قضايا وآراء

قوة الانترنيت الجبارة

وكيف نتمكن من رصد وقياس هذه القوة؟ وإذا كانت الشبكة بمثل هذه القوة هل ستنجح الدول في فرض أي نوع من أنواع الهيمنة على الشبكة أم أن ذلك بات من المستحيلات في زمن عولمة القوانين؟ 

إن أهم المحاور التي تبحث في مثل هذه الملفات عادة تنحصر  فيما يتعلق بحرية استخدام الشعوب للشبكة وموقف الحكومات من هذا الاستخدام وهل حق استخدام الشبكة حق أساسي من حقوق الإنسان أم أنه خاضع للمقاييس الأخلاقية والسياسية والدينية للشعوب؟ ومن يتحكم في تثبيت وتشخيص هذه الحقوق الحكومات المعنية أم السلطة الدولية؟ وهل يشملها هذا التحديد أم هي في حل منه؟

وقبل الإجابة على هذه الأسئلة أود التنويه إلى أن اللغة التي يستعملها مستخدم الشبكة لم تعد عائقا للتواصل مع من يتحدث بلغة أخرى في أي جزء من العالم ففي محور (حوار العالم) من الملف فتحت البي بي سي منتدى حواري لرصد آراء واهتمامات مستخدمي الإنترنت حول العالم في بث حي ومباشر على مدى ست ساعات بلغات مختلفة، هي العربية والإنجليزية والصينية والفارسية والاندونيسية و البرتغالية.وكان الهدف من هذه  التجربة معرفة مدى قدرة الانترنت على تخطي حاجز الاختلاف في اللغة بين المستخدمين، وذلك بالاعتماد على ترجمة هذه الحوارات عن طريق خدمة الترجمة في ( google ) وفعلا وجدت ساعة دخولي للمنتدى عن طريق الصدفة أن المشاركين في النقاش كانوا من ارتيريا /البرازيل المكسيك/اليابان/تشيلي/أمريكا/كوستاريكا/إيران/غواتيمالا/السودان /فلسطين. وكانوا جميعهم يتكلمون بلغاتهم الأصلية التي تترجم فورا إلى اللغات الأخرى لكي يفهمها الجميع. مما يعني أن اللغة فعلا لم تعد عائقا أمام التواصل بين الثقافات المختلفة أو حاجزا بين المتكلمين بلغات لا يفهمها من هو في الطرف الآخر وهذا يعني أيضا أن إرسال أو الوصول للمعلومة وبأي لغة كانت بات متيسرا ومتاحا للجميع مهما كان نوع هذه المعلومات وأهميتها ومساسها بالقيم والأخلاق والدين والوطنية وعالم الجريمة والبغاء وتجارة الجنس.

قد تكون هذه الميسرة أحد أهم الأسباب التي دفعت الدول المستفيدة من هذا الانفتاح للمطالبة باعتبار الشبكة حقا أساسيا من حقوق الإنسان لا يجوز حجبه أو منع استخدامه لأي سبب، والملفت للنظر أن هناك من يؤيد هذا الانفتاح في كل شعوب العالم ففي استطلاع للرأي اجري لحساب البي بي سي تبين أن أربعة من كل خمسة أشخاص يعتقدون أن الوصول إلى الإنترنت "حق اساسي" من حقوق الإنسان. وكشف هذا الاستطلاع الذي شمل 27 ألف شخص في 26 دولة في أنحاء العالم أن هناك تأييدا قويا لحق الوصول إلى الانترنت.إن 87 ? من مستخدمي الانترنت يعتقدون أن الوصول إلى الشبكة يجب أن يكون  حقا أساسيا لجميع الناس. و 70 ? من غير المستخدمين يعتقدون انه ينبغي لهم أن يتمتعوا بحق الوصول إلى الانترنت. وما يقرب من 79? من الذين شملهم الاستطلاع  يتفقون مع وصف الانترنت كحق أساسي، وأكثر من 90 ? من الأتراك الذين شملهم الاستطلاع  ذكروا أن الوصول إلى الشبكة  حق أساسي. وفي كوريا الجنوبية يعتقد أكثر من (96 ?) أن الوصول للانترنت هو حق أساسي.

أما على مستوى الدول فنجد أن دولا مثل فنلندا واستونيا قضت بالفعل بأن الوصول إلى الشبكة  هو احد حقوق مواطنيها. وتؤيد بلدان مثل المكسيك والبرازيل وتركيا بقوة فكرة أن الوصول إلى الانترنت بات حقا من الحقوق

ولذا نجد أن الهيئات الدولية مثل الأمم المتحدة بدأت بالضغط على الدول الأعضاء لضمان هذا الحق في جميع أنحاء العالم. وهو الأمر الذي دفع الاتحاد الدولي للاتصالات السلكية واللاسلكية للقول أن حق التواصل لا يمكن تجاهله لأن الإنترنت هو أقوى المصادر المحتملة، التي تم إنشاؤها على الإطلاق، من اجل صنع التنوير الذي يجب أن يتمتع الجميع بحق المشاركة وبالتالي دعوة الإتحاد للحكومات للتعامل مع الانترنت كبنية تحتية أساسية حالها حال الطرق والمياه وغيرها.

ونفس النظرة والمفهوم يطبق اليوم على رقابة الدول على الشبكة  ففي الاستطلاع الذي أجرته مؤسسة (GlobeScan) لحساب البي بي سي. أكد مستخدمو الانترنت في كوريا الجنوبية انه لا ينبغي للحكومات أن تتدخل في تنظيم الانترنت. لكن بالنظر لحساسية هذا الموضوع وعلاقته بالأمن الوطني للبلدان نجد أن الآراء تباينت حوله فقد اعترض قسم آخر من الذين شملهم الاستطلاع على هذه النمطية ولاسيما في الصين والعديد من البلدان الأوروبية. بينما نجد في بريطانيا أن 55 ?  يعتقدون أن هناك حاجة لبعض التنظيم الحكومي للإنترنت.

لكن هذا التناقض لم يقف حائلا دون تزايد الدعوات الدولية لرفع الرقابة كليا أو حتى الاعتراض على الرفع ولاسيما إذا ما كان للأمر علاقة بالبلدان العربية والإسلامية لأن مجرد تفكير حكومات هذه البلدان ولو بالإشراف على الشبكة يعتبر تجاوزا على حقوق الإنسان. إن ازدواج المعايير بات يهدد الدول الكبرى ذاتها التي وجدت نفسها بين مطرقة الانفتاح الكلي بدون رقابة وسندان حتمية وجود نوع من الرقابة ولو في الحد الأدنى، حيث تقول البي بي سي : إن الحكومة البريطانية تنوي المضي قدما في مشروع قانون الاقتصاد الرقمي المثير للجدل. لتحويل (قاعدة الضربات الثلاث) إلى قانون يعطي المنظمين سلطات جديدة لمنع أو إبطاء مواقع الانترنت التي تنشر بشكل متواتر كميات كبيرة من المواد المخالفة لحقوق الملكية الفكرية. وتدرس بلدان أخرى مثل فرنسا إصدار قوانين مماثلة. وقد اعتمد الاتحاد الأوروبي، مؤخرا، بندا خاصا يتعلق بحرية التعامل مع شبكة الانترنت، ينص على أن التدابير التي قد تتخذ من قبل الدول الأعضاء، والتي قد تؤثر على إمكانية وصول المواطنين أو استخدامهم لشبكة الانترنت يجب أن تحترم الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين.

أما الولايات المتحدة فتخطط لإطلاق خدمة الإنترنت ذي السرعة الخارقة ضمن خطة جديدة تقول إنها ستمكنها من قيادة العالم في مجال تزويد كل مواطن فيه بخدمة إنترنت خارقة السرعة وترمي الخطة إلى زيادة سرعة الإنترنت من 4 إلى 100 (ميجابايت) في الثانية الواحدة.

ولنا أن نناقش هذه الحراكات على  مهل ولاسيما حراكات الجانبين البريطاني والأمريكي، فبريطانيا تتخوف من تطور قوة الانترنيت بالشكل الذي تجاوز حدودهم المرسومة ولذا تجد نفسها بين نارين نار التشبه بالدول الأخرى ومنها الدول الإسلامية والعربية التي تجاهد لوضع حدود وقيود للشبكة وما أظنها ستنجح، وهي في هذه الحالة سوف تتهم بأنها تصادر الحريات الشخصية، ونار الانفتاح الأمريكي اللامشروط  التي ستعرضها لرجات قوية لأنها لا تملك الحصانة التي تملكها أمريكا.

أمريكا من جانبها ترى أنها سوف تنتصر بزيادة قوة الشبكة بما يسمح لها أن تتجاوز حدود الرقابة التي تضعها الدول عليها، وان انتصارها هذا سوف يصب أولا وأخيرا في صالحها وحدها لأن ذلك سوف يسمح لها بترويج أطروحتها بدون عناء.

أما الدول العربية والإسلامية فإنها واقعا تعيش أزمة حقيقية لأنها فقدت السيطرة على توجيه مجتمعاتها للوجهة التي تتناسب وتتلاءم مع عقائدها وموروثاتها ولاسيما أنها لا تملك القدرة التكنولوجية التي توازي قدرة الشبكة فمن الملاحظ أن القدرات الرقابية لهذه الدول محدودة نوعما  بينما نجد أن شبكة (تويتر) مثلا وضعت من 40 إلى 100 برنامج لتشغيل البرامج في موقعها متى ما تمكنت إحدى الدول من تعطيل أحدها يشتغل الآخر تلقائيا.

وهذا يعني أن زمام المبادرة لم يعد في أيدينا وإننا ملزمون باستنباط طرائق جديدة للتعامل مع ذواتنا ومع مجتمعاتنا لأن المصاعب والمصائب التي واجهناها من قبل ستبدو مجرد شيء تافه قبالة ما ينتظرنا غدا، ولكن مع كل هذا الشد النفسي الذي نعيشه والكره السابت في النفوس والعداء المستشري بين أبناء البلد الواحد والتقاتل الدموي على الكراسي والمناصب بين الأهل والأخوان هل سننجح في تجاوز هذا الامتحان العسير أم أن قيدنا قد أعد للترقين والمسألة باتت مسألة وقت لا أكثر؟

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1357 السبت 27/03/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم