قضايا وآراء

بلاغة سُومريّة.. مآثر بابليّـــة..

إلى حقول الشعر والفكر والحكمة...أناشيد....ووصايا وقصص وأشعار ومناجاة وتأمّلات ومواعظ وحكم صيغت بأسلوب واضح لا تكلّف فيه تخاطب الإنسان من أقرب وأجمل طريق... طريق القلب حتى أنها يُمكن أن تقرأ كأدب حديث يتوسل لغة مشرقة وأسلوب متميّزا... لا اكتم القارئ الكريم أن أهمّ ما شدّني ولفت انتباهي أثناء قراءتي لهذه "السّومريات" و "البابليات" الخالدات التي تخطف القلب بجمالها.. تلك الحميميّة الآسرة وذلك الدّفء الإنساني الذي يحوّلها إلى ضمادة للقلوب الموجوعة والجروح النازفة وغنائيّة تزرع الأمل وتنشر المحبّة والسلام...

 

نصوص سّومريّة وبابليّة تحتفي بالحكمة والصّداقة وتتغنّى بالحب والجمال وتشيد بالعدل والإنصاف وتثمّن العمل والدأب والإتقان وتبرز فضائل الإستقامة والتواضع والرّفق وتغري الإنسان أن يكون بمستوى إنسانيته وهي تؤمن أنه قادر على ذلك ولو كانت الوصايا تحمّل لحمّلتك منها الحقائب...

 

تمثل البلاغة السّومرية والبابليّة بلاغة النفاذ إلى الجوهر... بلاغة التّجاوز...تجاوز القشر إلى اللباب...بلاغة النهار الذي يدعوك أن ترى وأن تنزع الغشاوة عن عينيك والغفلة عن قلبك والخدر عن همّتك وهو ما يجعل منها بلاغة خالدة لأنها تستمد معانيها / مغانيها من جوهر الأشياء وروحها فإذا ما قرأتها بقلبك لا بعينك ووجدتها تخاطب فيك كل شيء لأنها تستمد من كل شيء.. البلاغة السومريّة والبابليّة.. بلاغة الحضارة التي اختزنت آلاف التجارب وملايين الحيوات وطمحت إلى حماية كيانها بالتشريعات والقوانين وهو ما يجعل منها محاولة متقدّمة رائدة وظفّت تراكم الخبرة انطلاقا من إيمانها بالسيرورة الإرتقائية للزمن الحاضن الأعظم لمسيرة الحضارات وتجارب الإنسان...البلاغة السّومريّة والبابليّة جسر يصل العراق بمستقبله مثلما يصله بماضيه الحافل بالإنجاز والعطاء الحضاري الباذخ وروح يسري في شرايين أبنائه وبناته الذين لم يفقدوا يوما إيمانهم بقدرتهم على العطاء والإسهام في إغناء الحضارة الإنسانية...عبارة وردت على لسان سيّدة عراقيّة استوقفتني وشدّتني وأثارت خواطري : "العراق بلد السلام والنّور يفتقر الآن إلى الأمان والكهرباء"...النور ينشر الأمان ويمنع الإستبداد ويفضح المتواطئين مع الظلام وكم هو جميل هذا الرّبط بين السلام والأمان والنور والكهرباء...إنه يحيل على الترابط بين السبب والنتيجة وبين الأساس والبناء وبين الشجرة والثمرة...إمتلاك القدرة على ردم الهوّة بين الأمان والنور... بين السلام والكهرباء وصلا للسبب المنطقي بالنتيجة المرجوّة تحقيقا للشرط الموضوعي يعدّ تمام الجرأة والاستواء ونضج المرء يقاس بقدرة عقله على قبول الحقائق...

 

"يا من أشبّهه بالنخلة ثمرة الخير والعطاء، يا أخي الأعز، يا من أعطيت الحكمة، يا حلية من ذهب.. يـا صديقي إن فكرك نهر لا ينضب منبعه...إنه البحر المتلاطم الذي لا تنقص مياهه...دعني أسألك سؤالا فاستمع وأصغ لحظة إليّ لقد صار جسدي حطاما واعتلاني الهزال وخذلني التوفيق وذهبت عني الطمأنينة وهنت قواي وفقدت النعيم والخير وأظلم وجهي من كثرة الحزن والبكاء.

نقصت غلال حقلي ونضب شرابي...أريد أن أعرف كيف سأنال السعادة...؟

ومن الأمثال : لا كسب بدون تعب

- لن يترك العدوّ بوّابة مدينة ضعيفة السلاح

- لذة الخمر تُذهب وعثاء الطريق

- القلب لا ينتج العداوة إنما ينتجها اللسان

 

"حشد من الحيوات والأزمان، كنّا عنفوانه،

كنّا مداريه اللذين بينهما كيانه.

أفليس ذاك سوى هباء ؟

حلم ودورة اسطوانة ؟

إن كان هذا كل ما يبقى فأين هو العزاء؟

...................................................

...................................................

بين القرى المتهيّبات  خطاي والمدن الغريبة

غنّيت تربتك الحبيبة،

وحملتها فأنا المسيح يجر في المنفى صليبه،

فسمعت وقع خطى الجياع تسير، تُدمي من عثار

فتذرّ في عينيّ، منك ومن مناسمها، غبار.

مازلت أضرب، مترب القدمين أشعث، في الدروب

تحت الشموس الأجنبيّة.."

بدر شاكر السيّاب

 

في فضيلة التأقلم والتكيّف..

أذكر حافظ الأرشيف الوطني الفرنسي ذاك الرّجل الأنيق الوسيم الذي يصرّ على لبس البابيون وكأنه نجم من نجوم السينما وهو بنفس الوقت أستاذ بجامعة باريس ومؤرّخ مرموق.. عندما سألته صحفيّة ثقافية من مجلة "لونوفيل أبسرفاتور" : هل يمكننا اعتبار التاريخ درسا في التفاؤل؟.. فأجاب قائلا : على أيّ حال.. التاريخ درس في التأقلم والتكيّف وعظمة الإنسان بإرادة التعلّم فيه..

 

إن بقاء الحضارات وديناميّتها  مرتبط بتفتّحها وقدرتها على التّركيب الخلاّق وذلك يعني إدراك حدود رموزها والحاجة إلى التّركيب بينها في فلسفة تخدم الحياة وتثريها.. وإذا كنّا اليوم نحيا في كنف حضارة فاوستيّة تقوم على الحركة والعمل والمغامرة وارتياد المجهول فإن النّشاط المتواصل لا يحوّل الوسائل إلى غايات والاهتمام بالموضوع لا يعني إهمال الرّوح والجسم والإنسان كائن متعدّد الأبعاد كما أن الحياة من خصائصها التّركيب الخلاّق وهي تأبي الفصل وتفترض الوصل. إن التفتّح هو الذي يجعل الحضارة قابلة للمزج عبر انتقال الأفكار والتقنيات من حضارة إلى أخرى وهو السّبيل إلى التمازج والتلاقح.. وتظل المسألة مرتبطة بنوع العقلية.. عقلية قابلة للعطاء أو عقلية منغلقة تتوجّس خوفا من الحضارات الأخرى..

 

إن التراكم المعرفي خاصية للعقل المفكر الذي يستفيد من التجربة، فتطوّر التّفكير ملازم لتطور الحضارة وكل حضارة تتطوّر وفقا لمدى استفادتها من الحضارات السابقة. إن التطور العقلي الذي يسود لدى الفرد والمجتمع ويحدّد النظرة العامّة للكون يمثّل قوام الحضارة وتقاس درجة التفتّح العقلي بدرجة ازدهار الحضارة وإبداعها. يستلزم التفتّح العقلي فضيلة هي تحرّر الذات من سيطرة الوهم والأهواء لتحقيق حضارة متفتّحة متطلّعة مستشرفة للآتي.. أمّا انغلاق العقل فيؤدي إلى حضارة منغلقة وإلى ضعف وانحطاط رموزها ومظاهرها.. كما أن التحضّر الحقّ هو ما يكسبه الإنسان من تفتّح  من خلال تحرّره من الشّهوات والأوهام والأهواء والنظرة الضيّقة القاصرة عن إدراك المآلات البعيدة والمراقي العليا..

 

الحضارة مكسب إنساني لا يأتي مصادفة ولا سلفة ولا صدقة أو حسنة.. بل يحصل بالعمل والفضيلة...فلا حضارة دون إنجاز وفضيلة (عقلية وأخلاقية).  إن تمازج الحضارات مرتبط بمدى انفتاحها أو انغلاقها ويمكن اعتبار انعزال الثقافات سبب ضعفها الناشئ عن نقص الثقة ببضاعتها المزجاة (بعبارة القرآن الكريم) "وجئنا ببضاعة مزجاة" يوسف 88 ويظلّ التّواصل والحوار الحضاري الشّكل الأبرز لتحقيق استمرارية الحضارات والثقافات لأنه يكسبها مناعة حضاريّة تمكّنها من التأقلم مع متغيّرات الزّمان والمكان وهو بعض أسرار قوّة الحضارة الإسلاميّة...

 

القواعد من البيت العراقي...

جاء في التّنزيل العزيز قوله تعالى : "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل " البقرة 127

يرتبط الخليل إبراهيم عليه وعلى نبينا السّلام بأرض العراق بحكم ولادته في بلاد ما بين النهرين وهو رمز التّوحيد الذي يعتبر قفزة هائلة في الإدراك والوعي والقدرة على التجريد... وقد ذكر له القرآن الكريم مواقف عظيمة لا يكفّ توهّجها منها تحطيمه للأصنام وإفحامه للنّمرود وبذلك وبغيره كان أمّة في رجل... وكم يجدر ويجمُل بأبناء العراق اليوم أن يستهدوا بسيرة هذا النبي العظيم ويستلهموا مسيرته الحافلة بالإنجاز وخاصة رفعه للقواعد من بيت الله الحرام الذي جعله الله مثابة للناس وأمنا.. فيرفعوا ويؤسّسوا قواعد البيت العراقي الذي يسع الجميع بلا تفرقة ولا تمييز.. عراق المستقبل المنشود والمأمول...

 

لا خوف عليهم ولا هم يحزنون..

نقرأ في القرآن الكريم هذه الآية الجامعة المانعة المحفزة المستنهضة للهمم و العزائم الدّاعية للخير والسّلام وتوحيد الصّفوف : "إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل  صالحا فلهم أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" البقرة 62.

إنّ الحقيقيّ لا يدعو إلى الإقصاء .. والله حقّ وعدل وأمل ووعد ورحمة.. فأين تذهبون ؟؟!..

 

كلمة سَواء..

المشترك الإنساني الذي لا يختلف فيه عاقلان هو الكلمة السّواء التي جاء القرآن الكريم داعيا إليها في ذلك النّداء الخالد الذي لا تزيده الأيام إلا توهّجا وقوّة فتجد جميع العقلاء يَخْلصون إليه ويدعون بطريقة أو بأخرى "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير" الملك 14. "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئا ولا يتّخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون" آل عمران 64.

 

علامة ...

"المسجد الحقيقي (أو الكنيسة أو البيعة أو مكان العبادة عموما) هو الذي يقيمه الرّجل في قعر قلبه"... هناك الصّلاة الحقيقيّة وهناك الدّعاء وهناك التّجلّي والقرب وهناك السّر وأخفى..

 

لا أحسب هذا المثل إلا من الباقيات الصّالحات لحضارة ما بين النّهرين.. فطوبى لمن كان قعر قلبه نظيفا نقيا ؟؟..

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1337 الاحد 07/03/2010)

 

 

في المثقف اليوم