قضايا وآراء

" يا ... عرب" لعبد السلام لصيلع

"يا ... عرب" (1) المجموعة الشعرية الخامسة للشاعر عبدالسلام لصيلع، صمم غلافها الرسام علي عبيد صاحب الرسومات الكاريكاتورية الساخرة، أما التقديم فهو للدكتور كمال عمران . الناظر لغلاف هذه المجموعة الشعرية يلاحظ كتابة العنوان باللون الأحمر كدلالة على رسالة تتسم بالحدة والتوتر، أما العناصر الترميزية لللوحة المشهدية فهي تحيل إلى الانتكاسة وضرورة الاستفاقة في آن ، وذلك من خلال سقوط ريش طيور الحرية مخضبا بالدماء وأوراق الأشجار الخضراء التي تكشف عن بقاء الحلم على تغلغل الأرض بسلاسل اليد المكبلة وتغليفها بعلم أزرق وأبيض وصمت عليه نجمة داوود مربوط بالعلم الأمريكي.

 

الناظر لهذا الغلاف الخارجي يستشف المشهد الشعري العام طي هذه المجموعة مقترنا بالإهداء: "إلى أمتي العربية .. أمة لا تموت" . وإثر قراءة الديوان فالاستنتاج الأول هو ثقل الالتزام الشعري، وهذا ما يحيلنا إلى مفهوم الالتزام الشعري: وهل يقصي الالتزام الشعرية ؟ وما هي الحدود الفاصلة بين اللحظة الآنية (الحدث) وارتباطها باللحظة الشعرية الهاربة عن حدود الزمان والمكان. حول ملامح الإلتزام كما بينها الدكتور كمال عمران في تقديمه للديوان :

 

- النضال من أجل الحرية والوجود

- رفض فكرة الاستلاب وتعويضها بفكرة المسؤولية

- ارتباط الالتزام عند العرب برفض الاغتراب

- تولد اتجاه ذهني جعل المبدع ينقاد إلى القضايا المصيرية قبل أن يبحث عن ذاته

 

وعن الإلتزام في شعر عبدالسلام لصيلع: "هو عنده على غير صورة المنبت الأوروبي، إنه لديه منبجس عن دوافع ذاتية .. الإلتزام في مهده وسياقه الأدبي عند سارتر ومن لف لفه منظم بمقومات فلسفية قائمة على الجدلية بين التعبير والتفكير والبيئة أو المناخ السائد . والالتزام عند لصيلع فردي ذاتي .. فردي من جهة الميولات والمظاهر وهو ذاتي بمعنى انتقاله من كون شعري يخرج من أنا الشاعر وأنا المتلقي" .

 

إن الحديث عن ملامح الالتزام في تجربة لصيلع وفي المفهوم العام قد لا يقف عند هذا الحد، حيث أكد الدكتور حسني محمود شاعر المقاومة الفلسطيني أن "أهمية التزام الشاعر لا تكمن فقط في معالجة موضوعات مجتمعه فحسب، وإنما تكمن أيضا في معالجة موضوعات الحقيقة في توافر الخصائص والمزايا الفنية في هذا الشعر " (2)، وعلل الدكتور حسني محمود رأيه بأن " ماوستونغ كان يطلب من شعراء الحزب في الصين أن يخرجوا عن هذا الإطار إلى العناية الفنية بشعرهم حيث يكتب له البقاء، وبهذا المفهوم لم يكن سارتر يطالب الشعر بالالتزام إلى حد حمل السلاح في مجابهة الظلم وفي سبيل إصلاح الأوضاع في المجتمع . والسبب في ذلك كما يرى الشاعر حين يدخل في عالم الشعر عند عملية النظم يدخل هذا العالم عاريا فهو يعيش لعالم الشعر ولفنه فقط " (3) .

 

آنـيـة القـصائـد

ما نلاحظه في هذا الديوان آنية كتابة القصائد المرتبطة بالاحداث السياسية عند تحديد لصيلع لتاريخ كتابة القصائد الملتزمة بقضية العراق:

 

- كونداليزا في 22/ 01/ 2003 : الاستنفار العسكري لغزو العراق

- 30 / 03 / 2003 : أثناء الحرب الامريكية على العراق

- 9 / 04 / 2003 : يوم سقوط بغداد

- 10 / 04 / 2003 : احتلال العراق

- 9 / 05 / 2003 : ظهور المقاومة المسلحة في العراق

 

إن تزامن الكتابة الشعرية مع الأحداث الساخنة في العراق ما يجعل البعض يرى أن الانفعال قد يكون طاغيا، وهو ما يصبغ موقف الشاعر بالهشاشة الفكرية ، فالمواقف الانفعالية الآنية تبقى تحت تأثير الظرف الآني، غير أن العودة إلى مفردات القاموس المعجمي لهذه القصائد، فإننا نلاحظ أن الإنفعال يقترن بتصور الشاعر العام حيث تعبر المفردات عن المعاني القصدية ، إذ حشد الشاعر مفردات عديدة تعبر عن ثراء المخزون الذهني :

