قضايا وآراء

مدينتي .. عاصمتي..

 وأرضها وبحرها وسماءها ومشاهد من الحياة فيها بعد أن قدموا إليها بحثا عن اللون والضوء والفتنة.. فوجدوا أكثر من ذلك.."التأثر الكامل والتام بالحقيقة"...حسب عبارة الأديب الفرنسي موبسان الذي زار تونس خلال 1887-1888 وكتب عنها أجمل نصوصه..

لوحات ترسم الإحساس بالمشهد والمكان أكثر ممّا تصوّر الأشياء...بل هي تحوّل الرؤية إلى الداخل الحميم حيث تتداخل الأشكال والألوان والملامح حتى إذا وقفت أمام اللوحة قلت على الفور : هذا هو إحساسي...إنها أشيائــي ولا يمكن أن أضــلّ عنها!؟.. لوحة تحمّل إسم "المرســـى (باب الدخـــــول)"

 608-oni

 ( La Marsa (Porte d’entrée يخيّم عليها سلام عجيب..حميمية آسرة.. باب قديم مقوّس أزرق اللون يحيط به  إطاره البني، بابه الصغير (الخوخة) مفتوح وكأنه يحيل على الذكرى.. وأغصان شجرة عظيمة تغطّي مدخل السور الخارجي وضوء وظل ومشهد أليف فيه وداعة الطفولة وحنين الأيام الحلوة وغنائية الزمن الجميل..لوحة أخرى تحمل اسم "قمّرت" نرى فيها بيوتا ناصعة البياض بين شجرتي لوز وقد تفتّحت أزهارها.. تتصدّران اللوحة على اليمين والشمال وقد امتد الحقل ليشغل ثلث اللوحة أو أكثر قليلا بلون عجيب بديع لا أكاد أجد له إسما.. لعله لون الحلم والذكرى..

لوحة أخرى تحمل إسم "سيدي بوسعيد" مدينة الضوء والظل وفتنة البصر..قسّم الرسّام اللوحة إلى أقسام أفقية ثلاثة..القسم الأول ظلّ المباني والقسم الثاني البياض الناصع للسطوح والجدران والصومعة الشهيرة والقسم الثالث.. الأفق وكأنه ضباب تتخلّله رزقه خفيفة ويظهر من بعيد جبل بوقرنين وتشقّ اللوحة أشجار خضراء وعلم أحمر.. علما بأن هذه اللوحة تحمل تاريخ 24 أكتوبر 1941..لوحة تحمل إسم "مقبرة المنستير" قبور وأضرحة ناصعة البياض بعضها متباعد وبعضها الآخر متقارب.. تظهر قباب الزوايا تبهر العين بتوهجها.. كما يتجلّى الرّباط وخلفه الأفق.. لوحة تحمل إسم "مشهد من تونس" تبدو فيها المدينة من خلال شعاب الجبل وكأنها شريط أبيض يخطف البصر تتقدمه أشجار بعيدة وخضرة ويأتي خلفه الجبل والأفق...لوحة تحمل إسم.."مشهد لتونس من رحبة الغنم" زاوية الإبصار فيها عالية مما جعل البناء يهيمن على عمق اللوحة.. حيث تبدو القباب والمآذن والشرفات والمباني العالية التي تنتظم على جانبي الطريق الذي يظهر فيه المارة بأحجام صغيرة نظرا لسيطرة المعمار والبناء على اللوحة. كما يبدو الأفق والبحيرة..

لوحة أخرى تحمل إسم.."محطة تونس".. هي غير المحطة الحالية على اعتبار أنها تعود إلى سنة 1947..يتخلّل اللوحة مشهد السكك والعربات والمباني وأشجار متناثرة ويظهر من بعيد جبل سيدي بلحسن وقد تربّع فوقه البناء وخلفه الأفق وهي لوحة يسيطر عليها اللون الرمادي وكأنها رسمت في فصل الشتاء أو في يوم غابت عنه الشمس فحرمته بركة الضوء باعتباره سرّ توهّج الألوان وتمايزها..لوحة تحمل إسم.. "برنية" حيث تظهر امرأة تلبس ملابس نساء المدينة (فوطة وبلوزة) وتجلس بوثوق وهدوء على الديفون وهي تعود إلى سنة 1917..

