديته انطلاقا من تحديد نمطين للصورة، صورة الآخر وتفاصيلها " المرئية المجسمة "، وصورة الذات من منطلق رمزي . فالصور العابرة التي يلتقطها الشاعر بعدما انطبعت في مخيلته، لتعبر عن حالته الوجودية وهو يلتقط الصور المرئية التي توجع الذات، لكنه يعيد تركيب تفاصيلها، وجمعها من هنا وهناك وتحويلها من العالم المحسوس إلى العالم المتخيل، إذ تتنافذ حالة الشاعر ومعاناته، وتصوراته إلى إعادة تصويرها وإنتاجها داخل القصيدة . فهي صور حسية مرئية ملتبسة بالشعور والتصور والخيال في شكل فني متمثل . فثمة تنافذ بين الصورة الذهنية والصورة الرمزية ليجسد خاصية التصوير باللغة وهي تمزج الحسي بالتصوري .

 

في قصيد خـدر

 

أيها النائم

... أيها النائم

ألا استيقظت ذات يوم ؟

كفك المرفوعة بوجه الزمان

لم لا تخفضها

... ولو

بوجهها الملائكي

 

ينطلق الشاعر من الصورة الذهنية المعبرة عن تأملاته وارتسماته، فتوجيه النداء للأنت، للإنسان، للعربي ليستيقظ ذات يوم، لم تتقترن الإفاقة بالزمن الموضوعي بل زمن الإفاقة على الزمان الذاتي، الذي هو روحي معنوي، مرتبط باليقظة النفسية، وبالحركة الذهنية والفكرية، وقد استخدم الشاعر الصورة الرمزية التشخيصية إثر استخدام الصورة الذهنية حين يتحول للكف وجه ملائكي، وهو استعارة إلى روح الخلق عبر الصورة، لكنه الخلق الذي ينهل من روح الجمال، لا من رؤيا الشيطان . فالصور وهي تنتقل من الذهني إلى التشخيصي أشبه بالتصوير الذي تعتمده الأسطورة سيما وأن الفكرة إن خلت من الصورة تفقد طابعها الشعري، فالصور تعبر عن الفكرة وهي تنسج داخل هذا المقطع الشعري الذي يحض على الإفاقة المقترنة بالرؤيا المتلبسة بالصور الشعرية المبتكرة .

 

... أيها المتعثر

المتعثر دائما

هل سألت عن الذي

زاد في حفرته .. ووقع بها

الأعمى تقوده عصاه

والعصا تفتح الطريق

لا أفق له

نصبوا الفخاخ له

تفحصها جيدا

واحدة ... واحدة

ودخل في شركها

 

الشاعر هنا على نقيض الأعمى الذي لا يرى، وعلى نقيض الشاعر الذي ثقبت لغته بالفراغ والعماء، على نقيض الحركة المتعثرة، العبثية، التي لا وجهة ولا أفق لها يصور الضوء الذي يتمثله، إلى الحد الذي صار فيه في مرتبة أعلى موجهة، ضاجة بالقول، وبالفعل . فيتجلى الشاعر هنا على صورة الفنان الرومنسي الذي أعتبر " الضوء الهادي للبشرية "، فلا مجال للغة شعرية دون أفق، ودون منفذ، ودون توق للخلاص . ذلك ما أوحى إليه الشاعر في صورة الأعمى الذي يملك عصا دون وجهة، من السهل وقوعه في حفرة الخداع، فالرؤيا مقترنة بالرؤية، ومن ثمة تبرز من جديد الرؤية الرومنسية حيث تمثل كل من " الرؤية والصفة الخاصة للاستحواذ على الشكل الجوهري الملكتان المحددتان اللتان يكشف الفنان من خلالهما على حقيقة الأشياء الجوهرية " حسب رسكن وهي " حياة شائعة في الكون كله، كما أنها صورة الله بالفعل "، وبذلك يستند الشاعر للجمال النمطي" المعبر عن كلية الكائن الذي لا يستجيب للشروط الآلية لوجوده التي تعمي البصر والذهن والبصيرة .

 

هل تبقى شيء يمسكه

المرأة غادرته

والمرايا مكسرة

والحقول ... تعصر أعنابه

لتجعلها هواء

رداء الكاهن لا يليق به

ولا طلته تشير للخواء

لكن الضوء سرق عقله

وأمسى ريشة

تلعب في الفضاء

 

مرة أخرى يرى الشاعر العالم الخارجي بروحه لا بحواسه، فالحواس تنقل عالم مفزع، من صور مرئية مفزعة، عالم قائم على الفراغ، على رحيل المرأة، وتكسر المرايا وبتالي غياب المرايا العاكسة التي تعكس اللحظة الحادسة، والحقول التي تحولت من شيء حي إلى كائن يحمل في باطنه الفراغ وقد غادرته الروح، لكنه يرى العالم بصورة روحية عميقة تتجاوز صورة الكاهن وصورة الإنسان المتشيء إلى الشاعر الذي خلق الأساطير، وشكل الكون على هواه، وإلى صورة الرسام الذي شكل الكون الشعري، فتماهى الشاعر مع الخالق في الضوء على نقيض العتمة، وفي تشكيل الوجود بصورة متناسقة تكشف عن اتساع الرؤيا وبهائها، أليست حياة الإنسان الكلية صورة لله بالفعل ؟ كما أشار رسكن ؟

