قضايا وآراء

شريدان لي فانو: تاريخ نقدي موجز

لم يكن من السهل أن نفهم لماذا فشلت في الوصول إلى درجة مرموقة أفضل مما هو عليه الحال. ومن المحتمل أن تنوعه لعب دورا ضده: كان بمقدوره أن يقوم بعدة مهام بشكل جيد، وغالبا ما عمد إلى أن يفعل ذلك في وقت واحد وفي كتاب واحد. ولأنه أصولي، وهذا موضوع على قدر من الأهمية، كان يعوزه مفهوم الرواية باعتبار أنها شكل فني، ومفهوم الروائي على أنه فنان. وبهذا الشأن كان يشبه كل معاصريه الذين ولدوا في العقد الثاني من القرن. وإنه من باب العجز أن العظماء منهم فقط من تجاوز هذه المحنة (1) .

أن تتعامل مع الرواية وكأنها مجرد وسيلة للترفيه العام أو كأنها بروباغاندا – برنامج دعاية، كان يعني عمليا أن الروائي لا يخدم بما فيه الكفاية مصادر قوته أو ضعفه. وما لم يكن عملاقا مثل ديكنز أو ممسوسا مثل إميلي برونتي، كان بعيدا عن أداء الأفعال، وإن ما قام بأدائه في غاية البساطة، والنتيجة واضحة جدا . ونحن حينما نقرأ الجميع باستثناء عظماء العهد الفكتوري المبكر ليس لأعمالهم إجمالا، ولكن من أجل أجزاء أو شخصيات أو جماعات من الشخصيات التي تترك صورة في الذهن بعد القراءة، غالبا لا تكون في فراغ، ومفصولة عن الرواية ككل . وأحيانا استمر الفكتوريون الأقل شأنا على قيد الحياة، وذلك على الرغم من، وليس بسبب، عجزهم عن توفير نظرة مناسبة للفن. وما عدا بقليل من الظروف المواتية والحظ، قدموا لنا عمليا أعمالا تتناسب مع مواهبهم وقدراتهم.

ولي فانو مثال ملائم . بالنسبة له هناك عنصر معقد. ربما لأنه إيرلندي أمضى معظم وقته في دبلن، كان من النمط القديم خلال أداء عمله حتى من وجهة نظر المعايير الإنكليزية لمعاصريه – ولذلك، بعد التغاضي عن أفضل أعماله وقصصه القصيرة، كان يبدو على علاقة مع كتاب من الجيل الأسبق، وهذا لا يمكن تجاوزه. لقد كان القرن الثامن عشر يزحف على إيرلندا حتى بعد فترة طويلة من النهاية التي حددتها له الروزنامة.

و قد توفرت كل مواهبه في (بيت قرب الكنيسة – 1863). إنها نص أخاذ، وأحيانا ساخر، حيث الأحداث تجري في أواسط القرن الثامن عشر في قرية شابيليزودChapelizod  خارج دبلن . إنها قرية يعرف فيها كل شخص طبيعة عمل الآخر، وكانت عادة النميمة والشائعات مزدهرة. في هذه الرواية والتي اهتمت بذكريات رجل عجوز، كان لي فانو يظهر كما لو أنه ثاكري Thackeray(2) محلي وأثري : كان يكتب بتلك الروح الحكيمة وبخبرة المسنين والتي هي فعلا اندماج بين العاطفة والحنين. ولكن شخصيات الرواية كانت تنتمي لدائرة ليفير Lever ( 3) وليس ثاكري، وعلى الأرجح كانت كل الشخصيات والمواصفات هي مما اقتبسه ليفير من رواية القرن الثامن عشر : ثكنات الضباط المرحين، والطبيب الساخر، والسيدات العوانس، والأرامل اللواتي يرغبن بالزواج، والشباب الذين يتحلون بروح الكبرياء، ورجل الدين الذي يحل في المكان الثاني بعد الدكتور برايمروز، ثم النمط الإيرلندي الخاص – هناك القس الطبيب من مذهب الروم كاثوليك، شيء له نصيب من النفاق، ولكنه أفضل رفيق في عالم بوتيرة واحدة، والضابط الإيرلندي الذي يقف فوق أرض رطبة تتسبب له بالقلق على شرفه وسمعته.

بكل هذه الصفات، مع النشاط الراقص وحفلات الطعام المسائية وألعاب السباق، والعمليات غير المحضر لها، والمبارزات الساخرة الناجمة عن سوء تفاهم غامض، كانت الرواية حافلة بالأفعال والحركة، وهي تومض وتقفز مثل شريط سينمائي قديم، ويتم التعامل معها بطريقة منعشة ولطيفة. إنه من المستحيل أن لا تعجبك السهولة التي ربط بها لي فانو شخصياته بالحياة، وذلك بواسطة قلمه، ولا سيما في مجال الديالوج – الحوار.

و لكن (بيت قرب الكنيسة) قصة مرعبة أيضا، غير أن عناصر الرعب والمرح لا تمتزج إطلاقا. كان لي فانو خبيرا في وصف الأعصاب التي تؤثر بالمرعب، وخبرته ناجمة عن الخبرة الطويلة مع الكتابة. وإن تأثيره المرعب أشد قوة لأنه بسيط . فالبيت المسكون بخادمة بيضاء سمينة لا يمكن نسيانه . " كانت الخادمة قصيرة جدا، ولكنها أنيقة الشكل، وبيضاء وممتلئة ". ومع ذلك إن جو الرعب ومشاهد الغبطة والمرح كانت على قدم الامساواة، وهكذا هدم لي فانو روايته لأنه حاول أن يدمج أشياء غير متساوية وفي وقت واحد.

لقد فشل في (العم سيلاس – 1864)، ولكن السببب مختلف جدا. هنا لا أثر للفكاهة. وعوضا عن ذلك، كشخصية مركزية كانت البنت الصغيرة التي تروي القصة من نقطة تجمع خبرات سنوات مضت، قد وقعت في حبائل الموقف المماثل لوضع السيدة رادكليف، حينما أصبحت سجينة بيت قديم في أعماق مقاطعة ديربي. وفي الواقع، ومع أن الأخطار مخيفة، كان أثر ما هو فوق الطبيعي يأتي من البنت نفسها. كانت مرعوبة نتيجة لسوء تفسيرها لإرث والدها الميت. إن توظيف لي فانو لأفكار مقتبسة من سويدنبورغ Swedenborg(4) لا تنقصه البراعة. لقد نظم ذلك قصته على نحو طبيعي، ولكن وضعها في إطار فوق طبيعي منسجم. وعلى الرغم من براعته في تصوير بعض الشخصيات، مثل دكتور برايرلي الذي له أصول عند سويدنبورغ، والسيدة الناشزة كنولي، والعم الشرير سيلاس ذاته، فشلت الرواية في النهاية لأنها سقطت من المستوى الأصلي لما هو مسكون (و مستحوذ عليه) إلى تفسيرات وحلول ميكانيكية غير أصيلة، وبأسلوب يعود إلى ويلكي كولينز Wilkie Collins( 5)، مع أن التطبيق العملي لم يكن بنفسي مهارات كولينز.

تمثل رواية (العم سيلاس) قصة رعب في مرحلة انتقال نحو قصة التحري الحديثة. وكما أعلم إنها أفضل رواية تتضمن عقدة أو لغز الجريمة المعاصرة التي تجري في غرفة مغلقة. وفي الحقيقة إن ما فوق الطبيعة والعقلاني تماما لا يمكن أن يتجاورا بسهولة، لأنه لا يمكن المصالحة بينهما، مع أن قصة التحري تهتم بأسلوبها الخاص بتغطية المشاكل العملية. من المفترض أن العقلاني سوف يثبت أن ما فوق الطبيعة عبارة عن محض وهم، ولا أعتقد أن لي فانو يؤمن أن ما فوق الطبيعي وهم. إن المشكلة بالنسبة لكاتب مثل لي فانو هي في إبراز ما فوق الطبيعي وهو يقوم بعمله وفي سياق أكبر ومتواصل دون التخلي عن أسبابه ومنطقه. ولقد حل المشكلة بنجاح تام في أفضل كتاب له وهو (في سطح زجاجي داكن – 1872) . وهو ليس رواية ولكن سلسلة من القصص، مجموعة من " الحالات "، حالات تحرى عنها الدكتور الوحيد والمهجور مارتن هسيليوس، والذي ربما كانت نظرياته عن العلاقة بين الجسد والعقل غير مختلفة عن آراء سويدنبورغ. وحينما ربط لي فانو في قصة (الشاي الأخضر)، على سبيل المثال، حالة رجل الدين المسكون بقرد والذي يندفع في النهاية للانتحار، تقدم الراوي بتوضيح حول نظرية رجل الدين فيما يتعلق بالاستحواذ الشيطاني. وربما يبدو القرد للقارئ المعاصر إسقاطا حادا لمنطقة اللاوعي. وفي الحقيقة، إن قوة قصص (في سطح زجاجي داكن) قد تضاعفت بسبب تضاعف معرفتنا عن دور اللاوعي في توجيه العقل؟. وفي النهاية كان لي فانو على حق في اكتشافه لما هو فوق الطبيعة في إطار من الحالة السريرية النفسية . وربما إن أطروحات الدكتور هيسيليوس لا تنضوي على قدرة بالإقناع، ولكن الظروف التي قدمها لنا كانت تتميز بالقدرة على البقاء والتطور .

 

هوامش :

1 – على سبيل التوضيح، يندرج لي فانو تحت راية الفن القوطي. وتحتل المرتبة الأولى لديه العاطفة المجردة والطبيعة العذراء التي تعول فيها الرياح وتزدهر النباتات البرية ثم فن العمارة القروسطي، المعتم والغامض. ومن هنا مصادر التشويق التي يسميها الناقد ألغازا بوليسية. وهو يشترك بنفس هذه المواصفات مع الأخوات برونتي وكولينز وآخرين. ولا ننسى أن أمبرتو إيكو من المعاصرين يسير على نفس الدرب، ويخطئ معه النقد التحليلي نفس الخطأ. وكان ليسلي فيدلر قد اعتبر الرواية القوطية المعاصرة شكلا يدل على موقع اللاشعور من المخزون النفسي لعالم يعكس ألوان الدمار والرعب ويهدد الفرد المستقل بكل أنواع القلق الوجودي وبنهاية وشيكة لواقع غير مستقر وتفتك به سباقات التسلح وخطر الدمار الشامل. ولكن هناك روايات تجارية تعتمد على التشويق والتسلية وتوجه رسالتها لجمهور وفئات قليلة أو معدومة الثقافة وهي النموذج الذي يمثل أدب الرواية البوليسية المرعبة.

2 – ويليام ماكبيس ثاكري (1811 – 1863): روائي بريطاني من أعلام المدرسة الواقعية في القرن التاسع عشر.

3 – شارلز ليفير (1806 - 1872): روائي إيرلندي يكتب باللغة الإنكليزية .

4 – إيمانويل سويدنبورغ (1688 – 1772): مؤسس الطائفة السويدنبورغية . وكانت له مرتبة وسيط مع الله أو وحي.

5 – ويلكي كولينز (1824 – 1889): كاتب إنكليزي، يعتبر مؤسس الرواية البوليسية أو قصص الغموض.

 

.....................

المصدر :

The English Novel by Walter Allen . Pelican Book. 1981 . p.p. 211 – 213 .

 

الترجمة 2010

 

 

 

 

 

في المثقف اليوم