قضايا وآراء

تناصات المتنبي مع الثقافة العالمية (1-2)

أكبر سارق بدلا من أن يكون أكبر متماس مع كل فكرة سامية كانت قبله أو جاءت بعده؛ فقد اتهمه الصاحب بن عباد بأنه " إذا انشد شعر أبي تمام قال: هذا نسج مهلهل وشعر مولد، وما اعرف شاعركم هذا وهو دائب يسرق منه، ويأخذ عنه ثم يمزج ما يسرقه في أقبح معرض.. ولو آتي على أفراد سرقاته لطال ذلك"(1)، وزعم العميدي انه تأمل أشعاره كلها فوجد الأبيات التي يفخر بها أصحابه "من أشعار المتقدمين منسوخة، ومعانيها من معانيهم المخترعة مسلوخة"(2).

وقد أوغل العميدي في ظلمه له حتى اتهمه بسرقات مفضوحة التهافت؛ فقد اتهمه بالسرقة من بديع الزمان الهمذاني الذي ولد بعد وفاة المتنبي بأربع سنوات(3)! واتهمه أيضا بالسرقة من شخصية وهمية هو أبو الفتح الاسكندري بطل مقامات البديع(4). وسبب ذلك يعود إلى النقد العربي الذي يرى ان المبتدَع والمخترَع في الشعر قليل؛ فمهما احترس الشعراء فإنهم سيقعون في السرقة(5). فالجاحظ يرى ان المتقدمين قالوا كل شيء ولهذا فالمعاصرون لابد ان يكونوا شركاء في معانيهم سرقة أو استعانة(6). على أن موضوعة السرقات أريدت حجر عثرة في طريق الشعر الجديد المعتمد على المعاني؛ توليدها واستيفائها(7).

إن موضوع البحث لم يعن بالأدب العربي، إذ اتجه البحث إلى آداب الأمم الأخرى الحية ليدرس التناص بين المتنبي وبينها. وتأتي أهمية هذا الموضوع في جِدَّته كل الجِدَّة لأنه يبحث في النقاط المتناظرة بين أدبين بعيدين زمانا ومكانا ويصعب أحياناً تأكيد أخذ بعضها من بعض.

وقد جاءت فكرة البحث نتيجة قراءتي المتعمقة لشعر المتنبي والأدب والفكر العالميين، إذ قادني ذلك إلى اكتشاف تشابه واضح بين أدب المتنبي وثقافة العالم الآخر، ولعل هذا التشابه يعود في خطوطه العريضة إلى إنسانية وحيوية كل من الأدبين، وان سمو المتنبي وشاعريته الفذة لابد من أن تجعله يلتقي الذي بمستواه رقيَّاً وسموَّاًَ.

وقد أقصرت البحث على تناصات بارزة لغرض توجيه الانتباه إلى وجود هكذا ظاهرة في شعر المتنبي، إذ ربما سيقود هذا البحث الآخرين إلى البحث عن تناصات جديدة في شعر المتنبي أو شعر غيره من فحول الشعراء العرب.

وقد وجدتني استعمل مصادر متنوعة اشد التنوع؛ فموضوعة التناص نقـَّلت البحث بين كتب مختلفة جداً، وفي طليعتها ديوان الشاعر وشروحه؛ وقد اعتمدت شرحين هما (الواحدي) و(البرقوقي)، وتقف قبالتها كتب عنيت بالأدب الأجنبي مثل: (مسرحية تاجر البندقية) لشكسبير، و(دليل القارئ إلى الأدب العالمي) لليليان هيرلاندز وآخرين، و(هكذا تكلم زرادشت) لنيتشه، و(الفردوس المفقود) لملتون، وملحمة الفرس (الشاهنامة) للفردوسي، و(الموسوعة العربية الميسرة) و(The new Encyclopedia Britannica).

فضلا عن: كتب نقد، مثل: (حلية المحاضرة) للحاتمي، و(الإبانة عن سرقات المتنبي) للعميدي، و(تاريخ النقد العربي) لاحسان عباس، وكتب دين، مثل: كتب الصحاح؛ (صحيح مسلم) لمسلم بن الحجاج، و(صحيح البخاري) للبخاري، و(بحار الأنوار) للعلامة المجلسي، وكتب تأريخ، مثل: (مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة) لطه باقر، و(قوة آشور) لهاري ساكز، وكتب أدب مختلفة، مثل: (العمدة في محاسن الشعر) لابن رشيق، و(الصبح المنبي) ليوسف البديعي، و(الأدب المقارن) لمحمد غنيمي هلال، وغيرها.

هذا، ولا ادعي الكمال لبحثي وإنما عملت جهدي في أن أثير قضية جديدة في شعر المتنبي لم تعط حقها من البحث سابقاً وقد تركت الباب مفتوحاً لمن يجد في نفسه القدرة على إضافة شيء جديد.

وفكرة التناص تعيد للمتنبي براءته من التقليد، وتصحح فكرة السرقات فهي أكثر من وقع حافر على حافر كما يفهمه النقد المعاصر؛ فاليوت في (الأرض اليباب) جعل قصيدته مليئة باستعارات من أبيات وعبارات لشعراء وكتاب نثر في الماضي والحاضر لأنه أراد أن يثبت انه بعد قراءاتنا لأي شاعر تصبح بعض أبياته جزءاً من خبرتنا الشخصية أو التراكم الذي يكوّن شخصيتنا وليس ثمة سرقة أو سطو(8).

في هذه الدراسة ننأى بالمتنبي بعيداً عن أرضه العربية وعصره العباسي منفتحاً على الثقافة الإنسانية كلها، فانه لسمو شاعريته وفكره تناصَّ مع الكثير من تلك الأفنان المزهرة الطيبة، وفي الغالب كان مبعث هذه التناصات سمو الفكر والشاعرية، وهناك تناصات كان وراءها التأثر والتأثير كما سنشير إلى ذلك.

 

أولا- المتنبي وميجل دي سرفانتس سفدرا

في أبيات له قالها في معركة الحدث (344هـ/ 955م) يعرض المتنبي صورة ساخرة لجبن الروم، تناص فيها مع الروائي الإسباني ميجل دي سرفانتس سفدرا (1547- 1616) في شخصية روايته المثيرة للجدل (دون كيشوت)، التي مثلت فارساً يعيش في عالم بعيد عن الحقيقة(9). وقد أراد به سرفانتس السخرية من الأبطال الرومانسيين وقصص البطولة المدَّعاة حتى زمانه، الذي راجت فيه تلك القصص بشدَّة، في وقت كان الواقع الغربي يتناقض معها؛ فهو مليء بالهزائم أمام الأتراك المسلمين، وقد عانى الكاتب نفسه ذلك؛ فقد جرح في إحدى تلك المعارك(10) وهي معركة (ليبانتو) وشلت  ذراعه مؤقتاً، وأسره الأتراك وسجنوه في الجزائر خمس سنوات (1575- 1580) ولم يطلق إلا بفدية باهظة من أهله، على انه سجن مرات عدة في بلاده لعجزه عن دفع ديونه المتراكمة المستمرة(11).

صمم سيرفانتس شخصيته ليكون جباناً حد الضحك " طويل ونحيل يقارب الخمسين من العمر، يبدو خداه وكأنهما يقبلان بعضهما داخل فمه، ورقبته طولها نصف ياردة"(12)، وعلى الرغم من كثرة تفسيرات (دون كيشوت)، فهو مثير للجدل والنقاش النقدي منذ القرن الثامن عشر، إلا أنه يطابق صورة المتنبي التي طرحها صفة للجبان الرعديد، فالضعف الجسماني لدون كيشوت، واختياره لخصومه يقنعان بصفة الجبن، فقد هاجم أولا طاحونة هواء، وكان عدوه الثاني قطيعا من الأغنام هجم عليه بقوة وشراسة، أي انه يختار أعداء لا يملكون قوة، أو هو يصارع اللاشيء ولكن عندما يظهر الرعاة يؤدبونه(13)، أي إذا ظهر المقاتل الحقيقي فانه يطوي سيفه ورمحه وبطولاته الأسفنجية. وهي عين وصف المتنبي للروم في قوله:

وَالعِيانُ الجَلِيُّ يُحدِثُ لِلظَنِِّ زَوالاً وَلِلمُرادِ اِنتِقالا

 

وَإِذا ما خَلا الجَبانُ بِأَرضٍ

طَلَبَ الطَعنَ وَحدَهُ وَالنِزالا (14)

 

أي أن العيان يزيل ما يحدث الظن دائما، وان الجبان يظن نفسه شجاعا إذا كان وحده فيتخيل نفسه قادرا على قهر كل شيء عظيم.

ان التناص متحقق بين النصين، أما بشأن التأثير والتأثير فأرجح بقوة تأثر سرفانتس بالمتنبي وأخذه الفكرة من شعره، وذلك لان سرفانتس من أسرة نبيلة نزحت من قرطبة(15)، وعادة تهتم الأسر النبيلة بالعلم، كما أن قرطبة عاصمة الدولة العربية الأندلسية، وهي عاصمة من عواصم الثقافة والشعر العربي، وفضلا عن المكان كان سرفانتس قريب الزمان من تلك الثقافة؛ فقد ولد بعد سقوط دولة الأندلس بـ(55) سنة، وعاصر العرب المتبقين الذين اطلق عليهم اسم  (المورسوكيين)، وكان تأثيرهم الثقافي والفكري مستمراً إلى عهد سرفانتس.

ويعزز ترجيحنا أن سرفانتس كان نهماً في قراءة الكتب، وانه مارس كل فنون الكتابة الأدبية ومنها الشعر(16)، وكان المتنبي أكبر رمز ثقافي وشعري عربي في الاندلس، وقد أشار ابن رشيق الاديب الناقد المغربي القريب من اسبانيا إلى ذلك بقولته الشهيرة "وجاء المتنبي فملأ الدنيا وشغل الناس"(17).

 

ثانياً- المتنبي وأدب الملحمة

التناص الثاني للمتنبي مع الملاحم؛ ومعروف ان العرب دون الأمم لم يعرفوا الملاحم الا ان المتنبي المتنوع الثقافة كان على علم بخفايا وتفصيلات تلك الملاحم، ولذا خاطب عضد الدولة الفارسي بثقافة الملحمة. وهذا دأبه فعندما مدح هارون بن عبد العزيز الاوراجي المتصوف استعمل أساليب المتصوفة في مدحته(18)، وعندما مدح طاهراً العلوي استعمل أفكار الشيعة ومصطلحاتهم مثل (الوصي) و(النواصب)(19).

وبالمثل فانه مدح عضد الدولة بثقافة الملحمة فكان ذلك منه آلية جديدة في فن المدح. والفرس كبقية الأمم الملحمية يعطون الحصان أهمية بطولية تكمل بطولة الفارس فيقوم بأعمال خارقة فحصان (رستم زال) المسمى (رخش) عثر عليه بعد جهد إذ لا يوجد حصان يتحمل قوة كفه(20)، وبمساعدة الحصان قتل رستم السبع الهارب والثعبان الهائل والساحرة الشمطاء وقائد الجن وقطع سبعة جبال شواهق مرصودة ومحروسة بالعفاريت(21).

ولم يكن العرب جاهلين بأهمية الخيل أو تاركين تسميتها، ولكن طريقة تسميتهم للخيول تختلف عن طريقة الفرس، وقد ورث العرب معرفة الخيل والعناية بها من أسلافهم الآشوريين والبابليين، فدخول الخيل المعركة احدث تبدلات في أساليب قتال الكشيين(22)، وميز الآشوريون الخيل في القتال حسب ألوانها(23). وهو ما نجد نظيره عند العرب؛ ففي حين فضل العبسيون الخيول الدهم في معاركهم لملاءمتها القتال في الصحارى، استعمل فاتحو الأندلس الخيول الشقر لقوتها وصبرها في القتال بأجواء باردة ووعرة(24).

وأورد المتنبي نفسه نحوا من أربعين نوعا للخيول المحاربة في ديوانه(25). أما علة تسمية العرب لخيولهم فهي للتعريف بها وحفظ أنسابها، إذ أنهم اهتموا بتثبيت سلالات الخيول الأصيلة وألفوا الكتب في انساب الخيل(26) مثلما ألفوا في أنسابهم. ويذكر الصاحبي التاجي: أن هشام بن عبد الملك كتب إلى إبراهيم بن عربي الكناني: " اطلب لي في عرب باهلة من نسل الحرون"(27). وغاية ما أراده العرب من خيولهم ان تتحلى بالسرعة وهو ما تدل عليه أسماء خيولهم كـ(الطيار) و( النعامة) و( الدموك) و(ذي الجناح)، ولكنهم لم يمنحوها بعداً أسطوريا فأقصى ما وسعه خيالهم أنها في عدوها تشبه الجن، كما قال الأعشى:

وَتُصبِحُ مِن غِبِّ السُرى وَكَأَنَّما

أَلَمَّ بِها مِن طائِفِ الجِنِّ أَولَقُ(28)

 

 

وواضح أن النفس مختلف بين العرب والفرس؛ فخيول العرب واقعية. وهم لم يقصروا التسمية على الخيول، بل كانوا يسمون الحيوانات الأليفة الأخرى أيضاً؛ فالمرقال ناقة أبي الطمحان القيني وتعني السريعة(29)، وقرحان اسم كلب ظابئ البرجمي(30)، وغزوان اسم قط ليحيى بن نوفل(31).. وغير ذلك كثير.

أما الخيول الفارسية فهي ملحمية خارقة؛ فهم يزعمون ان أمهات خيول الملك برويز مثل (شبديز) و(كلكون) لم يكنّ يحبلن من ذكر، بل كان هناك فرس من حجر وحينما يطلبن الفحل يذهبن ويمسحن أجسامهن بهذا الحجر! وشبديز هذه عدت من عجائب الملك كسرى الاثنتي عشرة، وقد نقش رسمه على الصخر وفوقه الملك(32).

وقد أثرت الثقافة الفارسية هذه في عموم تاريخيات وأدبيات العرب كثيرا، فمقاتل الحسين (ع) عموماً التي كتبت بلا تأثير فارسي، لم يذكر فيها أي تأثير ملحمي لحصان الحسين كمقتل الحسين في كتاب (مقاتل الطالبيين)، وفي (تاريخ الملوك والرسل) للطبري، وفي (مروج الذهب ومعادن الجوهر) للمسعودي، و(مقتل الحسين) للطبراني و(حياة الإمام الحسين) لباقر شريف القرشي وغيرهم، بينما نجد مقتل الحسين الذي كتبه متأثرون بالنفس الملحمي الفارسي، يعطون أهمية للحصان؛ ففي مناقب ابن شهر أشوب نجد حصان الحسين (الميمون) أو (ذا الجناح) ، الذي ركبه يوم عاشوراء، يذبّ عن الإمام الحسين بعد سقوطه، ويحامي عنه، ويثب على الفارس فيخبطه عن سرجه ويدوسه حتى قتل أربعين رجلاً(33).

إن إدراك المتنبي حقيقة أن الشعوب الملحمية تمنح الحصان اسما بطوليا هو الذي حمله على ذكر أسماء خيول عضد الدولة فقال في مدحه:

بفارس (المجروح) و(الشِمال)

      أبي شجاع قاتل الأبطال(34)

 

فالمجرح والشِمال فرسا عضد الدولة ويدلان على البطولة؛ فالمجروح يشير الى كثرة خوضه المعارك الطاحنة وجرحه فيها، والشِمال يدل على الشؤم أي: شؤم العدو. ولم يذكر المتنبي اسم فرس لممدوح آخر حتى سيف الدولة الذي أطال المكث عنده وذكر بطولاته فلم يترك لها حدودا الا وقف على مشارفها. وقد حاول المؤرخون الغربيون ان يضيفوا ذلك الى سيف الدولة في معركة خرشنة (339هـ/950م) التي احتاجت الى سند بطولي خارق فقال شلمبرجة:" ان الجواد الجبار الذي كان يركبه سيف الدولة قفز من قمة الجبل قفزة عجيبة فنجا بها من القتل"(35). ولكن المتنبي حين أرَّخ المعركة لم يشر الى هذا الذي أضافه الغربيون مما ألفوه من النفس الملحمي لأنه خاطب سيف الدولة بثقافته العربية.

ولعل المتنبي المَّ بحكايات الشاهنامة المعروفة في بلاطات الفرس التي جمعها لاحقا الفردوسي (411هـ/ 1020م)، وفي هذا التناص نقطع بأن المتنبي تأثر بتلك الحكايات ولكن نقلها بشكل واقعي الى شعره .

 

ثالثاً- المتنبي والخرافة الأوربية:

ويتناص المتنبي مع الثقافة الشعبية الغربية في شخصية (روبن هود) البطل الذي كان يجيد رمي القوس بشكل خرافي فكان يصيب أدق الأمكنة، ووقف في إحدى المرات ليسجل اكبر بطولة في رمي القوس عندما استطاع بدقة خارقة أن يصيب برأس السهم الثاني عقب السهم الأول حتى صنع قضيبا من السهام المتراصة(36).

إنَّ هذه الفكرة عينها جسدها المتنبي، ففي قصيدته التي مدح بها علي بن سيار التميمي، وكان يتعاطى رمي النشاب، يصفه بهذه الصفات الروبنهودية ذاتها فهو يرسل السهام إرسالا واحداً لا تعثر فيه فيصير النصل من السهم الثاني مكان الفـُوْق (وهو موضع السهم من الوتر) للسهم الأول! حتى تكاد تتصل قضيباً لولا ما يعتري ذلك من الكسر.

على ان الكسر لا يبطل الصورة المشتركة فان المتنبي خشي ان يتهم بالمبالغة المفرطة فاحترز. ويصل عجب المتنبي إلى الظن بان هذه السهام التي يستعملها الأمير ذكية كبعض الأسلحة التي في زماننا. يقول المتنبي:

إِذا نُكِبَت كِنانَتُهُ اِستَبَنّا

بِأَنصُلِها لِأَنصُلِها نُدوبا

 

يُصيبُ بِبَعضِها أَفواقَ بَعضٍ    فَلَولا الكَسرُ لَاِتَصَلَت قَضيبا

بِكُلِّ مُقَوَّمٍ لَم يَعصِ أَمراً         لَهُ حَتّى ظَنَنّاهُ لَبيبا(37)

 

وإذا كان المتنبي قد المّ بأخبار أهل النوبة جنوب مصر فألهمته صورته (التناصية) فان الصورة التي رسمها اقرب إلى الثقافة الشعبية الأوربية (الروبنهودية) منها إلى أخبار أهل النوبة، وكانوا النوبيون أهل إجادة عجيبة غريبة في رمي النشاب فإنهم كانوا في معاركهم يصوِّبون على أحداق العيون فيصيبونها، لذا أطلق عليهم (رماة الحدق)(38). وبسبب إجادتهم الرمي الهائلة فشلت حملات الفتح الإسلامي للنوبة التي قادها عمرو بن العاص وعقبة بن نافع، مما اضطروا المسلمين إلى أن يوقعوا مع أهل النوبة معاهدة صلح سنة (31هـ) عرفت بمعاهدة (البقط)(39)، ولم تفتح إلا إلى العصر العباسي.

إلا أن هذا التناص النادر يعود الى الخيال الخصب، لأنه ارتفع عن مستوى الواقع النوبي الى مستوى آخر حققته الخرافة الأوربية الشعبية، ولكننا لا نرى ان المتنبي تأثر بالخرافة الأوربية لبعد المتنبي عن تلك الثقافة، بل هو التقاء تصادفي.

رابعاً- المتنبي والخرافة العالمية

ويتصل بحديث الثقافة الشعبية تناص آخر للمتنبي كان منشؤه الخرافة التي تداولتها أمم الأرض اجمع وقد صدرت مؤلفات أخيرة أكدت حقيقة وجود خرافات وأساطير هي ليست حكراً على امة أو شعب بل هي معروفة في مشارق الأرض ومغاربها. ومن هذه الخرافات العامة خرافة المَّ بها المتنبي ووظفها في شعره وهي من الأحاديث عن الجن وكونهم يختبئون في الصور ويتجسدون بها لأنهم أشباح وأرواح بلا أجساد.

ولعل وراء ذلك فكرة دينية نقلتها الأديان السماوية الثلاثة، وقد جسَّدها ووضحها جون ملتون في ملحمته (الفردوس المفقود) وهي ان الشيطان عندما طرده الله (عز جل) قرر ان يحاربه بصنع تماثيل على هيأة الملائكة الذين اصطحبهم، ودعا الناس إلى عبادتها من دون الله وهي الأصنام التي عرفتها فيما بعد ارض كنعان والبلدان المتاخمة لها(40).

ومن هنا ارتبط الشيطان والجن والأرواح بالتماثيل والأصنام والصور، وعلى هذا الأساس كان موقف الفكر الإسلامي من التماثيل والصور في زمن الرسول (ص) وما تلاه موقفا رافضاً متشدداً؛ فقد نهى الرسول (ص) عن صنع التماثيل  والصور ووضعها في البيوت لان الملائكة لا تدخل بيتاً فيه تماثيل ولا تصاوير(41)، أو بيتاً فيه كلب ولا صورة(42)، وهذا يرجع إلى حداثة الإسلام وارتباط التماثيل والصور بالأصنام من جهة، وارتباط التماثيل والصور بالجن والأرواح من جهة أخرى فان الجامع بين الكلب والصورة – كما جاء في الحديث السابق – هو الجن والشيطان وقد ورد عن الرسول (ص) قوله: " الكلب الأسود شيطان" و" .. انه جنها أو من جنها"(43).

وعلى الرغم من استحكام الدين وزوال الوثنية فان الرسم بقي محظوراً بسبب النظرة الدينية، وهذا السبب يقف وراء الغموض الذي يلف حياة أكبر رسام ظهر في العصر العباسي وهو يحيى بن محمد بن يحيى بن أبي الحسن كوريها المعروف بالواسطي؛ فبسبب موقف الفقه الإسلامي المعارض للرسم، جهل حتى سنة وفاته فهي بعد سنة (634هـ) وهو التاريخ الذي وضعه هو على آخر لوحاته بخطه(44).

ولكن وقر في الفكر الجمعي الشعبي ارتباط الجن والأرواح بالتماثيل والصور فكان المسيحيون، كما تذكر روايات وأفلام مثل (The others) الآخرون، و(Poster Ghosts) أشباح الصور، يصورون الموتى قبل دفنهم على أمل عودة أرواحهم فبعد أن تفارق الأجساد، تهرب إلى تلك الصور وتتجسد بها. ولعل هذه العادة قديمة عندهم؛ فقد ورد عن أم سلمة (رض) أنها أخبرت الرسول (ص) بمشاهدتها كنيسة في الحبشة يفعل فيها مثل ذلك(45).

وقد استلهم المتنبي تلك الصورة الشعبية فأجاد رسمها بشكل أذهل ابن جني فوقف إزاءها متحيرا مبلساً فقال: " ما أعلم انه وصفت صورة بأنها تكاد تنطق بأحسن من هذا(46)، وقد جاءت صورة المتنبي في بيت من قصيدة مدح بها بدر بن عمار. يقول المتنبي:

سَلَكَت تَماثيلَ القِبابِ الجِنُّ مِن

شَوقٍ بِها فَأَدَرنَ فيكَ الأَعيُنا (47)

 

أي ان الجن اشتاقت إلى رؤيتك أسوة بالإنس، أراد حب الثقلين له، فلما لم تستطع ذلك من دون أن تتجسد بشيء فإنها توارت في تماثيل القباب فأدارت النظر فيك من خلال عيون التماثيل. وهذا التناص يشير إلى أن المتنبي لم يهمل فكر العامة فكان جزءاً من ثقافته الشاملة، وانه في هذا التناص متأثر حتماً بتلك الثقافة.

 

.....................

هوامش القسم الاول

(1) الكشف عن مساوئ شعر المتنبي، ص64 – 65.

(2)  الإبانة عن سرقات المتنبي، ص22.

(3) المصدر نفسه، ص43.

(4)  المصدر نفسه، ص49. إذ طابق بين بيت المتنبي:

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله

وأخو الجهالة في الشقاوة ينعمُ

 

والأبيات التي قالها البديع على لسان بطله أبي الفتح الاسكندري:

أَنَا أَبُو قَلَمُونٍ

فِي كُلِّ لَوْنٍ أَكُونُ

 

أَخْتَرْ مِنَ الكَسْبِ دُوناً

فإِنَّ دَهْرَكَ دُونُ

 

زَجَّ الزَّمَانَ بَحُمْقٍ

إِنَّ الزَّمَانَ زَبُونُ

 

لا تُكَذَبَنَّ بِعَقْلٍ

ما العَقْلُ إِلاَّ الجُنُونُ

 

(مقامات بديع الزمان الهمذاني/المقامة المكفوفية، ص96)

(5)  حلية المحاضرة، ج2، ص28.

(6)  الحيوان، ج3، ص43.

(7) سلطة الشعر الجاهلي على الشعر العباسي، ص124.

(8)  دليل القارئ إلى الأدب العالمي، ص43.

(9)  الأدب المقارن، ص212.

(10) موسوعة الشعراء والأدباء الأجانب، ص246.

(11) الموسوعة العربية الميسرة، ص978.

(12)  دليل القارئ إلى الأدب العالمي، ص455.

(13) المصدر نفسه.

(14)  ديوانه، ج3، ص262.

(15) الموسوعة العربية الميسرة، ص978.

(16) The new Encyclopedia Britannica, p. 737- 739.

(17)  العمدة، ج1، ص100.

(18) مع المتنبي، ص117.

(19) ديوان المتنبي، البرقوقي، ص274- 287.

(20)  الشاهنامة، ص45.

(21)  المصدر نفسه، ص47.

(22)  مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة، ص456.

(23)  قوة آشور، ص241.

(24) ينظر حلية الفرسان وشعار الشجعان، ص97.

(25) المتنبي مؤرخاً، ص282.

(26)  تاريخ الأدب العربي، مج3، ج5، ص198.

(27)  الحلبة في أسماء الخيول المشهورة في الجاهلية والإسلام، ص220.

(28) ديوان الأعشى، ص120.

(29)  الشعر والشعراء، ج1، ص376.

(30)  المصدر نفسه، ج1، ص338.

(31)  المصدر نفسه، ج2، 731.

(32)  الطريق إلى المدائن، ص126- 127.

(33) مناقب ابن شهر أشوب، ج3، ص215.

(34)  ديوانه، ج4، ص208.

(35) شعر الحرب في أدب العرب،ص282.

(36) دليل القارئ الى الأدب العالمي، ص301.

(37)  ديوانه، ج1، ص270.

(38) ينظر: مروج الذهب، ج1، ص305؛ وأشار ياقوت الحموي إلى تلك الإجادة، وأنهم كانوا يستعملون القسي العربية (معجم البلدان، ج5، ص309).

(39) تاريخ الإسلام في أفريقيا وجنوب شرق آسيا، ص37، 38.

(40)  الفردوس المفقود، ج1، ص71.

(41)  صحيح مسلم، ج6، ص162؛ الكافي، ج6، ص527.

(42)  صحيح البخاري، ج4، ص82؛ بحار الأنوار، ج63، ص53.

(43)  لقط المرجان في أحكام الجان، ص21.

(44) الواسطي يحيى بن محمود بن يحيى رسام وخطاط ومذهِّب ومزخرف، ص19.

(45)  ينظر صحيح البخاري، ج1، ص112.

(46)  شرح الواحدي، ج1، ص236.

(47)  ديوانه، ج4، ص335.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1338 الاثنين 08/03/2010)

 

 

في المثقف اليوم