 

كما الروح تعلو

.... كالفراغ

حين يهبط

أصحو ولا أنام

أنام ولا أهدأ

كالصحو في الفراغ

 

الروح، الفراغ، الصحو، النوم هي كلمات تنفرط وتجتمع في معجم كريم النجار اللغوي، وهي كلمات يعيد الشاعر تركيبها في سياق كل جملة لتعبر عن معان مختلفة من قصيد إلى آخر ولئن انخرطت في معجمه اللغوي المخصوص . إن المعنى الذي ينشده الشاعر هو وراء اللغة ووراء الكلمات، بحث له الشاعر عن صورة تشبيهية للتحول : الروح المرتفعة والفراغ الهابط، فهو يرصد لحظة التحول بين الأجواء العليا والأجواء السفلى وفي ذلك الضغط بين طاقتي الصعود وطاقة الهبوط يستجلي المعنى الغامض، العاصف، الغائب في اللغة، الحاضر وراءها .. هو المعنى الذي لا يمكن تحديده في حالة الصحو وفي حالة النوم، لأنه وراء اليقظة والنوم، ولكنه عالم يشير إلى يقظة آخرى في عالم دون رموز ودون صور، فلا الروح، ولا الفراغ، ولا الصحو ولا اليقظة، كلمات قادرة على ايصال المعنى الهارب .

 

نهران يخترقان جسدي

قطبان متنافران

متى أمسك رأسيهما

وأنفجر

 

نهران، قطبان، رأسيهما، كل هذه الثنائيات تتنازع دون أن تكشف المعنى الذي أراد الشاعر ايصاله . والشاعر إنسان تتصارعه ثنائيات شتى : الروح والمادة، المعنى واللامعنى، الصحو واليقظة، الوعي واللاوعي . كل هذا الانفصام في عناصر الطبيعة ما جعل الرموز غائمة، والصور منشطرة، والشاعر تتقادفه تيارات اللاوعي وهي توزع عناصر وجوده بين ضدين متنافرين .. وهو ينتقل من الأفعال الواقعة عليه إلى الفعل المقترن بالأنا، حيث الأنا تصبو نحو تحديد وجهتها خارج هذه الثنائيات التي تحضر كلما غابت الأنا، وتغيب كلما أعلنت الأنا عن حضورها .

 

تفرع الفولاذ وأنبت شجرا

حين حط الرخام

 على راحتي

واستطال

مستغرب

 ظل الفجيعة

لا ينظره أحد

 

وحضور هذا الأنا عودة إلى أسطورة الشجر اليونانية التي تتمثلها هيلين دينتراش رمز التحول والتبادل، فقد قامت على أنقاذ حرائق الفولاذ الذي انصهر بمعادن الخلق، حين تحولت الأرض إلى معدن رخامي يعيد الإنسان تشكيلة بفعله وإرادته، ويتحول الرخام المستطيل إلى شجر يتسامق يعلو كلما استشعر الأنا ظل الفجيعة ومضى نحو إعادة رسم الصور الإنسانية الخلاقة ..

 

أيها النهار العابس

العابس ....

دائما

أيها الثور الأبدي

يا ابن النحاس المتلظي في سمائنا

لماذا تطوقنا كل حين

ساحبا أيانا إلى المشاق

نحو جوقة خرساء تتفرس فينا

في الخراب الموحل

أوصل ترابي عبر مسامي

صراخ خلف أبعادي يتبعني

يذريني

كي لا يراني

 

وهو يتوجه بالنداء للنهار، فهو يستحضر الزمن الغائب، زمن الحلم الذي تنفرج فيه تقاسيم الصور وملامحها، ويعود إلى ثنائية الحاضر والغائب، اللحظة الحادثة واللحظة الأنطولوجية، إلى التقابل بين نهار لا يكشف عن نور الحقيقة ما دامت اليقظة مقترنة بالسيرورة البشرية التي عرفت مراحل متوترة وحروبا ونكبات، وقد يحيل النهار إلى أيام العرب وهي أيام الحروب، فعملية استرجاع تلك الصورة في ديمومتها إشارة إلى تكرر فعل الإنسان الذي يشي باختناق اللحظة مادامت تواصل فعل الخنق وتطويق الذات، وتلازم الحركة، وتعتم الروح وتسحبها نحو مشاق لا تنتهي ... حيث الأرض الخراب، الأرض التي ظلت تقاوم الموت رغم الدمار مادامت تحتوي على سر الحياة وكنه الوجود، وعلى الحياة التي تنفرج عبر المسامات ... ولكن الشاعر يحاول أن يتجاوز صراخ الفجيعة الأعمى لكي يحقق أبعاده . وماذا يملك الشاعر غير الصور والرموز ليعيد خلق عالمه الإنساني، ويرسم أبعاده المتخيلة حتى وإن تفصد حلمه الفني عن الصورة الخارجية لهذا الواقع المتكرر في مرايا السنوات والحقب التاريخية، وفي خلايا العقل الذي واصل قدراته التدميرية، وبذلك يتنزل موقع الشعر في هذا العصر كموقع الأسطورة التي تمنحه البعد الرابع ......

تابع القسم الثاني من الدراسة

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1336 السبت 06/03/2010)

 

 

في المثقف اليوم