 

نلوذ بحجارتنا / وأطفالنا / نلوذ بدمائنا / بمائنا / ونبضات قلوبنا / نلوذ بصرخات ترابنا / بعرضنا / بهمتنا / نلوذ بلغتنا / وأحلامنا / واقلامنا / نلوذ بصبرنا / بهمتنا / نلوذ بأمتنا / بشبابها / وأشبالها / نلوذ بأرضنا / وزلزالها / نلوذ بحمائم السلام / وبحقنا في الكلام / باسم الزيتون الفلسطيني /

 

وسلسلة المفردات تدل على وعي قومي وتصورات إيديولوجية بمثابة "السلاح الروحي " للشاعر تعيدنا إلى القصائد الملتزمة والشعارات العربية ورموز التحرر والكفاح، إلا أن الإضافات تكمن في المفردات التي تقترن بالوضع الراهن، حيث يواصل القصيدة :

 

 والنخل العراقي / باسم من ماتوا / ومن بقوا / من الأحرار والرفاق / نعوذ بالله منك / ومن شكلك / ومن دهاليز وجهك /  (كونداليزا) .

 

صورة "كونداليزا" المشوهة مأتاها الشعور بالمرارة والتحدي والاقتراب من الحقيقة بطريقة كاريكاتورية وهي طريقة تضخيم العيوب لتبدو الصورة مشوهة، مطموسة المعالم وباعثة على التوتر، أما النبرة الساخرة فدالة على المرارة وعن اليأس من أصحاب القرار إذ أنهم لا يستمعون إلى صرخات الإنسان وآلامه . النبرة ذاتها صبغت المقطع الثالث من قصيدة "غزاة" وهي تقترن بفقدان الرجاء وبشحنة المأساة المعبرة عن حقيقة الشاعر التي هي عبارة على تجسيد " المضمر في المظهر " حيث هم الشاعر بالتساؤل :

 

كيف حالكم يا عرب؟ / كيف صباحكم / كيف مساؤكم؟ / أين أنتم يا عرب / هل أنتم هنا .. / أم أنكم لستم هنا؟ /

هذا المقطع يذكرنا ببيت شعري للأعشى يقصد به الرثاء .....

فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم   كأنهم من بقايا أمة ذهبوا

 

إن آنية الكتابة المفتقدة للخيال الفني والتي اقتضاها الظرف النفسي لشاعر يعيش حالة غليان ما حتم هذا الإيغال في الواقعية، وتتنامى المفردات في شعر لصيلع وتلتحم في معان شتى تنفذ إلى الموضوع رغم إمكانية حذف بعض المفردات أو المقاطع دون أن يختل بناء القصيدة :

 

سيقاوم التراب

والشجر

سيقاوم البحر

والجبل

والحجر - ص 53-54

 

ديوان " يا .. عرب " يواصل من خلاله الشاعر مواقفه الداعية إلى النضال، ففي ديوانه " حكاية عبد السميع " أكد على ضرورة النضال في أي موقع وأي شبر من الأرض المحتلة، فالنضال يسري سريان الدم في العروق، يؤشر إلى مقاومة الظلم والاضطهاد والانتفاض ضد جروح الإنسان الطبيعية وكل عناصر الوجود . فكل الأشياء بدت دون معنى ودون قيمة في غنى عن انتفاضتها . والشاعر بذلك يمزق أوهام الخوف والموت ويرفع لواء التحدي عن طريق شعره الملتزم، حيث يصير للشعر وظيفة بناء الحياة :

 

ما عاد يخيفني هذا الموت

يا تكنولوجيا الحرب

سقطت أوراق التوت

 

"هل يتسنى للخيال أن يجد مكانه في عالم القهر المائج في أعماق الواقع؟ بحثنا عن المتخيل في هذه المجموعة فلم نظفر له بوجه من الوجوه المألوفة في الإبداع .. الغاية عند لصيلع كامنة في الواقع هو المنطلق والمقصد وهو الخام للقول الشعري"

 

هذه هو الاستفهام الذي صاغه الدكتور كمال عمران، استفهام مرده انتقاء الخيال على أساس العدول عن الواقع أو دحضه، وانتفاء الخيال " من جهة النمطية المؤسسة للعمود والعيار ولا من جهة الأسطورية المؤسسة للحداثة في الشعر " . وقد ينطبق هذا الرأي الشعري على القصائد الملتزمة في هذه المجموعة، إلا أن بعض القصائد الأخرى نتطوي على خيال إبداعي، على غرار قصيد "الشاعر" :

 

كان الشاعر

يزرع في القلب

قصيدا للوقت ..

ولطفل صغير

يبحث عن معنى

أصبح قلب الشاعر

جبالا من حزن كبير

في زمن بلا معنى

أصبح القصيد زنابق

والشاعر الطفل

أو الطفل الشاعر

- لا فرق -

كلاهما واحد يبقى

يمشي مستقيما

في خط واحد - ص 103-104

 

فتأمل مفردات هذا المقطع الشعري، يحيلنا إلى وحدات لغوية موحية تنفذ إلى أعماق القلب والشعور، تصور مشهدا حيا بمثابة ارتسامة من ارتسامات المعنى حيث لم يشخص الشاعر الواقع الخارجي في لوحة تشكيلية للصور الحسية والمعاناة اليومية ، بل منح المشهد ظلال الذات فنأت عن الواقع المباشر، ورسم الخيال مأساة الشاعر والفنان عامة ليصور مأساة إنسانية شاملة، تعكس هذا الدفق من الاستهجان للعتمة التي تفرض على روح الشاعر في عصر خفتت فيه نبضات الإنسان واستبدت به المشاعر العبثية، فهل قدر الشاعر أن يكشف عن أزمته ليولد من رحم لغته الوعي المضاد، أليس الشاعر بحاجة إلى خط منحن معبر عن لحظة التحول الحقيقية، فالشاعر يرسم أشكال المشهد الشعري ذلك أن الجانب التصوري طغى على الجانب الحسي في ابتكار صورة الشاعر . أما في قصيد "براءة" فيطالعنا مطلعها بصورة لرمز إمرأة غابت ملامحها ولم تبق إلا ظلالها :

 

يا إمرأة

أنت مملكة عشق كبيرة

هل لي بعض أمتار منك

تكون لي

موطئ قدم

أو نافذة صغيرة ..

لأطل عليك ..

أو بابا

للدخول إليك ؟

 

مناداة إمرأة تستكين بعيدا في مكان مغلق ترمز للعشق ورغبة الشاعر في الاقتراب منها واكتشافها، هي رغبة في فتح مغاليق الذاكرة أين تنبري هذه المرأة . فإدراك صورتها عدول عن صور الواقع الذي طغى عليه الدمار والحروب والتقتيل والبحث عن عالم مثالي ترسمه " عين الشاعر" الذي يصبو إلى تعديل هذا الواقع من خلال الاستعاضة برمز مثالي لبناء عالمه الروحي على أسس قيمية وأخلاقية، وكأن الشاعر يرسم هذا الواقع الروحي في صورة تمثال من الشمع يذوب تحت وهج نيران الحروب ، ولكنه يرنو إلى عالم مثالي بإعادة تشكيل هذا التمثال من رحم الموت، إلا أن غياب صدى هذا الرمز يكشف عن حلم مبتور :

 

معذرة .. يا أمي

انتظرت إمرأة تشبهك

لم تأت

 

من ثمة نستشف غياب "الهدف المثالي " و "رمزية الأم" وتلاشى هذا الرمز الذي ينتشل الشاعر من مأزق الغربة والعزلة، ويكشف الشاعر لحظة التصادم بين الموجود والمنشود . وأثناء الشعور برجة المواجهة الصدامية يعود إلى الواقع دون أن يتلطخ بوحل أدرانه إذ يخلق عالمه الشعري بمفرداته ومعجمه  وأسئلته وثورته، متفصدا من ضغوط الواقع الخارجي، ومن ثمة تنكشف لحظة الانفجار" الشعرية :

 

يكتب الشاعر ..

يقرأ الطفل ..

ينمو الطفل

ينمو

وينمو

تنمو في قلب الطفل أحلام الشاعر

تكبر آلاف الكلمات

يفرح الطفل

فيفرح الشاعر

............

تعب الشاعر

ولم يتعب الطفل

 

قد يرى البعض أن الشعر خيال وصور، بل هو شكل فني مستقل عن الواقع، وقد يرى البعض الآخر أن "الشعر الملتزم يحيل إلى وظائف الشعر . وقد لا يلامس روح القارئ . وأن مفهوم الالتزام جرى استخدامه بطرائق ايديولوجية"، إلا أن هذا لا يقلل من القول الشعري القائم على الحركة الباطنية التي لم تخفت انتفاضتها، ولم تكشف لنا ذاتا متشظية متأزمة، بل ذات ثائرة خارجة عن سرب الذوات المهزومة المتصدعة ..

 

..........................

(1) يا .. عرب، ديوان لعبدالسلام لصيلع، صادر عن مطبعة الوفاء، 200، الطبعة الأولى

( 2 ) حوار مع الدكتور حسني محمود، مجلة الفيصل، العدد 324

(3) المصدر السابق

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1340 الاربعاء 10/03/2010)

 

 

في المثقف اليوم