قضايا وآراء

..بيرم التونسي

 الحريص على الإضافة والأصالة والجدّة الوفيّ للمبدإ الذي آمن به والطريق الذي التزم به وسار فيه حتى آخر محطة في حياته المضطربة المتقلبة.

 

ولد بحي السيّالة في الأنفوشي بالإسكندرية بتاريخ 04 مارس 1893 في عائلة تونسية الأصل ميسورة الحال  نسبيّا. واسمه الكامل هو محمود بن محمد بن مصطفى بيرم. توفي والده وهو لم يتجاوز 12 سنة كما توفيت والدته وسنه 17 سنة واشتغل بمهن عديدة في ميدان الحرف والتجارة ليؤمّن حياته.. تمثل سنة 1913 البداية الفعلية لحياته الأدبية والفنية والصحفية، فقد نشر قصائد وأزجالا في الجرائد المحلية بمدينة الإسكندرية كما شارك في إصدار جريدة "النجاح" وتميزت أعماله بمنحى واقعي نقدي للسياسة والمجتمع. نشر سنة 1917 قصيده الشهير "المجلس البلدي" بجريدة الأهالي وبفضله حاز بعض الشهرة داخل مصر وخارجها. انتقل سنة 1919 إلى القاهرة واستمرّ في نشر "المسلة" بعد أن نشر منها بعض الأعداد بالإسكندرية وبعد أن عطلتها السلطات أصدر جريدة "الخازوق"؟! وكأنه يقول لهؤلاء: إذا لم تعجبكم "المسلّة" فهاكم "الخازوق" كما ساهم في ثورة 1919 بقلمه ونشاطه.

 

نفته السلطات إلى تونس للمرة الأولى حيث أبحر يوم 21 أكتوبر 1919 باتجاه مرسيليا التي غادرها يوم 31 من نفس الشهر باتجاه تونس التي وصلها غرة نوفمبر حيث مكث إلى غاية فيفري 1920 قبل أن يعود متخفّيا إلى مصر من غير نشاط يذكر أثناء هذه الإقامة القصيرة ببلد الأجداد. قام بنشاط فني حثيث بمصر وتعرّف بالفنان الشهير سيد درويش خلال سنة 1921 وارتبطا بصداقة أثمرت جملة من الروائع الفنية.

 

نفي من جديد إلى فرنسا من ماي 1923 إلى ديسمبر 1932 حيث أنتج أعمالا فنية متميزة رغم الظروف الصعبة قبل أن يقيم بتونس ثانية من ديسمبر 1932 إلى أفريل 1937 حيث قام بنشاط مكثف على الصعيد الصحفي والأدبي والفني وقبل أن ينفى من جديد إلى الشام يوم 20 أفريل 1937 بعد توقيف جريدة "الشباب" وتعرّضه للمحاكمة وتألب الأعداد عليه في أوساط الصحافة والفن والسياسة. أقام لعدة أيام بمرسيليا ثم ببيروت قبل انتقاله إلى سوريا حيث أقام من 14 ماي 1937 إلى أفريل 1938 في ظروف سيئة أثرت على صحته ونشاطه. عاد إلى مصر متخفّيا وتمكن أخيرا من الاستقرار والنشاط الحرّ وقدم مساهمات ذات مستوى عال في مجالات الفن والأدب والصحافة بعد أن أعيد إليه الإعتبار وكرست مكانته كأديب وفنان عربي كبير وبرز بصفة خاصة في كتابة الأزجال والأغاني وعدّ صاحب مدرسة متميزة في هذا المجال...عايش ثورة جويلية 1952 وساندها وكرّمه قادتها وتحصل على الجنسية المصرية خلال سنة 1954 ورحل عن العاجلة صبيحة يوم 5 جانفي 1961 وقد رثاه كل من عرفه بتونس ومصر وغيرها من البلاد العربية وانطوت بموته صفحة من أثرى صفحات الثقافة العربية.

 

مسيرة نادرة المثال قلّ أن تجد لها نظيرا استمدّت استمراريتها من إيمانه بفعل الكلمة إيمانا يصل حد التقديس وحبه لها حبا يصل حد الهيام. كان تارة يمضي ويمهر مقالاته باسمه الحقيقي (محمود بيرم) وتارة أخرى بأسماء مستعارة مثل "شاعر الزمان" أو "ذبانة خريف" أو "متفرّج" أو "ابن جلا" وأحيانا لا يمضي بالمرة.. أسلوبه الفذ دالّ عليه..

 

باقياته الصالحات كثيرة وإجاداته لا يذهب بريقها مرور الأيام لأنها من معدن الإبداع الخالص. يقول في قصيد له تحت عنوان : "مولد محمد صلى الله عليه وسلم" وهي معارضة لقصيد "يا ليل الصب"

اليوم الأسعد مولده/ مصباح الدهر وسيّده

البدر الباهر مطلعه / والبحر السائغ مورده

شهد الإنجيل بمبعثه / وعن التوراة يردّده

العقل أساس شريعته / والحق الأبلج مقصده

 

إلى أن يقول

لبّيك رسول الله لقد / لبّاك الصخر وجُلمده

 

وأيّ ناسك متصوّف يتحوّل في قصيدته الرائعة التي غنتها أم كلثوم ولحّنها الموسيقار رياض السنباطي "القلب يعشق كل جميل" حين يقول :

كنت أبتعد عنو......./ وكان يناديني ويقول : مصيرك يوم تخضعلي وتجيني / مكة وفيها جبال النور طالّه على البيت المعمور / دعاني لبّيتو لحدّ باب بيتو / والله سجدنالو وبالدّمع ناجيته...

 

كتب بيرم التونسي بالفصحى إلى جانب العامية المصرية والذي يقرأ له بالعربية الفصحى يجد أن امتلاكه لها لا يقل عن امتلاكه للعامية وقد جاءت سلسة لا تعقيد فيها ولا غموض أنيقة معاصرة جميلة الإيقاع بخلاف معاصريه الذين "غرقوا في كلاسيكيّتهم الثقيلة ومعجمهم البالي" حسب عبارة الباحث الحسناوي الزّارعي الذي كتب ضمن سلسلة "ذاكرة وإبداع" كتاب :" محمود بيرم التونسي في الأشعار التونسية" الصادر عن وزارة الثقافة والشباب والترفيه..يقول في قصيد : "صناعتي" الذي نشره في جريدة الزمان الهزلية بتاريخ 18/02/1933.

تدرون يا  من خلقتم / للمضغ والإبتلاع

بين العيون وبين / القلوب أيّ صراع

كلوا اللحوم وروحوا  / بالفأس والمنشار

إني أعيش وأحيا / بهذه الأشعار

 

لبيرم التونسي صور فوتوغرافية كثيرة منها صورة فريدة نادرة تجمعه بأم كلثوم وأخرى تظهره وهو في استراحة تشبه استراحة المحارب وقد جلس على كرسي ومدّد رجليه على آخر وبجانبه طاولة صغيرة عليها صحف وأوراق وكتب هي زاده في رحلة الإبداع.. غير أن أجمل صورة وأبقاها صورة إبداعه وفكره وأصالته النادرة وتلك صورته الحقيقية على مذهب كونفوشيوس الذي يقول :"من لم ير أفكاري لم يرني حتى وإن مررت أمامه"

 

توحّد بين الإبداع والذات المبدعة يصل حدّ التّماهي حتى يصير الإبداع صورة المبدع لا صورة له غيرها وهكذا كان بيرم رحمه الله.

 

باقيات صالحات لبيرم التّونسي

العمل الفني

"العمل الفني الرائع يظل جديدا ما دامت السماوات والأرض وتتكشف محاسنه كلما كثر المثقفون المبصرون...".

النقـــــد

"النقد امتداد للنبوة، ولولا النقاد لهلك الناس ولطغى الباطل على الحق ولامتطى الأراذل ظهور الأفاضل، وبقدر ما يخفت صوت الناقد يرتفع صوت الدجّال".

الفــــن

الفن ياهْل الطبيعة روح تخاطب روح

 بلغاهــا

 والفن ياهْل المحبة عين تكلم عين

 بنباهــه

 والفن ياهْل القلوب صوت من سكون الموت

 أحياهـــا

 يا طالب الفن، افتح لك كتب في الفن

 تقراهــــا

 

محسن العوني

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1340 الاربعاء 10/03/2010)

 

 

في المثقف اليوم