قضايا وآراء

"وآخرون منا ومنهم" لسالم العيادي ... الحياة وتكرار الحركة

و" وآخرون منا ومنهم" هي على حد تعبير العيادي هوامش حية لمتن "حدث أبو هريرة قال " لمحمود المسعدي ...: " شغلني هذا النص أيام كنا تنلقى فيها نصوصا في ما يشبه الفلسفة ... ثم تاه في وتهت فيه عني حتى استدركنا الأيام واستأنفنا الخطوب ...

 

و" حدث أبو هريرة قال ..." من خلال توطئة محمود المسعدي : " وقد يحتاج أبو هريرة عندك إلى التعريف ولست بمعرفه لك، وإنما لك من شأنه ما قد يقع بنفسك عند انتهائك من هذا الكتاب، ولتتذكر بيت أبي العتاهية وامرؤ في غاية ليس نفسه إلى غاية أخرى سواها تطلع وقول هولداري : أتعلم علام حزنك ؟ إنه ليس على شيء مفقود فقدته من زمن معين يمكنك أن تقول متى كان عندك ؟ ومتى ذهب، إنما هو على شيء لا يزال حيا قائما فيك، هو عهد أسمى من عهدك الحاضر تطلبه ... ولتذكر نذر سفر التكوين " لا تأكل من الشجرة الحرام، فإنك إن فعلت لذائق الموت "، وشأن نيتشة يقول: " إن ذهب صدقي فقد عميت، فإذا أردت المعرفة فقد أردت الصدق، أعني الشدة والتضييق على نفسي والقساوة لا تلين ..."، ويخلص المسعدي إلى القول : " إذا قرأت هذا الكتاب فله عليك - في مسيرتك إليك - أن تكون قاسيا غير رحيم " ..

 

وخلاصة القول يحاكي العيادي المسعدي في كتابة سردية تقوم على التجديد والخروج عن السائد واستلهام التراث وتوظيف الرموز ومعالجة مأساة الإنسان الذي يتوق إلى المعرفة والخلق فيجابه العوائق إزاء طبيعته الإنسانية التي تتردد بين الألوهية والحيوانية، وليس المقام في " وآخرون منا ومنهم " إعادة خط ما رسخ في الذاكرة من أصداء نص المسعدي، أو إعادة تلمس أصداء شخصية أبي هريرة، وإنما هو نوع من التماهي والخروج عن هذه الشخصية في آن، والتي علق عليها توفيق بكار: " ولا أظن أن قريحتنا الروائية خلقت أقوى ولا أبعث على الدهشة من شخصية أبي هريرة ... كائن شديد الغرابة، يمتزج فيه الصوفي بالمغامر، يهيم باللانهاية كعشاق الحق جميعا "، فما هي ملامح الشخصية التي خرجت من هذا المتن؟ وكيف بدت الشخصيةالتي برزت في " وآخرون منا ومنهم " ؟

 

يبدو العيادي مؤمنا بفكرة الفعل الذي يقوض العدم والحياة التي لا تنفذ إلىى الموت ولو على سبيل التحول، ومن ثمة ينجلي صوته قويا من خلال الراوي منذ بداية القصة إذ يكشف عن اختلافه مع جدته، إن لم ترض له سنة "النوابت " مدهبا، والراوي يرى أن المصير يجب أن يرسم عالما مختلفا كتعبير عن حلم خلاق للحياة، وكنتيجة لذلك انتهى مصير جدته بالموت عندما اختلفت معه، وهي التي علمته الجبر والحساب واللغات الثلاث والتأليف والنظم واشترت له المزمار وأنبتت له الورد والياسمين .

 

الجدة التي اختفت عند موتها ترمز إلى رواسب  الموروث الفكري، والاختلاف الفكري بين الراوي وأبي هريرة حول سؤال المصير، إذ يصرح بهذه الرؤية: " إن  أبا هريرة بطل محظوظ، ولم يكن الراوي عنه إلا وجوديا حالما، وأما الوجودية الصادقة فهي التي تلهج قلقا ولا تلين ولا تختار الموت حلا، بل تعلن عن امتناعه كحل، وهي التي تجعل جميع التجارب متزامنة وترى الهيئات جميعها واقعة بعضها في بعض، فلا تعاقد ولا مسار " ص35 ...

 

يدحض الراوي "حديث البعث الأول" لأبي هريرة الذي قرن بين الغروب ببداية الإشراقة الأولى التي تمتزج فيها شمس الوجود باستلهام النور الساطع بين طيات جسد الإنسان أثناء يقظة الوعي وتيقظ الحواس والتحرر من الأقنعة الاجتماعية في بيئة تتسم بالركود والاستسلام، والعودة إلى الجسد خاليا من الرواسب، لتتراءى صورة الإنسان أثناء خلقه الأول في حل من ذاكرة تاريخية تتكلس فيها المعاني وتخمد الأسئلة الحارقة، وتستحيل إلى رواسب محنطة للوعي الذاتي،  وعلى أن الراوي ينشد البقاء ويرنو إلى منع الفناء وتنتهي القصة بتكرر حركة بعث الحياة، إلا أنها بتيمتها ولغتها وترميزاتها لا تبدو غريبة عن أجواء كتابات المسعدي، حيث وقع طرح جميع المسائل التي تطرق إليها المسعدي في " حدث أبو هريرة قال "مثل اختبار الإنسان لمنزلته الدنيوية الأرضية وحكمة الجنون ومسألة الخلق والبناء في مجتمع عربي تطغى عليه الأنساق المتحجرة التي تعيق التطور الفكري وتجهض أحلام الخلق والكون، ومن ثمة تبدو الوجودية الصادقة حسب الراوي ضربا من الحلم والرنو إلى الآفاق المنشودة .

  

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1351 الاحد 21/03/2010)

 

 

في المثقف اليوم