608-onia

 

لوحة أخرى تحمل اسم.."منوبية" يسيطر عليها مشهد امرأة تلبس السفساري التونسي وقد جلست على الأرض وظهر كانون أمامها.. وقدةُ جمره متوهّجة بحمرة لافتة قانية وبجانبها قبقاب..لوحات ترسم الأبواب القديمة في المدينة العتيقة تشد الانتباه بدقتها وانسجامها وروح الأصالة فيها خاصة لوحة "نهج سوقي بلخير" ولوحة "نهج الغرابل" يعود تاريخ الأولى إلى أكتوبر 1927 والثانية إلى مارس 1929.. لوحة تحمل إسم "المرسى" حيث تنتصب قبّة بشكل عمودي ظهرت فيها النوافذ وقد غمرتها النباتات التي يغلب عليها اللون الأصفر والأخضر والأفق الأزرق خلف البناء يسبح في فضائه النور ويتسلل إلى المشهد البديع..يعود تاريخ اللوحة إلى سنة 1929.. أذكر ذلك الرسام اليوغسلافي الذي قضى سنوات في تونس وصرح لمجلة فنية متخصصة تصدر بباريس.."لا أشعر بأي خجل عندما أصرّح بأنني تعلمت تمييز الألوان في تونس التي تتميز بضوئها العجيب.." بداية من 1880 جاء رسامون من فرنسا ومن باقي دول أوروبا ليستقروا في تونس وقد تميّزوا بحساسية شديدة للضوء والمشاهد والتقاليد والإنسان الذي يسكن البلاد ويجمّلها ويحبّب زائرها فيها.. وقد نقلوا هذا الكون الجديد المدهش الجذاب على نسيج لوحاتهم وبعد هؤلاء القادمين الأوائل جاء بعدهم جيل جديد يشمل فنانين ولدوا في تونس وظلوا أوفياء لجذورهم وثقافتهم.. وعبر هذه العلاقة والتبادل الخصب تكوّنت موجة رسم وحركة إبداع أدّت إلى ولادة ما صار يعرف بمدرسة تونس للرّسم  « l’école de Tunis » .

كتب موبسان وهو على طريق القيروان.. "لم أر في حياتي الشمس تصنع من قبّة بيضاء أعجب تحفة للألوان.. هل هي بيضاء ؟ نعم، بيضاء إلى حدّ الإبهار ومع ذلك يتحلّل الضوء بطريقة  غريبة فوق هذه البيضة الكبيرة لدرجة أنّنا نميّز سرّ الفروق الدقيقة في اللون وكأنها قد وقعت دعوتها ولم تظهر من تلقاء نفسها، متخيّلة أكثر منها واقعية وهي غاية في الدقة والرقة والنعومة وغارقة تماما وسط هذا الأبيض الثلجي المدهش..." ويسترسل في هذا الوصف الفني إلى أن يصل إلى العبارة التي وردت له في البداية.. عزيزي القارئ.. إلى جانب المتعة النادرة التي نشعر بها ونحن نشاهد هذه اللوحات.. نستفيد أهمية تجاوز الإلف والتعوّد وإعادة اكتشاف جمال الأشياء المحيطة بنا.. لأننا بذلك نستردّها ونعيدها إلينا ونملّكها بالفعل.. فتغدو ينبوع فرح ونشوة وراحة وغبطة لا تقدّر بمال...

"وكم من آية يمرون عليها وهم عنها غافلون" في تونس كنوز حضارة ومشاهد ومناظر وتجارب لا يقدّرها إلا من رزقه الله نعمة السفر والضرب في الأرض ورفع عنه بذلك أميّة البصر وهجعة الفكر وتذبذب ذوي النقص وتردّد هؤلاء الذين منعهم خمولهم من سبر أغوارهم...شخصيا وجدت تونس الحميمة...تونس الأليفة...تونس الخالدة.. تونس الرؤية الداخلية في لوحات الرسامين الأجانب الذين أقاموا فيها أو زاروها.. وعلمت علم اليقين أن انتمائي أقنع الآخرين كما أقنعني وأن جذوري بلغت من القوّة مبلغا جعلها تشتبك وتلتحم بجذور أخرى وتبقى آلاف الجزئيات تنتظر عين الفنّان الذي يملك من الحساسية ما  يجعله يرتقي إلى التأثر التام والكامل بالحقيقة...فأين هو ذاك الفنّان؟!..

محسن العوني

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1348 الخميس 18/03/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم