قضايا وآراء

أزرق مائي..

السميكة تزينها المسامير السوداء...تلك الجدران الرطبة المطلية بالجير... تلك الأقواس والأعمدة والشرفات والظلال وحبال الغسيل والقرميد القديم وتلك الأجواء والروائح والوجوه كأنها تخرج من مكان في الذاكرة كانت تحتشد فيه...تلك الصومعة بلون التراب تشق الفضاء عموديا.. خلفيتها السماء الزرقاء.. أكاد أقفز في الهواء نحوها لأغمرها وأحضنها وأعانقها وكأنها قريب عزيز ووجه حبيب.. فكم رافقتني في غدوّي ورواحي إلى المدرسة القرآنية التي كان والدي حريصا كلّ الحرص أن أتردّد عليها حتى يرتوي قلبي بكلام الله..تلك الدكاكين الصغيرة التي تختص برائحة هي بعض سرها وشخصيتها...تلك الطرقات المبلطة بحجارة ملساء كأنها أكباد تحجرت وتجمدت ونسيت صلتها بالأحشاء وطال عليها العهد فقست!؟.

ألوان تحيلني على أمكنة سكنتها وسكنتني..وأشكال ووجوه صارت بعض عمارة الذاكرة.. وروائح وأجواء تحمل حميميّة العالم الداخلي..

أشياء المدينة العتيقة ورموزها كائنات حية في لا وعي كل من سكنها أو عايشها أو أحبها أو مرّ بها ونظر إليها حتى ارتوى ثم أغمض عينيه لتستقر في مخيلته وذاكرته البصرية فلا تغادرها حتى تغادر الروح الجسد...

الدار على بابها وأنت حر في ما وراءه.. هكذا كانوا يقولون.. وفي ذلك بعض الحق والمنطق والذوق السليم.. وإن كان ما وراء الباب رصيد معنوي وحضاري غير منفصل عنه...كانت أبواب البيوت في المدينة العتيقة أشبه ما تكون بتحف فنية رفيعة.. بأشكالها وألوانها وزخارفها وروح الأصالة فيها وهو ما يحوّل الأنهج والطرقات والأزقة والحارات والساحات إلى معرض دائم لصاحب الحسّ الجمالي المرهف والرؤية الحضارية النافذة.. وكانت القناديل أشكالا جمالية تزيّن المكان وتعمر الفضاء في النهار وتنير الحيّ في الليل.. وكان اللباس التقليدي منسجما مع النمط المعماري السائد ومظهر التوازن بين الإنسان وشكل المدينة.. فلا تسحقه ولا يغترب فيها..

معرض الرسام الهادي كاهية جاء يخلد إحساس الإنسان بالمدينة العتيقة بكثير من الموهبة والحرفية وخاصة.. الحب.. لوحاته / لوحاتنا.. مسكونة بغنائيّة آسرة ودفء إنساني أصيل... عبّر لي عن رغبته أن يعرض أعماله في معهد العالم العربي بباريس.. وأقترح بدوري على وزارة الثقافة أن تتبنى هذا المعرض وتعرضه في جميع العواصم العربية وأنا على يقين أنه سيكون أجمل هدية وأبلغ دعوة للاكتشاف والاغتناء وأقوى جسر للتواصل والتقارب والتبادل..

أذكر أن الشاعر اللبناني سعيد عقل عندما زار معرض الرسام اللبناني محمد القيسي قال له : أنت يا محمد حطيت عالورق غناني (أغاني)...واقترح على الجهات المعنية إقامة دار عرض خاصة بالفنان وقال بأنها ستكون منارة لبنان داخليا وخارجيا...

إذا كانت المدن كتبا فستكون المعارض والمتاحف والمكتبات والفضاءات الثقافية عناوينها وجملها البارزة التي تظل عالقة بالذاكرة.. وحتى إذا امّحت ونُسيت فان الانطباع الجيد والايجابي الذي تتركه في النفوس لا يمكن أن يمحى أو أن تأتي عليه الأيام..

الإنسان هو العلاقة.. تصنعه بقدر ما يصنعها وتؤثر فيه بقدر ما يؤثر فيها وتصقله بقدر ما يصقلها وتبدعه بقدر ما يبدعها.. علاقته بالمدينة..علاقته بالطبيعة..علاقته بماضيه.. علاقته بالمكان.. علاقته بالأشياء.. علاقته برموزه الثقافية..علاقته بالزمان..علاقته بالإنسان..علاقته بالمستقبل..وقبل ذلك وبعده ومعه.. علاقته بنفسه وجميع ما يرتبط بها.. وليس في مقدور أي أحد أن يؤسّس لحياة أو لمستقبل إذا لم يأخذ بعين الاعتبار جميع هذه العلائق الأساسيّة أو لم يتعامل معها بصدق وإخلاص واحترام لا يخالطها كذب أو غش أو نقص اعتبار..هذا هو قانون الحياة الغـلاب.. وتلك شفرتها التي لا تجامل أحدا..

في حدّها الحدّ بين الجدّ واللعب..

قصة واقعيّة سوف يقتصر دوري على روايتها كما حدثت ووقعت بغير زيادة ولا نقصان ولا تصرّف.. رجل طلق زوجته التي رزق منها بولد ومضى في حال سبيله.. أو على الأصحّ اختفى وأنشأ علاقات أخرى.. والأمر إلى هذا الحد عادي وطبيعي.. غير أن الغريب وغير العادي وغير الطبيعي هو أنه قطع علاقته بولده لمدّة تتجاوز نصف قرن.. وكأنه لم يخلف ولم ينجب ولم يترك أثرا.. أو كأن علاقته به انتهت بطلاقه من والدته.. وكبر الولد بين الشدّة والرّخاء.. مع غلبة الأولى.. وتخرّج من الجامعة وتزوّج وأنجب وقد نسي أو كاد أنّ له والدا على قيد الحياة يعيش في مدينة بولاية مجاورة لا تبعد كثيرا عن مدينته.. ثم ذات مساء دقّ جرس المنزل  ففتح الباب فإذا بوالده يقف بالباب يسأل عن طليقته فيجيبه أنها تزور قريبة لها ثم يلوذ الغريبان بالصّمت وفي العينين أشياء وأشياء بعد أن انقطع الخط بينهما وحكم غياب العلاقة على الوالد بالاعتذار والانسحاب وعلى الولد بأن يغلق الباب بعد أن عجز عن أن يقول تفضل بالدخول لرجل لم يعرفه وإن عرفه.. العلاقة هكذا لا تهادن هؤلاء الذين تنكّروا لها وأهملوها ولم يغذوها ساعة بعد ساعة ويوما بعد يوم وعاما بعد عام.. لم يعبأوا بضعفها ووهنها وانقطاعها.. فلم تعبأ بوجعهم وضياعهم..

محسن العوني

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1345 الاثنين 15/03/2010)

 

 

في المثقف اليوم