قضايا وآراء

شاعر الضفتين

قصائده إلى لغات أخرى وطاهر البكري مشارك حثيث في عديد الندوات والمهرجانات والمؤتمرات شرقا وغربا فبلغ صوته إلى الأقاصي معبرا عن قيم التحرر والإخاء والسلام ومنددا بالظلم والحرب والقهر جاعلا من الشعر والأدب جسور تعارف وحوار بين مختلف الشعوب والثقافات

 

والشاعر طاهر البكري من مواليد مدينة قابس التونسية وتخرج من كلية الآداب بتونس سنة 1976 بأستاذية اللغة الفرنسية وآدابها ثم رحل إلى باريس حيث واصل دراسته حتى نال الدكتوراة فالتحق للتدريس بإحدى جامعاتها وهناك ألقى عصا الترحال غير أنه لم يفقد الصلة بالأوطان وحملها في أغلب قصائده مثل قصيدة ـ السّلام على غزّة ـ التي يقول فيها

 

في أحضان النّور

و جمال الدّنيا

رغم الرّصاص الصّلب

رغم الطّغاة الدّمويين

هذه أزهار الثّلج

كبلسم على الأرض

التي تحترق شفتاها

لماذا تحبّون الموت إلى هذا الحدّ

و قلبي الرقيق يغذّى من الجمر

في مجاري النّهر

لماذا هدّمتم طلّي وأرديتموه غبارا

أتخافون من الشّمس أن تريكم ظلّكم؟

 

وقد ربط الشاعر طاهر البكر أواصر صداقات عديدة في العالم ونقل عددا وافرا من القصائد التي تعبر عن التضامن مع القضايا العادلة وفي طليعتها قضية الشعب الفلسطيني مثل قصيدة الشاعر الفرنسي تريستان كابرال ـ في ضماد غزة ـ التي يقول فيها

 

في غزّة

التي تحمل اسم ضمادة

لم تبق إلاّ سماء

للنظر...

 

لا حقول، لا بساتين، غير بحر ممنوع...

و رُبى من القاذورات النّازلة إلى البحر...

لا أشجار، لا عصافير، غير غربان

 

و " معابر" كلها أسلاك،

لا أشجار برتقال، لا زياتين، لا سفن، لا أسماك،

غير أطفال بدون طفولة ونساء منهوكات

و البحر في جماله

و البحر في زرقته

في غزّة التي هي ليست غير قطعة ضماد

كما يقال

لم تبق إلا السماء للنظر،

منذ 27 ديسمبر2008 تنزل النار من السماء

يموت أهل غزّة من النّار، والبحر أزرق...

في غزّة لم يعد هناك حتى سماء للنظر

 

ومن قصائد طاهر البكري التي يعبر فيها عن انتمائه إلى التجديد والتحرر جاعلا من أبي القاسم الشابي رمزا لذلك هذه القصيدة

 

تحيّة إلى أبي القاسم الشّابي

معذرةً يا واحةَ الحُبِّ

كمْ من بحرٍ ولِعٍ إليكِ أحملُ

وَلي مِنَ الموْجِ الصّابرِ على عنف الرّياح

نديمٌ يأنسُ للأفق البعيدِ وَيأمَلُ

 

وفي الغيابِ المديد أراودُ شباكا

 تصطادُ الحُلمَ المُجنّحَ

 كالنَّوْرَسِ يطيرُ مُهتزّا

 يقعُ على سَفْح الشطآن ولا يتمهّلُ

 

شِرْعتي شرُاعكِ المنتفضُ فجرا

يشدٌّهُ الليلُ الطويلُ وَلا يمتثلُ

وقاربي مٌؤجّجٌ منَ الوَجْد

تُلْقي به الصخورُ في رحاب اليمِّ ولا ينخذلُ

 

مِنْ حربٍ إلى حربٍ

أُلمْلمُ كيانيَ المُتصدّع وأصُدُّ زمنا

ترتعدُ فيه السِّلمُ مذعورة وتشتعلُ

 

هلْ رأيتِ يا واحةَ الحُبِّ

حطّابا يَهْوِي على الجذوع بفأسه

أم غابا يزأر فيه المُسْتبدُّ ويُضلِّلُ

 

هل ناديتِ في القدس زيتونا منْ حرِّ الألم

يعتصرُ

أمْ قامَ بين الأحجار ثعبانٌ مقدّسٌ يتجبّرُ

 

هل سمعتِ صلاةً في هيكلِ الحُبِّ تبتهلُ

أمْ حائطَ مبكى يحتلُّ مدنا ومساجدَ ويتوغّلُ

 

هل أيقظتِ يا واحة السّلامِ

 حماما يطير مع انبثاقِ النّورِ وَينتشرُ

 أمْ علّمَتْكِ أنشودةُ الرّعدِ تباشيرَ الغيوم

 منْ قبضة الضباب تنفجرُ

 

هل بحثت عن الجمال المنشود في أريجِ الكلمات

تفوحُ بأسْمى المعاني ولا تقتصرُ

أمْ أنْساكِ الطغاةُ أزاهيرَ المسرّاتِ التي تحتفلُ

 

مِعْزفٌ هذا الذي يُآسي وَهَجَ الصّحْراءِ ويزْخَرُ

أمْ أنينُ القوافلِ ساكنٌ مرفوعٌ

في التهاب الرّمال

 يعانقُ الزوابعَ ويستنصرُ

 

أقحوانُ الزرْعِ الخصيب هذا

الذي يُلهمُ السّفرَ ويسْتعرُ

أمْ دمُ الإخوةِ المتقاتلين

على طريق الهاوية ينهمرُ

 

أحبّكِ

لا تزْرعي الشوك يا حارثة الشّمس

و لنْ أجنيَ الجراح

فلي في احتدام الفصول صباحٌ جديدٌ

 يحرّرُ من الظلام شعاعا ويكتملُ

 

وقولي يا باقة النخل الأصيل

لقلبِ الشّاعرِ التائهِ

 قولي لمَنْ كتبَ ومات

على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة

لكَ أغاني الحياة ولوْ بعد الممات

 

ويمثل هذا الحوار ـ جريدة الشروق التونسية بتاريخ 24 أكتوبر 2010 الذي أجراه الشاعر طاهر البكري مع الشاعر والصحفي نور الدين بالطيب وثيقة مهمة يشرح فيها بوضوح مواقفه وآراءه

 

الطاهر البكري شاعر تونسي اختار الإقامة في العاصمة الفرنسية باريس واستطاع خلال سنوات طويلة من الإقامة الباريسية أن يكون واحدا من أبرز المثقفين العرب المقيمين في أوروبا وعمل طيلة سنوات على تعميق مشروعه الشعري المنتصر للحداثة كما سعى دائما إلى أن يكون صوتا بارزا في الدفاع عن الثقافة العربية الإسلامية في لحظاتها النيّرة وهو من القلائل الذين يكتبون باللغتين العربية والفرنسية بنفس الإجادة والعمق وهو ما أهّله لأن يكون محلّ تقدير عربي وفرنسي ودولي.

 

سنوات طويلة مضت وأنت مستقرّ في الضفة الأخرى، كيف ترى تجربتك الآن في الغرب، كيف تقيّم هذه الرحلة؟

هي قبل كلّ شيء تجربة إنسانية يتعلّم فيها الإنسان أنّ الكون رحب وأنّ الكتابة ممارسة ومعاناة والتقاء ومقارنة، مدّ وجزر، أخذ وعطاء وبحث دائم في ماهية العواطف والمشاعر الإنسانية أينما كان. مهما تغذّينا من الذاكرة الفردية أو الجماعية، لابدّ أن نغذّيها بدورنا، أعني، أنّ الإنتماء إلى الحضارة العربية الإسلامية العريقة لا يمنعني من إثراء ذاتي المتحرّكة وتوليد الإبداع رؤية شعرية، أدبية وجمالية بعيدة عن الغوغاء والخطاب الدغمائي السلبي. كما أتعلّم من وجودي في الغرب أنّ السفر الحقيقي، واقعا وخيالا هو الخروج بالهوية المتقلّصة الذاهبة إلى النقصان من شدة تراجعها وانطوائها على النفس وخوفها من المستقبل إلى عالم يتحرّر فيه الشاعر من كلّ الحواجز والموانع البالية، لغة ومعنى، شكلا وغرضا فتراني أحاول في كلّ ديوان جديد طرح إشكالية تساءل أغوار الأشياء مبتعدة عمّا ابتذل منها وتهرّى وأصابه الصدأ في حوار مستمرّ مع العالم، تاريخا وفضاء، زمنا وبُعدا، مهما كانت اللغة التي بها أكتب.

 

كتبت الشعر باللسانين العربي والفرنسي، النصوص التي كتبها عرب هل تعتبر جزءا من الأدب العربي؟

لي الحظّ - وقد ساعدني على ذلك تعليمي المزدوج في تونس- أنّي أكتب بلغتين ولكن هل يقبل أن نكون قاسيين على منْ كان مناّ ولم يتمكّن إلاّ من الكتابة بلغة الآخر، عموما لأسباب تاريخية اومهجرية؟ من السّهل أن نعتبر أنّ الأدب ينتمي إلى اللغة التي بها يكتب ولكن هذا من باب الكسل النقدي والاعتباط الفكري القسري والحكم المسبق الذي يسيء إلى العديد من الكتاب كما يسيء إلى آدابنا. لا خشية على اللغة العربية من كلّ الذين كتبوا أو يكتبون بلغات أخرى فهي لغة من أفصح اللغات وأجملها ولها تاريخها الكبير والثريّ ولها حداثتها. والسؤال هو هل نعتبر جبران الذي كتب بالأنقليزية لبنانيا أم لا؟ هل نعتبر أنطون شمّاس الذي يكتب بالعبرية فلسطينيا أم لا؟ هل كان محمّد ذيب أو كاتب ياسين أو رشيد ميموني أقلّ انتماء إلى الجزائر من عبد الحميد بن هدّوقة؟ هي مسائل هامّة ومن الضروري دراستها بجدّية ومسؤولية. لابدّ أن نتخلّص من عقدة اللغة حتّى لا نحمّل الكتاب وحدهم أعباء التاريخ وقساوته ونضيف إلى ألم المعاناة اللغوية ألم سوء الفهم. لا بدّ أن يتّسع الأدب العربي بشكل أو بآخر، ربّما عن طريق الأدب المقارن، لاحتضان كلّ هذه الأصوات المتألقة عالميّا في هولندا وألمانيا وأمريكا وفرنسا. هناك شاعر إيراني، موسى بيدج، يكتب بالفارسية والعربية، هل نعتبره عربيّا أم إيرانيّا؟... لنترك الحرية في النهاية للكاتب في اختيار الانتماء أو رفضه.

 

تعيش بين ثقافتين، كيف ترى ما يسمّى بسوء الفهم بين الغرب والشرق؟

في رأيي هناك غَرْبان وشرقان. غرب متسامح، متفتّح، مسالم، مساند للقضايا العادلة، صاحب فكر نيّر وذو أخلاقية رفيعة وأنيقة وغرب عدائي، بائع أسلحة، يشجّع على الحروب وإشعال الفتن، مساند للصهيونية، يسعى للربح والتكسب المالي والهيمنة الإقتصادية والسياسية وكذلك هناك شرق إنساني صاحب قيم وروحانيات عالية، جاء بحضارات وديانات ترفع بكيان الإنسانية، علماني وتنويري وشرق محافظ، مبذّر للأموال غارق في التطرّف والتعصّب الديني والعنف السياسي واستبداد السلطة وسوء الفهم ليس بين الغرب والشرق بل بين الغرب المهيمن والشرق المتخلّف. المتحضّر يمكنه التفاهم مع مخاطبه أينما كان.

 

أنت من الشعراء الذين انتصروا منذ البداية للمشروع الحداثي العربي، هل تعتقد أننا نشهد الآن أفول هذا المشروع بسبب تنامي الحركات السلفية وانهيار المشاريع الوطنية في أكثر من بلد عربي؟

المشروع الحداثي العربي يمرّ بأزمة خطيرة حادّة ناتجة عن استعمال حركات أصولية وسلفية الدين للوصول إلى السلطة السياسية وفرضها بكل وسائل العنف في تراجع فكري ماضوي بعيد كل البعد عن التقدم والنهوض بمشاغل الشعوب العربية والإسلامية الحقيقية . فأنت تحتار من كلّ هذه الفتاوى المتنافسة غباوة وتملأ عقول الناس بلاهة وحماقة ولا رادع يمنع بلبلة العقيدة ويفتح باب الإجتهاد الصحيح المفيد لما ينفع الناس. والمسؤولية ليست على انهيار المشاريع الوطنية بعد الاستقلال بقدر ما هي مسؤولية التمسك المفرط بزمام أحادية السلطة وعدم اقتسام الثروات الوطنية في عديد من البلدان حتى بدا الدين منفذا سريعا للتعبير وعصا سحرية يتلاعب بها البعض لحلّ المعضلات الإجتماعية والأزمات الإقتصادية وربما كذلك الهزائم السياسية المتتالية والمريعة، أضف إلى ذلك كلّ من يسعى إلى إشعال الفتن والحروب وزرع الشقاق وإضاعة المال في شراء الأسلحة للتقاتل بيت الإخوة كأنما كتب على هذه الشعوب أن لا تتقدّم. الشاعر العربي المؤمن بمشروع الحداثة لا يمكنه أن يصيح مع الذئاب، كما يقال في الفرنسية ويساهم في هدم معنويات الأجيال بل عليه أن يبقى رافعا أخلاقية عالية، متمسكا بوجهه السلمي وقلمه الحضاري، مبددا للظلمات ومحباّ لجمال الكون والإنسانية، متصديا للرّعب والوحشيّة، مهما كان مأتاهما.

 

حضورك في تونس قليل هل هو اختيار وموقف من التظاهرات الأدبية التونسية التي كثيرا ما يغيب عنها الأدب؟

في الحقيقة أنا دائم السفر ولي مساهمات عديدة عبر العالم، آخرها في إيطاليا وقبلها في كولومبيا وقبلها في فلسطين حيث كانت لي أمسيات شعرية في نابلس ورام الله والقدس الشرقية وبير زيت فهذا يأخذ مني الوقت الكثير، أمّا عن تونس فإنّ الدعوات الأخيرة الموجّهة لي كانت غالبها من طرف المراكز الثقافية الفرنسية وكأنّ هناك قطيعة داخل الوسط الأدبي بين اللغتين ندر من أقام جسرا بينهما ليعبر وهذا في رأيي وجه من أوجه النقص في الحركة الأدبية في تونس وقد تجاوزه المغرب مثلا. أتابع عن كثب ما يكتب في تونس وكثيرة هي التظاهرات التي يغيب عنها الأدب فعلا ويكثر فيها السجال المرهق للأعصاب ويختلط فيها الحابل بالنابل ويعلو فيها العنف اللفظي الذي لا يليق بالمبدعين وأعتبرها عقيمة ولا تشجّع على المشاركة.

 

البحث الجامعي ألم يسرق الطاهر البكري من الشعر؟

على العكس. فأنا أنشر أشعاري بانتظام وبلغ - بكلّ تواضع- عدد الدّواوين الشعرية أكثر من خمسة عشر كتابا وبعضها ترجم إلى عدّة لغات وآخر ديوان صدر لي في فرنسا هو (أحاديث النهر، 2009، المنار) ويبدو أنّ النشر في الخارج، أعني من حيث الخبر والمعلومة، بقي محدودا ولكن ما الحيلة في هذا؟ ولذلك عملت على إيجاد موقع في الأنترنت خاصّ بي حتىّ يكون المهتمون على علم، أمّا البحث الجامعي فلا يلهيني عن كتابة الشعر بل يحميني من جعله مطيّة أو وسيلة للتكسّب والارتزاق كما عند البعض.

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1357 السبت 27/03/2010)

 

 

في المثقف اليوم