قضايا وآراء

"أمجد هذا الهذيان" لشمس الدين العوني

رغبة البحر

شيء ما

ولصاحبي

أهازيج وانتظارات ..

والسكون العميق

 

حين تتبادر كلمة السؤال إلى الذهن فهي تحرك المخيلة فتضج بالصور التي تعبر عن حالات الإنسان وهو يخرج عن دوائر الأشياء المألوفة ويشكل صورا ممكنة جديرة بالطرح والرسم ... قد يعدو للسؤال معنى فلسفيا متجاوزا .. غير أنه يتلبس بالذات الأمارة بالإبداع تعايش طقوسها الموغلة في الفرادة والانفتاح على عوالم المجهول وعلى أطر العالم الخارجي تتصفح عناصره، تحاورها وتستكشف السرائر الكامنة بين طياتها وقد " تقرأ الأسرار المكتوبة على صفحات الكون " كجمال كامن لا ينبري ولا يتجسد إلا حين نمنحه نسغ أرواحنا وأفكارنا : السؤال يفصح عن لغة الفصول إذ يقترن بعناصر الحياة وهي تخضع إلى الزمن الدائري وحركاته .

 

السؤال يخترق دائرة التكرار والرتابة والعادات الآلية التي شبهها آلان ب"ثوب يكبلنا" . فمادامت العناصر تخضع إلى الحركية والاستمرار فإن ذلك كفيل بتوليد السؤال الذي لا يستقر على مرفإ واحد . السؤال وإن يراودنا يغمرنا بالذهول والدهشة واليقظة إزاء روعة الاكتشاف، وقد استند الشاعر على المدى والبحر ليصور مدى رحابة العوامل التي تحيل إلى العمق والامتداد والغموض والاتساع، ليفجر رغبة الإنسان في معانقة المجهول عبر انصهاره في تيمة السكون، ذلك هو قاع اللوحة يبحث عن أبعاد السؤال الذي يتشكل عبر النقاط والخطوط ويتوارى بالألوان التي تعكس ضياء الصورة وظلال المعنى .

 

أسرار الغبطة

لئن اعتبر اليونانيون أن فلسفة حب الحكمة تعبر عن سعادة النفس وهي تصعد من العالم المنظور إلى العالم المعقول، فالشاعر يعيش تلك السعادة التي تدخل على النفس نشوة باذخة هي من صميم التحرر من سخام السطح . ويستجلي الشاعر تلك السعادة كحالة خاصة ناضجة بالامتلاء . فهي أشبه بالحلم الذي يشبع الرغبات وأشبه بتباشير المعنى المنبلج من طيات اللاوعي الخلاق وأقرب إلى دهشة الطفل يلقي أسئلته على الكائنات .

 

أيها الغبطة

كيف أقاسمك أحلامك

الطالعة كالنعاس وأنت تلمسين

الدهشة

بأصابع الذهول ..

في المساء

 

في دهشة السؤال إصغاء إلى موسيقى الكائنات المحفوفة بالصمت، ويلاحق السؤال  أصوات العناصر الطبيعية الكامنة ويضج بأصدائها فتضج نفسه حين ترتل الروح موسيقى خاصة، تتلبس بالشاعر وهو يخط الحروف المتدفقة، المتحركة، النابضة، والمنفعلة . ويقترن الصمت بفن التأمل خارج مشاغل الحياة اليومية وصخبها والعيش داخل ايقاع النفس الصاخبة، الضاجة والمتسائلة بضراوة، غير أن هذا السؤال لن يحلق في سماء الشاعر، إذ ما ينقصه "انتفاضة طائر مكسور الجناح مازال يثخن جراحا"، وكأن الشاعر يتمثل الحياة ونفسه مثخنة بجراح الأماني والخيالات البعيدة . وكأن السؤال لا يعبر جسر اللغة المبدعة خارج نطاق العقل الواعي، الظاهر والعيني . فقدر الشاعر أن يستمع إلى عزف الأسئلة في نبضات القلب وفي معانقة ظلام الليل يخيم على الكائنات، فيبتعد السؤال عن العقل ويتجه إلى الوهم " المرتسم كجنون " حسب تعبير بيار كلاستر.

 

في المساء يغني الرجال بقلوب يهزها

الوهن وتأخذها الأمنيات ..

هؤلاء كالعشاق المجانين إذ يصلون

الموسيقى النواح

 

قدر الشاعر أن يرسم خطواته في المساحات الهجينة في خيمة رمادية يختلط فيها البياض بالسواد .. يتردد بين الأرض والسماء، يختفي وراء حائط الشعر دون أن يمسك بتلك العوالم المعقولة التي تظل خارج عالمه وآفاق عالمه الخلاق، ربما تلك السعادة من قبيل الأخطاء الرديئة التي تكشف عن ذلك التقمص الذي لا يقول الأشياء كما هي بل يرسمها حلما، ويرفعها من العالم المحسوس إلى أقاصي الوهم،  تلك الحالة انتبه إليها الشاعر وهو يشكل رؤاه بين طيات السؤال، فتلك السعادة قد تصطدم بهاجس السقوط حين تعم الفوضى أرجاء النفس فلا تعثر على مرفإ يحط عليه طائر الشعر الذي لن يحلق حتما في سماء الفكر الخالص . بل يكمن  القول الشعري في خلق أجواء نفسية لسؤال تتولد عنه أسئلة لا تنتهي، يروضه الشاعر فينزع عنه جبروت التفلسف الذي لا يهدأ ولا يلين، لكن ذلك لا يكفي لبناء صورة للوعي الظاهر بمقتضيات الوعي الباطن . بل إن العكس هو الممكن حين يعيش الشاعر حالة السقوط من عالم المثل إلى حديث الرغبة .

 

ويسائل الشاعر نفسه عن المغزى من العزلة في حين أن الشعر هو كتابة حديث الرغبة بأدوات الحس . فالشاعر يخطو نحو عالم التجربة ليعي آثارها ويبتك آفق لغته في قصيدة " قناديل قديمة " ص9

 

سأغسل دهشتي

من حنين بلل مرحي وانتظاري

وأعلقها عند أبوابك

- أيتها المدينة - كالقناديل القديمة

 

على غرار لاكروا الذي انتقد المثقف الهائم يقترن فعل التفلسف بالفعل الحقيقي . فثمة توجه من الشاعر نحو تطهير الدهشة من عناء الأسئلة العالقة، المعقلة في عوالم متحررة عن اليقين .  تجوب ردهات المجهول دون أن تحط على مرفإ ثابت . ويبدو الشاعر شديد الوعي بالعثور على نقاط ساكنة يجذر عليها أسئلته، بعدما أضناه قلق الانتظار اللامجدي، لذلك يدخل دهشته المعمار الثقافي داخل المدينة المعبرة عن الفعلي والمنجز عابرا ابواب المدينة معلقا عليها دهشته، هي دهشة الشاعر، قام باقتناصها ....

 

داخل المدينة تعلو لغة الشاعر حيث تغيب الأصوات المنبعثة من ذلك الهيكل المعماري الثقافي، والشاعر حين يخاطب المدينة لا يدخل الضجة والرجة بأسئلة قوية  تصدع البنى الثابتة ويبعث رنين روحه على العالم الخارجي ليمنحه وهج التدفق والديمومة :

 

لن أجرح هذا الهدوء

وراحة الجدران

كي أثبت هذا الحب

أما فانوس يتضاءل نوره

عند الخريف

 

كل ذلك عبر خيال  بمثابة انفتاح الشاعر على ذاته وهو يخلق عناصر عالمه الذاتي ويرتبها وينسقها ليخلق منها تلك العوالم المدهشة في إطار رسم تشكيلي يخطه ويبتكره الحيال، فداحة الصورة، فصاحة القلب، الخيال - مثلا، أن تسقط الوردة إلى فوق ..

 

 

استدراج المعنى نحو خلق مختلف

 

في أمر فتنتك

أيتها اللغة الشاهقة

كالنشوة

كالفراشات

أغسل الروح لأدير العالم لبهجة

 لن يمحوها حجر الحنين

 

يتسلق الشاعر سلم اللغة عتبة عتبة، مفتونا ببرجها الشامخ، يرنو إلى الصعود إلى أقاصي المعنى، متخذا من النشوة حالة هجينة بين الوعي واللاوعي، إحساس بعمق اللحظة نابع من النفس وهي تنفتح على منطقة خفية تستكين في أرجاء المجهول، منطقة هي من وحي الاكتشاف الذي لا يخلو من الدهشة، يستجلي أبجديات اللغة ويرتل أصداءها، كأنه يتصفح أصداء صدفات ينصت إليها لتعيده إلى أصوات الأمواج تقذف الروح في خبايا الحلم والذاكرة . تتسع المسافة بين الإحساس باللحظة وبين التعبير عنها . يدور الشاعر حول ذاته كفراشة تدور في حلقات مغلقة كدائرة الزمن المقسمة ودوراتها المتعاقبة . يتطهر من السخام العالق على سطح الكلمات الباهتة ويفجر لحظته الشعرية الخاصة .

 

وأستل وحشتي

من أصابعي

لأعلن شغفي برنين

ترسمه شفتاك

في أسر فتنتك

 

قد تعد حركات الأصابع مركز الإحساس بالعالم، وتطأ حد إدراك تفاصيل اللحظة التي تظل في كثير من الأحيان عصية عن اللغة، مفلتة عن حروفها، فهي آداة للتعبير، الممارسة، الابتكار، المهارة، العزف .. واللمس (حاسة الاكتشاف) بل إمساك بكل ما يتراءى بعيدا عنها . إن الأصابع كآداة للحركة، تدفق المعنى وتفصد عن النفس وحشتها، ففي حركتها انتعاشتها وفي مسكها لعناصر الحياة، تعكس ملاذ النشوة تنبثق إلى النفس فتستحيل إلى موسيقى : تلك هي لحظة الاستغراق في هتك الأقنعة الموحشة، تحرك الجسد فيبدأ في التخلص من الوعي الظاهر والانغماس في لحظة منفلتة عن قيود المألوف .

 

أمجد هذا الهذيان

وعلى جسور الرغبة

أعلن سيري نحو بلاد

بثوب اللذة تزين شرفات أزمنتها

 

يبدو الشاعر محتفلا بلحظة خاصة عبر عنها "هيدغر" بأنها لا تقع صدفة أو سهوا أو في نظام الحياة المألوفة ولا توجد على قارعة الطريق، إنها لحظة ترنو نحو خلق مختلف يحاكي ما يعيشه الطفل من وقع المعرفة عند القيام بأنشطة حسية حركية، توظف فيها بعض وسائل إنضاج التجارب الحسية عبر الممارسة والاكتشاف وإلقاء الأسئلة وبناء الوعي .

 

لذلك يمجد الشاعر هذيانه الذي اعتبره لغة تحتية بمثابة عمل إبداعي تفصد عن اللغة المتكلسة إثر حفر في خفايا الذات واستدراج المعنى وترويضه وتحويله إلى موضوع حسي يمكن المسك به وتحويله إلى موضوع حسي يمكن المسك به وتحويل لحظة الانغماس في الوعي الحسي، تؤسس لزمنها النفسي المتفصد عن الوحشة والمعبرة عن الوحشة والمعبر عن النشوة . في هذا الإطار كتب نيتشة : " إن اسمى ما يطمح إليه الهو هو إبداع ما يفوقه ويتجاوزه " .

 

ثمة كائنات منحدرة من ليلها

لأجل البوح

وحب خفيف يلهب الحواس

 ثمة موسيقى تطرق بلور الشبابيك

وحلم

ثمة هيام وبهاء وامرأة بابتسامة

تضيء كل الجيهات

فكيف تذوب اللحظات والأيام والساعات

 

تحاكي عناصر المشهد الشعري عناصر البهجة في الحياة لتعبر عن الجانب البهيج الذي يحقق الشعور بالجمال بشكل من الأشكال ليعبر عن الاحساس الباطني والظاهري، المعنى والجسد، الوجود المحسوس والوجود المعنوي، الوجود داخل اللحظة وخارجها، قد ينجلي البحث بانخلاع قيود العقل وقد يطرق الحب الخفيف الجسد، الموسيقى تلامس الروح والجسد وترسم الملامح بابتسامة مضيئة اللاوعي الخلاق ينبثق عن الوعي ذلك أنه لن يثبت حتما من جسد ميت:

 

أمجد هذا الهذيان

وأوقظ قنديل اللذة

بعيدا عن الريح التي .. بلا مأوى

أراقص الظل العاري

متوزعا كما ينثر طائر شكله في السرب

 

إن رؤية الجمال عبر انتقاء المشهد قد اقترن بتحرر الجسد وقد استغرق في تمعن العالم الخارجي الذي عكس الضياء من خلال العالم المنظور والظل من خلال العالم المعنوي، هذا الظل يخترق المجال الباطني بوهج الكلمات المعبرة عن جمال الخلق .

 

سوف تنغرس في حريق الذاكرة

تلك المشاهد

ورشاقة ذلك الفرح الذي يحسن قول

العذوبة

فالحلم أغنية باردة تحت شمس الانتظار

دهشتي

فوق سطوح قاعاتك

فكيف تذوب اللحظات والأيام والساعات

 

يخاتل الشاعر صورة حريق الذاكرة ليولد منها ذلك الفرح الذي يحسن قول العذوبة، الحريق لن يعكس غير التهام أوراق اليأس والقنوط وتوهج جمرات الفرح الذي يبدو كمعان تتوهج على نار هادئة ...

 

سأغسل دهشتي

فوق سطوح قاماتك

فكيف لأجراسك أن تهدأ

وأنت تمضي إلى مدن

لا تجيد الإصغاء للموسيقى

ولم ينلها شرف الفراشات

كيف لأجراسك أن تهدأ

في مدن يهطل فيها حجر الانتظار

وعشاقها شتات

كيف لأجراسك ...

كيف ...

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1356 الجمعة 26/03/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم