قضايا وآراء

العربية موت أم عرب إيزي؟

ولكن صعوبتها لا تقف عائقا أمام من يسعى لتعلمها والتحدث بها فطالبها متى ما وضع قدمه على أعتاب خزائنها يراها تنقاد إليه طيعة رضية غير ممانعة ولا رافضة ولا عصية ولكن بخجل وحياء كما هي العروس في ليلة زفافها والفتاة المخدرة إذا خرجت من مكمنها، وعلى مر التاريخ نبغ بها أجانب وأعاجم وأجادوها  وأحسنوا التحدث بها وتنويع مفرداتها في حديثهم ربما بأسلوب أعذب وأحلى وأرتب وأطرى من أساليب أهلها ومن نطق  المتحدثين بها.

واللغة العربية هوية جامعة جمعت العرب ووحدتهم بمفرداتها كونها وسيلة التخاطب والتفاهم بينهم، فكتبوا بها تواريخهم ووقائعهم وقصص حروبهم وعذاباتهم وحبهم وهيامهم وقصائد غزلهم بليلى وعتبى ومية وسلامة  وعبلة وهند وسعاد.ودونوا أرقام حساباتهم  ومخزون تجارتهم ونتائج علومهم.

واللغة العربية بحر لجي غير متقابل الضفاف ولكنه يحتوي جواهر وأصداف ومكنون السلم الموسيقي،  ومخارجها ليست كباقي اللغات الأخرى التي تندلق من الفم وكأنها بقايا طعام بل هي ألحان شجية عذبة طربة تتمايل بغنج ودلال صعودا ونزولا ويمينا وشمالا وتشديدا وتخفيفا وعمقا وشفاها وفتحا وكسرا وضما وسكونا فتشغل كل حيز الصوت من بين أوتار الحنجرة إلى أطراف الشفاه متناغمة مع النَفَسْ سر الحياة، وهي بحركتها العذبة هذه لا تلجيء المتحدث لاستخدام حركات الوجه لكي  تعينه على تقريب المعنى فهي في جريانها وانسيابها كانسياب عذب الماء على المرمر ترسم للسامع صورة مرئية للكلمة والجملة في حزنها وفرحها ورضاهما وزعلها بريشة فنان ولا اروع.

واللغة العربية أختارها الباري الخالق ليكتب بها كتاب آخر رسالة سماوية وخاتمة الرسالات إيذانا بابتداء قمة عصر التحضر والعلم وانحسار عصور طفولة البشرية حيث يقول الأديب التونسي الدكتور عبد المجيد الشرفي في بحثه المنشور في مجلة قضايا إسلامية معاصرة عند حديثه عن إطلاق تسمية (ختم النبوة)على الرسالة الإسلامية: (أن لا يكتفي بفهمها بصفتها الحلقة الأخيرة من سلسلة النبوات بل أن تفهم باعتبارها (ختما من الخارج) وإعلانا عن الخروج من مرحلة طفولة البشرية إلى مرحلة نضجها) وهذا الاختيار يعني أن اللغة العربية هي الأجدر في تحمل أعباء هذا التغيير والانبعاث ولو لم تكن كذلك لما اختارها الباري.

واللغة العربية حية متجددة متفاعلة لها قابلية استيعاب ما صعب من كلمات اللغات الأخرى وإيجاد التصريفات التي تلائمها دونما عناء وقد أثبتت الدراسات أن حروفها ممكن أن تستخدم لكتابة اللغات الأخرى مهما تنوعت واختلفت.

واللغة العربية قوبلت تاريخيا بإهمالنا وعدم عنايتنا بها ولاسيما في سبعينات القرن العشرين وما تلاها حتى نبذها كثير من أهلها واستعاضوا عنها بلغاتٍ أخرى للتدليل على أنهم يحملون ثقافة وعلما أكثر من أولئك الجامدين عليها.أما قبل هذا التاريخ فكان أهلها والغرباء عنها يتعاضدون سوية لتفعيل مباحثها وتنشيط حركتها وبث مفرداتها وعلومها بل ويسعون لجعلها لغة عالمية تستخدم في المحافل الدولية والجامعات العالمية، ولكنها للأسف تعرضت للإهمال أسوة بكل قضايانا المصيرية الأخرى التي تعرضت للإهمال. قد يقول قائل: إن كمال أتاتورك وضع قواعد تبديل حروف اللغة التركية من شكلها العربي إلى الشكل اللاتيني ونجح من خلفوه بتحقيق ذلك، أقول مع أن الأتراك لا زالوا بعد مرور عشرات السنين على استخدامهم لهذا التبديل يعانون من مساوئه ومضاره وقد التقيت بكثير من مثقفيهم الذين يتمنون العودة لرسم الحرف العربي فهم يرون أن هذا التبديل أوقع قطيعة بين تراث الأمة التركية المكتوب بالصيغة القديمة والأجيال التي تربت ونشأت على تعاطي الأسلوب الجديد. كما لا ننسى أن اللغة التركية القديمة لم تكن عربية ومفرداتها تختلف عن العربية ومخارج حروفها ونطقها تختلف أيضا فإذا كانت قد واجهت كل هذه الصعوبات ماذا ستكون حال العربية والناطقين بصادها وضادها وعينها وجيمها وخائها وحائها إذا تم تبديلها؟ فالتبديل لم يأت لخلق لغة جديدة متطورة بمفردات جديدة وإنما جاء مكملا لسياسة التغريب والقطيعة التي عمل على بثها من أطلق عليهم اسم (المجددين) وفي هذا التبديل إشارة خفية لعظمة العربية التي فرضت حروفها على لغات الأمم الأخرى مثل التراك والفرس والكرد وسواحلية الصومال والبربر وحتى القوقاز.

لكن الظاهر أن هناك مخططات كثيرة لسلخ العربية من واقعها وتقميصها قميصا ليس من جنسها بحجج كثيرة منها أن تطور علوم الحاسوب وتزايد أعداد العرب من أنصاف المثقفين الذين يستخدمونه ولاسيما من يدخل منهم على مواقع مثل (Skyp)    و Twitter))  يجدون العربية عائقا يجب تجاوزه بالتبديل المقترح الذي يسمونه (Arabizi) (العربية الميسرة) وهذا ضحك على الذقون فتبديل الحروف لا يبدل المعنى وبالتالي من يكتب (salamo alikom ) أو (Inschallah Salamat) أو كلمة (Kifak)   في محرك البحث لا يحصل على النتيجة المرجوة لأن الحاسوب لا يفهم مقصده لكنه لو كتب جملة (How are you ) مثلا سيحصل على النتيجة فورا!

الظاهر أن هناك خطة مبيتة ومدبرة للترويج لهذا التبديل الغريب فهم بعد أن أعيتهم وسائل الاحتيال على مخارج بعض حروف العربية عند محاولتهم بث(Arabizi)  قامت الموسوعة الحرة (ويكيبيديا)  بإعداد لوائح للتصريف والمترادفات ومنها استخدام بعض الأرقام اللاتينية (عربية الأصل) للتعويض بها عن هذه الحروف مثل كلمة (Ta3reeb) (تعريب) التي استخدموا فيها الرقم (3) بدل حرف العين لأنه باعتقادهم يشبه العين وكذلك الرقم (5) بدل الخاء كما في كلمة (5afif ) (خفيف)  والرقم  (7)بدل حرف الحاء كما في جملة (Betchouf 7alak fiya) التي تعني (بتشوف حالك فيها) أي ترى نفسك فيها، وهي جملة استخدمت في بيروت كدعاية لنوع من السكاير  وترويج لهذه اللغة في نفس الوقت!

ثم وضعوا على الحاسوب برامج للنسخ مثل برنامج (Yamli) (يملي) الذي طرحه اللبناني حبيب حداد في الأسواق عام 2007

 وبرنامج (Ta3reeb)  (تعريب) الذي وضعته شركة كوكل عام 2008، وبرنامج (Maren) (مرن) الذي عرضته شركة مايكروسوفت فرع مصر عام 2009

إننا يجب أن لا نستهين بهذا السعي وعلينا ولاسيما المختصين منا بعلم اللغات واللسانيات وعلوم اللغة العربية أن نبادر لمحاربة هذا النهج التخريبي ليس لأننا نرفض التجديد وإنما لأننا نرفض التشويه والتهجين.

 

 

 

 

 

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1342 الجمعة 12/03/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم