قضايا وآراء

العلمانية الأدبية في القرن العشرين

ذلك أن أكثر الكُتّاب الحداثيينِ علمانيون؛ واهتمامهم بالدينِ "شخصي" أَو غائبٌ كليَّاً.

ناهيك عن أن دراسة العلمانية في الأدب الحديث اقتصرت على تمظهراتها في أدب هذا المؤلف أو ذاك ،ولم تطرح بوصفها ظاهرة عامة في الأدب؛ ويلاحظ قيام بعض النقاد باستكشاف اهتمام بعض المؤلفين  بالنصية الدينية textuality كما في الدراسات التي أشارت إلى تلك الصلة التي ربطت  الروائي الأسكتنلندي جيمس جويس باليهودية، على سبيل المثال. و أغلب هذه الدراسات اقتصرت على مؤلف معيّن، أو دين معيّن، أو ثقافة معينة. عدا ميل تلك الدراسات إلى إعطاء هذا الموضوع منزلة ثانوية؛ فهو فيها موضوع أو ثيمة فحسب.

 أما الأجيال السابقة من الدارسين، كما في دراسة  أبرامز المعنونة بـ "الخارق للطبيعة"( (1977، أو مقالات تي. إس . إليوت المبكّرة فنرى المسألة مطروحة بشكل عرضي. ناهيك عن أن هؤلاء النقّاد حدّدوا أنفسهم عموما بالأدب الإنجليزي، وبالشعر بشكل خاص.

تهتم العلمانية الأدبية باستكشاف مسار العلمنة في الأدب بوصفها عملية أو سيرورة عامّة  يمكن استكشافها في فن أدبي كالرواية عبر تحديد عدد من الأفكار المشتركة العابرة للثقافات والديانات المتصلة بالعلمانية. وهي وإن كانت عملية متناقضة وغامضة في أغلب الأحيان، إلا أنها ارتبطت بأهداف ميزت عددا من الروايات العظيمة وما بعد الاستعمارية.

وقد ذهب جيمس وود مؤخرا في دراسته المعنونة بـ "العقار المكسور: مقالات في الأدب والاعتقاد" إلى أن الرواية الحديثة هي؟؟؟؟؟ "تعادي الخرافة، وتعادي الأديان، وتتقصى الزيف"، وهو تحليل يضع الرواية في مواجهة واضحة مع نقائضها كأننا أمام مسار واحد للرواية محدد بصرامة.

 وقد حاولت في كتابي "العلمانية الأدبية: المعتقد والحداثة في القرن العشرين"  الذي أقدم ملخصا له هنا القيام بقراءة معمقة أكثر عبر تحليل روايات لكتّاب وروائيين أمثال: جورج إليوت، ورابيندرانث تاجور Rabindranath Tagore، وجيمس جويس، وفي. إس . نيبول Naipaul، وسلمان رشدي، لأرسم صورة أشد تعقيدا وعمقا مما جاء في دراسة وود السالفة الذكر. فهؤلاء الروائيون-وهم يقدمون رؤيتهم للحقائق الاجتماعية الحالية- إنما يقدمون عالما تبدو فيه الجماعات والمؤسسات الدينية قادرة حتى اليوم على الاحتفاظ بقوة عظيمة، وقدر من التأثيرلا يستخف به.

 صحيح أن الدين لا يقدم هنا بوصفه وجهة النظر العالمية الوحيدة الموجودة أو المحددة للأمور، لكن هؤلاء الكتّاب يرون أنّ الدين قوة "ما تزال تخفق" في الحياة الحديثة على حد تعبير جورج إليوت .

