قضايا وآراء

المكان بين الرمز والواقع في: "حبّ من نوع خاصّ" لمحمود بلعيد

ويرى الربيعي "لا بد لقراء ودارسي القصة القصيرة في تونس من التوقف الطويل عند تجربة الكاتب محمود بلعيد، فهو من آباء هذه القصة الأصلاء الذين بدأوا الكتابة منذ ستينات القرن الماضي . وعندما أصفه من الآباء فإن للقصة في هذا البلد العربي المعطاء أجدادها، لنتذكر علي الدوعاجي مثلا الأقرب من وجهة نظرنا لمحمود بلعيد، ولنتذكر أيضا البشير خريف وملحمته الجميلة " الدقلة في عراجينها " ولنتذكر كذلك العروسي المطوي الذي رصد سنوات نضال الشعب التونسي ضد الاستعمار ...في هذه المجموعة الجديدة التي اختار لها إسم " حب من نوع خاص" نجد تجربة مضافة إلى تجاربه الأولى ... وكان محمود بلعيد ومازال، رغم جديته الحياتية، على ديدنه الساخر القديم الذي من النادر أن يبرع فيه كاتب . والسخرية عنده تبنى على المفارقات الطريفة التي تشكل محور الكتابة التي ظل أمينا لها في كل ما كتب من قصص، ومحمود بلعيد هو حكاء المدينة العتيقة، وهو أيضا ذاكرتها ..."

 

وما نلاحظه أن المكان يحدد هوية التجربة القصصية عند الأديب محمود بلعيد منذ مجموعاته القصصية «أصداء المدينة»، «عندما تدق الطبول»، «القط جوهر»، «عصافير الجنة»، «شكرا أيها اللص الكريم» و «حب من نوع خاص» الصادرة عن الدار العربية للكتاب في 229 صفحة وتتركب من 12 قصة .

 

 وحول أهمية المكان في قصصه صرح محمود بلعيد " في مجموعتي القصصية "حب من نوع خاص" تركت المكان كأرضية لرصد العلاقات بين الأفراد وأن أجعل من عوالم الفضاء المكاني مختلفة عن المجموعة السابقة لأن الفضاء المكاني مرتبط بنمط الشخصيات في الحاضر والأحداث المقترنة بزخم الحاضر . لأجعل كل عالم من عوالم قصصي مختلفا عن الآخر، فالمكان نبع متدفق بكل مكوناته والثراء موجود في الأمكنة. والأبطال الذين يتحركون في هذا المكان يأتون في مرحلة ثانية، فأنا ككاتب أحيا المكان وأكتب في صلب ذلك المكان حيث الحركية والحيوية . وبإطلالة خاطفة من شباك عيادتي التي تنفتح على الشارع الرئيسي بالمدينة (العاصمة التونسية) تتخلق الأجواء من جديد، وأثناء تحركي بين مكونات المدينة ومقاهيها كنت أتأمل الصور وأستبطن ملامحها وأحمل تلك المواقف والأحداث، والحوارات لأحولها إلى إحالات وتعاليق . وكتبت عن مقهى باريس في قصة " قبة وبطحاء " في مجموعتي القصصية الأولى " أصداء في المدينة " وقد أعجب بها الأديب المرحوم البشير خريف بشكل كبير وأعطاني آراءه حولها على أوراق كراس . فالحياة موجودة في المدينة كمكان، بحركته، وضجيجه و ديناميكيته . وهذا ما يخلق الثراء . وفي مجموعتي الأخيرة عدت إلى الفضاء المكاني بباريس حين قضيت عطلة الصيف في 2006 . وللمكان ألفته في فرنسا أيضا بما أنني درست بفرنسا وبدأت كتابة القصة هناك وأنا طالب، وأزورها من حين لآخر . وبذلك فللمكان أهميته في كتابة القصة . والكتابة هي عملية تراكم . فللكاتب حياته وأجواءه والحياة تمر وتتنوع وتتلون بالعصر" (2)

 

 

أمكنة رمزية

على خلاف الأمكنة الواقعية التي تنفذ بنا الى الأحداث ذات المرجعية الواقعية عند عملية الإيهام بالواقع فإن المكان الرمزي يخلص بنا الى الفكرة التي أراد الكاتب التنبيه اليها «المكان يضحى مزدوج المرجعية، إحالته الى الخارج لاتكسبه قيمته التعيينية وإنما يكتسبها من إعادة تفكيك شفرته في ضوء الحدث الذي يرتبط به»(3) .

 

ففي قصة «الحنين الى الأوطان» ثمة خلق للأجواء الأسطورية حين تتحول مقبرة في أحد الأحياء الباريسية الى إطار للأجواء العجائبية، حيث يستمع سكان الحي كل ليلة الى عويل وصراخ ينبعث من تلك المقبرة و «شرع الحراس يجوبون المقبرة وانتشروا في أرجائها مدججين بالكلاب، لكن الغريب في الأمر، لم يجدوا أحدا بداخلها : لم يضبطوا متشردين ولا متمردين ولا بوهيميين ولا فاقدي هوية، رغم ذلك نشط الحراس وتمادت حراستهم، انطلقوا يبحثون وينقبون مرسلين الكلاب بين القبور في كل الجهات والنواحي ويذرعون شوارع وأنهج المقبرة من أدناها الى اقصاها» تبين إثر البحث والتقصي أن سبب العويل لايعود لأحد الأحياء بل ينبعث من قبر : مامادو» الزنجي الذي قضى في باريس، ويبدو حسب التفسيرات الظاهرة بأنه يحن الى إعادة دفنه في وطنه الأم، ويؤشر الى صرخات الإنسان المهمش يتردى بين الشك واليقين . ويرفض أن يبقى في مقبرة يؤمها المهمشون وفاقدو المأوى فشخصية مامادو ترغب في كتابة واقعها بالطريقة التي تريدها وتنكتب في القصة لاكما يكتب عنها في الواقع ولئن عبرت عن ذلك بصوتها السيكولوجي .

 

في قصة «وتوقفت الجنازة» تلتصق الأمكنة بحكاية من الحكايات التي يحكيها أحد المرضى لطبيب الأسنان .هي حكاية لم تختلق في حالة هلوسة أو عند تبنيج ضرس المريض بل تسبق الحكاية معالجة الضرس، فالحكاية هي الداء الذي استفحل في مساحة القص: « لا أعرف لماذا عندما أزورك في عيادتك يهيج علي وادي الحديث والضحك والحكايات تأتي الواحدة وراء الأخرى» (ص 38 ـ 39) .

 

الحكاية هذه المرة تتحدث عن الميت الذي قام وجعل ينطع كالغزال فوق السطوح، هي حكاية ساخرة بطريقة حكيها وبطرافة شخصياتها. الأمكنة في هذه القصة تفقد وظيفتها المرجعية في القص، فالعيادة لم تعد وعاء للحدث الأساسي وهو معالجة الضرس، والتابوت لم يعد وعاء لشخص ميت، والقبر المفتوح لم يعد فوهة متسعة لابتلاع أحد الموتى في جوفها الآسن .

 

إن سارد الحكاية هو الذي يكسر منطقية المكان الواقعي في الحكي ويحدث ضربا من الأحداث غير المألوفة ويخلق المواقف الساخرة . فثمة استبدال للواقعي بالرمزي الذي لايقال الا بطريقة ساخرة، وكأن الحاكي كأحد نواة المجموعة يعبر عن واقعه رمزيا... فالحدث يحدث خللا في رتابة الأمكنة الثابتة التي لم تعد محنطة لحركة الشخصيات في عصر عرف هزات علمية وسياسية رهيبة، أحدثت حيرة وتصدعا في ذهن الإنسان الراهن «كل الحياة مصائب وغرائب، كل الحياة غرائب وعجائب... والانسان يعلم ما لم يعلم والاخبار الجديدة تطلع كالفقاع والأحداث التي لم تحدث من قبل يأتي يومها وتحدث هكذا الدنيا يادكتوري العزيز» ص66 .

 

 

أمكنة واقعية

المدينة بتخطيطها الهندسي هي حسب طرشونة «ليست مجرد مكان يؤطر أحداثا بل تكتسب خصائها مما يحدث فيها وممن يتحرك فيها ويصارع ويتكلم فلا يقل اللفظ قيمته في الدلالة عن المكان من وصفه الخارجي وصوره المتعاقبة» (4)

 

 في قصة «مارطون صيف» يبقى عنصر التشويق قائما حتى نهاية القصة، فالحدث هو ذاته في كامل مكونات المدينة العتيقة بتونس : قيس يحمل ملعقة ويركض في أزقة العاصمة، نتلمس ملامح شخصية حركية في فضاء معلوم وفي مدينة قائمة في حين أن الحدث مجهول السبب .حدث أحدث دهشة وحيرة في ذهن القارئ، لكن الكاتب محمود بلعيد لعب على تقنية الاستبدال المكاني حين تتجزأ المدينة الى أكثر من مكون، فلا يقل المكان قيمته عن الحدث في تصوير تمثل الشخصيات للمكان، فلكل مكان نماذجه وصوره اللغوية وتصوراته الذهنية في قراءة الحدث: «باب سويقة... باب البنات.. ثم صعد نهج باب البنات... مر أمام مقهى، قام له الجالسون واشرأبت اليه أعناقهم وكادت عيونهم تخرج من مآقيها» (ص 137) «باب المنارة بقي الاسم واختفي الباب كذلك المنارة... ازداد عدد الساعين وراء قيس... والتف البعض حواليه» (ص 140)

 

 قيس يعجل فالصعدة صعبة كأداء عم بشير وقف تريث برهة كي يخلو الطريق من المهرولين المتعجلين. وقف.. ثم ابتسم وهو يقول بينه وبين نفسه وقد اطمأن لوقفته وانتشى «مهبول هبل جماعة» ص 141 . القصة طويلة تمتد من ص 137 الى ص 161، ولكنها تغري بالقراءة فهي مشحونة بالتعليقات الطريفة ـ وبتنوع الأصوات والمشاهد الساخرة .

 

حيث يلبس بلعيد شخصياته الملتفة بقيس أثوابا ثقافية لسكان المدينة، لمخزونهم اللغوي، لدعابتهم وغضبهم والصور التي يبدون عليها . فهو كمن يلتقط الأحاديث، التعليقات التوقعات ليلصقها بالمكان المرجعي وليشحن قصته بالحياة في تلقائيتها وليغذي الواقع بالخيال القصصي .

 

ان للمكان الواقعي في هذه القصة روحه وأدواته الادراكية، إنه المدينة بصورها و ذاكرتها وحكاياتها التي لاتنتهي ولا تستقر. والمكان هو شديد الالتصاق بالحدث في قصة «حب من نوع خاص» حيث يتحول المكان الى إطار لنشوء علاقة عاطفية بين مهندس وكاتبة محام في العاصمة . إن المرجع المكاني الذي يعود اليه بلعيد ثابت لايهامنا بأن القصة قد تكون جزءا من واقع المدينة، المدينة التي لم تلفظ مشاعر العاطفة التي وصلت الى حد الإتيان بتصرف مجنون لقيس في قصة «ماراطون صيف» المدينة بتخطيطها الهندسي الثابت هي الشاهدة على الحفاظ على العاطفة كقيمة اجتماعية «العمارة قديمة، تقع في نهج ضيق مغمور، ذي اسم قديم، منذ عهد الاستعمار. نهج «البرنيطة» ويفتح هذا النهج الصغير على نهج سيدي بومنديل أين باعة التوابل والفلفل الشايح والفواكه الجافة، ثم يخترقه محتشما، ويمتد الى أن يصل الى نهج باب الجزيرة وهو ليس نهجا ولا شارعا بل شبه شارع طويل عريض يعج بالسيارات كامل اليوم وشطرا من الليل وهي متنقلة بين ربط وربط ثم تعود صارخة عاوية، بداية من الصباح الباكر لتؤم المدينة من جديد... وسط مدينة تونس .

 

من قديم من عهد الاستعمار الفرنسي يعج بمكاتب المحامين والمهندسين والأطباء والمتاجر والشركات... ص 28 ـ 29 .

 

المكان الواقعي في قصص بلعيد منطبع في الذهن والوجدان والعين الناظرة، قد يتغير التعبير عن عاطفة الانسان فيه كأن يخرج المهندس لسانه للتعبير عن حبه للسكرتيرة أو يستعيض عن الكلام العادي بكلام يبدو ملغزا لأن اللغة او الملفوظ ما هو الا شيء رمزي قد تسخر فيه الشخصيات من التحولات ولكنها لاتنفي التصاقها بهويتها الاجتماعية « المكان هو ما تدركه الحواس في كل خواصه في الوانه وروائحه وابعاده واشكاله وحيزه الفضائي... فالطبيعة والمواد وما يصنع منها والعناصر هي نفسها والسماء والمناخ والبحيرات والأواني والبنايات والمعمار والاسلحة والملبوسات والمفروشات والحلي... هي نفسها» (5) وهنا تتشابه قصص محمود بلعيد مع كتابات البشير خريف في إسقاط الاحاسيس على الأمكنة الواقعية وتفاصيلها .

 

.......................

الهوامش

1 - حب من نوع خاص / م قصصية - محمود بلعيد - الدار العربية للكتاب - 2007 - ط1

2 - حاورته : هيام الفرشيشي، الملحق الثقافي لجريدة الحرية التونسية، 2 أفريل 2009، العدد 1009، ص4

 3 ـ المكان القصصي ومفهوم الانسجام الخطابي، توفيق قريرة م ح الثقافية ع 141 ـ ماي 2003 ص 26

-ألسنة السرد محمود طرشونة، الدار العربية للكتاب تونس ماي 2007 ص 954 

 5 ـ خصائص المكان في روايات البشير خريف، الشاذلي الساكر م ح

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1338 الاثنين 08/03/2010)

 

 

في المثقف اليوم