نأتي الآن إلى مقاربة موضوع في بعده الهيكلي أو البنيوي: فالنقاش العميق عن العلمانية والدين يخيم على شكل السرد ذاته، دون أن يفهم من كلامي هذا أن هذا التأثير البنيوي مسألة بسيطة التحديد؛ أعني أنه ليس مسألة تتعلق ببساطة بالنسج على منوال النصوص الدينية المقدّسة أو بالانحراف عنها؛ ففي رواية دانيال ديروندا Deronda لجورج إليوت، على سبيل المثال، عرض لما يبدو أنه حبكة زواج تقليدي بين جويندولين Harleth ودانيال ديروندا ينقلب باكتشاف الأخيرة وجود صلة لها باليهودية. وعلى النقيض من ذلك، فإن التأثير الديني على شكل الرواية يظهر بشكل مباشر أكثر بكثير في " الآيات الشيطانية" لسلمان رشدي، لاسيما في فصول "الحلم" التي تحاكي الشكل الاستطرادي والنبوئي للقرآن.

 ومن جوانب التفاعل الأخرى بين ما هو علماني وما هو ديني ما يتعلق بموضوع العمل الروائي أو بثيمته: فنحن نرى إشارة مستمرة في مجمل هذه الأعمال إلى الكتب المقدّسة الدينية، كما نجد إشارة إلى القصص، والاستعارات الدينية حتى في تلك الحالات التي يحاول فيها هؤلاء الكتاب تحويل أيقونات دينية كلاسيكية عبر إعادة تسييقها

 recontextualizations.

 و يحسن هنا الحديث عن تلك التشكيلات التي تسِمُ جسم النّص الديني - كموقع الهوية، والرغبة، والعقل الباطن – التي اتضح لي أنها عامل مهم يظهرعلى نحو محوري ومتكرر في كل قراءاتي المعمقة لتلك الأعمال.

 أخيرا، وربما الأكثر أهمية في مقاربتي لهذا الموضوع، أن هؤلاء الكتاب ينتجون كروائيين-عبر امتلاكهم السيطرة على النصوص المقدّسة الدينية وبفضل إرادتهم الإبداعية- نصوصا إنسانية بدلا من نصوص إلهية divine provenance. ولا شك في أن القرّاء الملمّين بمنطق الأصوليّة الدينية، يعرفون أن أسماء أعمال بارعة تحمل أسماء مؤلفين إنسانيين تبدو بوضوح- بطريقة أو بأخرى- "علمانية" الطابع استنادا إلى أنها ليست أسماء قدسيين ؟؟؟؟.

ومع ذلك يظلّ السؤال عن موقع المؤلف مشكلة رئيسية، حتى في أعمال كــ "الآيات الشيطانية" لسلمان رشدي، وصورة الفنان في شبابه لجيمس جويس، أو في رواية " الثلج" لأورهان باموك.

إن انخراط المؤلفين المعاصرين في العلمانية في كتاباتهم يأخذ شكل مجموعة ثابتة من الاستراتيجيات النموذجية على الرغم من اختلاف دياناتهم وأعراقهم ولغاتهم وثقافتهم؛ فالخصائص المشتركة بينهم -كما اتضح من دراستي هذه - هي إلى حد كبير تركيزهم على سمة التبادل السريع للأفكار والاهتمامات التي تميّز بها الأدب في الوقت المعاصر بشكل عام. إلا أنها تدل أيضاً على مسار عالمي لمصطلح "العلمانية" يتم تداوله حول العالم اليوم حتى في دول لا تقر بشرعيته كإيران، أو الهند. فكلمة ("علمانية") مقيدة بشكل صريح في الدستور الهندي، وإن كانت مدرجة تحت عنوان يختلف عن المفهوم السائد في الغرب والقاضي بفصل الكنسية عن الدولة. فقد أثبتت العلمانية أنها محل نزاع حتى في بلد كالهند ولا سيما في مجالي الأدب والسياسة. وهذا ما دفعني إلى تخصيص فصل لمعالجة هذا الجانب تحت عنوان "الإخفاقات اللامحدودة لقانون الديانات: جدلية القانون المدني الرسمي والنسوية الهندية." وذلك عبر تناول ما يدور حول القوانين التي تخص معايير المجتمع المتدين وهي المعايير التي تعنى بقضايا الزواج، والطلاق، والحقوق الإنسانية للمرأة، عبر دراسة رواية "العار"  لتسليمة نسرين (Taslima Nasrin  و"مدارس في أيام ممطرة"" Madras on Rainy Day لسامينا علي (Samina Ali).

 فعلى الرغم من أن الجناح المتقدم في السياسة الهندية ظل يعطى الأفضلية للقوانين التي تخدم المجتمع الإسلامي، إلا أن النسوية في الهند كانت تجد نفسها أمام تحالف ذي طابع متوتر مع الأحزاب السياسية الوطنية منها والمحافظة، التي تنادي بالحاجة إلى "قانون مدني موحد".

 وعلى الرغم من التنوع السياقي والتاريخي الذي تمتاز به العلمانية والجدل المستمر حول معناها المجتمعي والسياسي الدقيق إلا أنها تبقى - كما برهنت هذه الدراسة- الجزء المحوري للصراع العالمي نحو الحداثة.

وعبر قراءاتي لروايات مثل "جورا" (Gora)  لرابندرانا تاجور (Rabindranath Tagore)، و"عوليس" لجيمس جويس، و"البحث عن المركز" لفي. إس. نيبول (V.S. Naipaul)، فقد قمت بفض الغموض عن العلمانية في سياقات سياسية وتاريخية محددة. وهو الغموض الذي يعبرعنه أبطال هذه الأعمال الأدبية من خلال الخبرة العاطفية والجسدية التي يخوضونها؛ فالشخصية الذاتية لكل منهم – وهي شخصية يصعب التعبيرعما يجول في داخلها بصورة علنية أو رمزية – غالبا ما تكون في صراع مع هويتها الاجتماعية؛ ففي حالة دانييل ديروندا (Daniel Deronda)، تنطبع صورة هذا النزاع على ملامح وجهه التي تصفها إليوت (Eliot) بأنها خالية من الملامح العرقية على وجه التخصيص؛ فأنفه- في صيغة غير مألوفة من المزاح الروائي- ليس أنفاً يهودياّ بلا شك؛ غير أن وجهه- وفي حادثتين جوهريتين في الرواية- يعكس صفاته التي ورثها من أصله اليهودي، كأن تعلو وجهه حمرة لا إرادية عندما توضع هويته العرقية الدينية في موقف تحد علني.

 وفي مثال آخر يواجه بطل جورا المحنة ذاتها عندما يصارع في سبيل التوفيق بين القومية المعارضة للاستعمار الوشيكة الحدوث والتزاماته الدينية ووضع الطائفية الإجتماعية غير المستقر لديه. ويواجه نيبول كمواطن هندي صراعاً في العديد من الأعمال الشبيهة بالسيرة الذاتية التي تتضمن حسه القوي بالهوية الاجتماعية المضادة للاهوتية.

 وبينما تختلف التجارب الاستثنائية التي وجدتها في تلك الروايات المتنوعة فيما بينها، إلا أنها تشترك جميعاً في أنها تمثل صورة للعلمانية بشكل لم يسبق لأي معادلة سياسية أو إجتماعية وصفها. وهذا ينسجم مع تأكيدنا أنه إذ تعد الأعمال الأدبية أدوات للتعبير عن اللحظات الحاسمة في تاريخ العلمانية، فإنّ الأدب لا يمكن أن يحقق وحده العلمانية في السياق السياسي أو الثقافي.

لقد حرصت في كتابي "العلمانية الأدبية: المعتقد والحداثة في القرن العشرين " الصادر عام2006 على اجتراح مقاربة مختلفة للأعمال الأدبية؛ مختلفة مثلا عن كتاب جوري فيزواناثان  Gauri Viswanathan  "خارج المجموع" الذي يهتم بعرض صور التحول الديني في الأدب كأسلوب للتخريب السياسي. فلم يأت كتابي عن العلمانية في الأدب كتابا في السياسية، وإنما - كما يوحي العنوان الذي اخترته –  كتابا عن الأدب، بمعنى أنه يطرح قضية أدبية في المقام الأول.

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1356 الجمعة 26/03/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم