قضايا وآراء

في فلسفة العلوم الاجتماعية

 البشري بجميع أشكاله بهدف الوصول إلى فهم الظواهر الاجتماعية باتفاق الباحثين.

ومن الخصائص الضرورية للعلم أن يفضي بنا عبر جهد العلماء إلى بناء متين من "المعرفة" المنظمة التي لا تستحق وصف "المعرفة" إلا إذا كان ثمّة إجماع عام بين الباحثين على طبيعتها. فإذا لم يصل علم الاجتماع إلى فهم أو إدراك ثابت للظواهر الاجتماعية فإن ذلك العلم لن يعدّ علما حقيقيا.

قد يذهب أحدنا –في محاولة مبدئية لتعريف "العلم"- إلى القول إنه منتج ثابت لعمل مشترك يهدف إلى خلق نشاط يفهمه أي شخص يمتلك القدرات العقلية والمؤهلات الضرورية التي تمكنه من وصف ميدان محدد من الظواهر التجريبية وتحليله وفهمه( من حيث خصائص تلك الظواهر ومميزاتها وطبيعتها). وقد يضيف إلى ذلك التنبؤ الدقيق بتطور أنظمة هذا الميدان وقوانينه انطلاقا من حالات محددة أو ردًّا على تغيرات معينة.

ويرى بعض العلماء ضرورة استثناء الرياضيات من التعريف الأخير للعلم بدعوى أنها أساس كل العلوم. إلا أن هناك سمتين تبرران إدراج الرياضيات ضمن العلوم؛ فالنشاط الذي يقوم به علماء الرياضيات ينتج عنه معرفة ثابتة، وهو يتميز- خلافا للفلسفة- بوجود اتفاق دائم بين المشتغلين فيه. فعلماء الرياضيات ينظرون في فرضية رياضية محددة بوصفها صحيحة أو خاطئة، وليس بينهم من لا يقر بإثبات تلك الفرضية عن طريق اكتشاف برهان أو عن طريق اكتشاف ما يدحض تلك الفرضية مع وجود إمكانية لتحسين المفاهيم في هذا السياق وبعكس الفلاسفة، لا يحاول علماء الرياضيات إقناع نظرائهم بأن فرضية معينة تحتمل الصحة أو الخطأ، بل يبحثون عن البرهان أو الحجة الدامغة. وعندما يقدّم البرهان فإن ذلك لا يتطلب وقتا طويلا حتى يقرر علماء الرياضيات هل يوجد برهان قاطع أو حجة دامغة صادقة تحسم الأمر أم لا.

وعلى الرغم من أن الفلسفة نشاط عقلاني إلا أنها لا تعدّ علما، والسبب أنه لا يوجد بين المشتغلين فيها إجماع حول إمكانية حل الخلافات الفلسفية التي تظهر فيها، ناهيك عن استمرار النقاش والجدال الفلسفي الذي أظهرت التجربة أنه يخفق دائما في إيجاد حل لهذه الخلافات.

وهذا يعني أمرين، الأول: أن العقلانية أو البحث المنظم ليس كافيا لوصف مجال بحث معين بأنه علم. والثاني أن النشاط المشترك ليس علما بالضرورة لمجرد أن موضوعه يكمن في الظواهر التي يمكن ملاحظتها بالتجربة، أي الظواهر التي يمكن ملاحظتها عن طريق الحواس الخارجية. وثالثا وهو الأهم أنه يجب على كل نشاط ينطبق عليه وصف علم أن يكون معبرا عن نشاط مشترك تحل المشكلات فيه عن طريق أولئك الذين يملكون القدرة العقلانية المطلوبة ومهارات البحث المناسبة لاستخلاص المشكلة؛حيث لا تتحول الآراء المقترحة في ممارسة كهذه إلى ضرب من المنافسة في الرأي بهدف المنافسة فقط، وهذا الشرط الأخير هو جوهر "الموضوعية" في العلم.

وحتى يعدّ البحث علما يجب أن تكون نتائجه صحيحة إذا أمكن للباحثين المؤهلين في المجال نفسه إثبات صحتها، أو الكشف عن خطئها إذا كانت خاطئة عبر اختبار مماثل. ولا حاجة إلى القول إن الفرضية العلمية صحيحة "على الإطلاق"، أو "تطابق الواقع"، إذ يكفي الوصول بالدليل إلى صدقها أو كذبها، ولا تعتمد صحة هذه الفرضية القدرات العلمية المزعومة للباحث منفردا

وتأسيسا على ما سبق، ليس من الضرورة أن يدخل علم الاجتماع في منافسة مع مناهج العلوم الطبيعية حتى يعدّ "علما". فحسبه أن يفضي بنا إلى معرفة موضوعية بالمعنى الذي شرحناه في فقرة سابقة.

وإذا قيض لعلم الاجتماع أن ينافس المناهج الأخرى فهذه مسألة أخرى. أما السؤال المطروح هنا فهو التالي: هل نلاحظ أثناء نظرنا في البحث العلمي الذي يقوم به علماء الاجتماع أن الفرضيات(كما هي في الرياضيات) ممكنة الإثبات أو الدحض عن طريق اختبار يجريه أشخاص مؤهلون في ميدان العلوم الاجتماعية؟ أم أن هناك نزاعا مستمرا بينهم واتفاقا يكاد يكون معدوما كما هو الحال في الفلسفة؟

قبل أن نتوسع في هذه المسألة علينا أن ندرس الموضوع الذي يطمح إلى دراسته علماء الاجتماع.

      

?. ما هو المجتمع؟

يولد البشر في المجتمع، وفيه يعيشون، ومنه يستمدون وجهات نظرهم. وهم غالبا ما يكتسبون صورة عقلية عن إدراكهم للمجتمع الذي يعيشون فيه.

ويمكن وصف المجتمع من الناحية العلمية بأنه مركب من أفراد يحتلون مساحة من الزمن ويختلفون في درجة الوعي والاستقلالية ويتفاعلون بطرق معقدة، وينتجون منتجات وأشكالا من المؤسسات تؤدي بدورها إلى التأثير في خبراتهم وأفعالهم كما أنها تكون بمنزلة القيود على أفعالهم

وقد يختلف علماء الاجتماع عند وصف الظواهر الاجتماعية وتفسيرها وذلك في درجة تعاملهم أو حتى في درجة إقرارهم باستقلالية الأفراد واستقلال وعيهم. لكن الشيء الذي لا يختلفون فيه هو أن الجاتمع يتكون من الأفراد.

 إن إنكار الأمر الأخير قد يؤدي إلى تقويض الفصل بين ما تدرسه العلوم الطبيعية وما تدرسه العلوم الاجتماعية. فحجر الكريستال مثلا مركب من ذرات، والحيوان مركب من خلايا ولهذا يحاول العلماء وصف عناصر الكريستال والحيوان وتفسير مكوناتهما باعتبار الذرات والخلايا تفتقر إلى الوعي والاستقلالية(كما يعتقد العلماء عموما). وإذا حاول علماء الإنسانيات وصف الظواهر الاجتماعية من هذا المنطلق، فهم كمن يصف تفاعل إنسان آلي بشكل روتيني وبلا تفكير. ويمكن عدّ هذا المسعى- أعني دراسة الإنسان كما ندرس أي مادة أخرى- تمرينا عقليا مصطنعا في أحسن الأحوال، وأشبه بمحاولة السلوكيين المتزمتين extreme behaviorists  وصف الإنسان كما لو كان آلة بلا وعي وبلا إدراك. لكن الواقع هو أن الجزء المهمّ في فكرة الجrتمع البشري هو أن الأفراد يدركون إلى حد ما الجنتمع الذي يعيشون فيه ويتمتعون بدرجة من الحرية عند القيام بنشاطاتهم في إطاره.

 

?. هل تطابق المعرفة العلمية الواقع الموضوعي؟

يفترض معظم العلماء ضمنا أن الموضوع الذي يدرسونه مستقل عن الباحث، وأنه يتمتع بخصائص سابقة على البحث يقوم العالم فقط بإظهارها. إلا أن هذا الافتراض ضعيف في بعض حقول العلم خاصة في ميكانيكا الكم لأن ما يقاس في مستوى الكم إما ناتج من عملية القياس ذاتها أو متأثر بهذه العملية بشكل كبير. بل إن هناك من لديه شك حتى في الدراسة المحايدة المتعلقة ببعض دراسات الظواهر المرئية للعيان. حيث تكمن المشكلة هنا في تحديد الحقيقة التي من المفترض أن تمثلها المعرفة العلمية وليس فيما تفترضه عملية البحث العلمي بحد ذاتها. فإذا كانت الحقيقة هي ما ينتهي إليه البحث العلمي فإن من تحصيل الحاصل أن نقول إن المعرفة العلمية تطابق الواقع.

والواقع أن من يؤيدون معتقدات "العصر الجديد" مولعون بالمقولة المأثورة التي تقول :"أنت تخلق الواقع الخاص بك" (وكأن ذلك أمر لا جدال فيه). وهذا ليس صحيحا؛ لأن الحقيقة لا تعدّ حقيقة حتى يتفق أكثر من شخص واحد على خصائصها، وهذا يعني أنه لا يجوز الكلام على واقع خاص بهذا الفرد أو ذاك. فإذا رأيت أقزاما ترقص فقد أكون في حالة هلوسة. وإذا رأيت أنا وصديقي أقزاما ترقص فقد نكون في حالة هلوسة مشتركة. ولكن إذا رأيت أنا وصديقي ومجموعة أخرى من الأشخاص أقزاما ترقص، فسنبدأ في هذه الحالة بوصف ما نراه بأنه"حقيقة"، إلا إذا لم نكن جميعنا مخدوعين بطريقة ما. فإذا كانت الأقزام في كل مكان وتشاهد كل يوم فإن من سيدعي عكس ذلك سيعد- على الأرجح- مختلا عقليا.

الحقيقة إذن هي ما يمكن إثباته بيذاتيا intersubjectively مع ضرورة أن يتوافر شرط التحقق من تلك الحقيقة على الدوام. فالواقع الذي تم الكشف عنه من خلال بحوث علوم الطبيعة هو "حقيقي على وجه الخصوص" لأن العديد من الباحثين قد أثبتوا خصائصه( حتى مع مرور الأجيال). كما أن من لديه القدرة المناسبة على التعلم والتمرين الملائم يمكن أن يثبت صحة ما يقال في كتب الفيزياء والكيمياء والأحياء. بيد أن على المرء أن يتساءل هنا ولو استطرادا هل يقصد من إخضاع المتدربين إلى هذا التمرين الحد من القدرة على الفهم أو التفكير في الظواهر الطبيعية بطريقة تخالف ما هو مدون في تلك الكتب؟ وهل نستطيع الحديث هنا عن أرثوذكسية علمية تقوم على استبعاد علماء المستقبل ممن يتجرؤون على تحدي المذهب العلمي المتواضع عليه (وذلك من خلال رفض الشهادات الأكاديمية وتهكم العلماء الآخرين عليهم ورفض تمويل البحوث التي يجرونها)

وفيما يختص بالعلوم الاجتماعية فإن هناك اختلافا أكبر مما هو عليه في علوم الطبيعة حول حقيقة الواقع الاجتماعي (الذي يختلف عن واقع الأفراد والماديات التي ينتجها هؤلاء). وقد حاول "إميل دروكايم" أن يفرق بين علم الاجتماع وأشكال العلوم الأخرى من خلال التركيز على نوع خاص من "الواقع" هو "الواقع الاجتماعي" إذ عده واقعا مختلفا عن الوقائع التي تمت دارستها في العلوم الطبيعية مقترحا معيارين لتعريف الواقع الاجتماعي وذلك في الفصل الأول من كتابه قواعد المنهج الاجتماعي. وهذان المعياران هما:

أولا: "تعرف الواقعة الاجتماعية من خلال نفوذ السلطة الجبرية التي تمارسها أو التي يمكن أن تمارسها هذه الواقعة على الأفراد وهي سلطة يمكن تمييزها إما من خلال قيود معينة أو من خلال المقاومة التي تشن ضد كل فرد يحاول جاهدا التعدي على هذه السلطة." (دوركايم، ص.??)

ووفقا لهذا التعريف، تعدّ الواقعة الاجتماعية كالجاذبية لأنها تجبر الأفراد على البقاء على سطح الأرض ومقاومة محاولاتهم للتحليق مهما بذلوا من جهد.

يوضح دوركايم في الفصل الأول من كتابه" في منهج العلوم الاجتماعية" ذلك إذ يقول:

إن الواقعة الاجتماعية هي كل طريقة في الفعل تستطيع أن تفرض قيودا خارجية على الفرد.( دوركايم ص.??)

والجاذبية ليست "طريقة تصرف" وليست إذن واقعة اجتماعية. لكن من الذي يقوم بالفعل؟ قد تكون الإجابة أن الناس هم الذين يقومون بالأفعال على الأرجح. إذن، سيكون الواقع الاجتماعي حاضرا مادام الناس يقومون بفعل ما من شأنه تقييد أفعال الآخرين. وهم يقومون بذلك عندما يشغلون حيزا معينا لأنهم لا يستطيعون النفاذ من المادة الصلبة. فهل يعني دوركايم أن الناس يقيدون أفعال الآخرين بشكل مقصود؟ وهل يعني هذا أننا نتحدث أو ننطلق من العالم النفسي للأفراد وهو ما يرغب دوركايم في تجنبه وتمييزه عن علم الاجتماع؟ الظاهر من كلامه هو أنه يشير إلى القانون والعادات والتقاليد التي يتجاهلها الأفراد عند حدوث خطر ما. لا عن الأفراد بعينهم.

أما المعيار الثاني الذي يقدمه دوركايم لتحديد "الواقع الاجتماعي" ففي قوله:

 "جميع التصرفات العامة التي يتبعها أفراد مجتمع معين، وهي مستقلة في الوقت ذاته عن المظاهر الفردية لهذا الج تمع". (دوركايم، ص13)

والسؤال الذي يبرز هنا هل القول بوجود شيء "موجود بشكل مستقل عن مظاهره الفردية" كلام له معنى؟ إذا أردنا أن نأخذ مثالا على فرضيات دوركايم، أنستطيع القول إن الانتحار مثلا مستقل بذاته عن حالات الانتحار المختلفة؟

من الواضح أن دوركايم تبنى " انطولوجيا واقعية". بمعنى أنه نظر إلى الكليات باعتبارها ذات وجود مستقل عن الأشياء التي تنطبق عليها تلك الكليات(يعتبر اللون "الأحمر" مثلا شيئا مختلفا عن الأشياء ذات اللون الأحمر) غير أن هذه الفرضية ليست مقبولة في الوقت الحاضر، يكفي المرء أن يسأل عن مكان وجود هذه الكليات المزعومة حتى يتبين الخطل في طرحها.

لا شك في أن هناك معنى لقولنا إن العادات والتقاليد تمتلك وجودا فوق كل أفعال الأفراد. فمثلا هناك العادات والتقاليد التي يتبعّها الناس في الزواج. ومع أن بعض الناس يرفض فكرة وجود شيء أو كيان مستقل عن حالات الزواج المتعددة فإن الزواج ليس محصلة هذه الأمثلة؛ فالزواج يرتبط بتركيبة معقدة من الاعتقادات مثله مثل باقي العادات والتقاليد. وفي الحقيقة، قد يعتبر الزواج بوصفه تقليدا مزيجا من الاعتقادات ومن أفعال الناس وهم يتصرفون وفقها وعلى أساس من الاحترام الذي يظهرونه لها. ويبدو أن هذا المنظور ينطوي على خطر أو مجازفة لأنه يحمل مفهوما نفسيا عن الزواج بمعنى أنه يرد "واقعة" الزواج إلى معتقدات الأفراد وأفعالهم التي تترتب على تلك الاعتقادات. وهذا كما قلنا لا يتماشى مع رغبة دوركايم في اعتبار علم الاجتماع مختلفا عن علم النفس.

على أننا لا نتحدث في مسألة الزواج (وكذا العادات والتقاليد الأخرى) عن مجموعة مفردة من الاعتقادات والأفعال. لأن هناك تركيبة معقدة من الاعتقادات متجسدة في العديد من الأفراد ولها صفة الاستمرار في الزمن. وتوجد هذه الاعتقادات في معظم أفراد الج تمع الذين يؤمنون بها بشكل متفاوت مثل معاصريهم أو الذين جاؤوا قبلهم والذين نجحوا في الحفاظ على هذه الاعتقادات والسلوكيات التي كانت تشبه إلى حد ما تركيبة الاعتقادات السائدة منذ دهر. وتزودنا هذه الحقيقة بالقدرة على تعريف "الزواج" على أنه شيء مختلف عن الأمثلة المختلفة للزواج بالإضافة إلى الأمثلة الفردية للاعتقادات، وكأننا نتعامل مع علم نفس "جمعي" مختلف عن علم النفس " الفردي".

إذا انطلقنا مما نعده مفهوما شبه دوركايمي لعلم الاجتماع لقلنا إن العلم الذي يتحدث عنه دوركايم هو دراسة النفس الإنسانية لا كما نجدها في الأفعال والاعتقادات الفردية بل كما نجدها في أفعال ومعتقدات عدد كبير من الناس ( إن لم نقل كلهم) في الجمتمع مع إدراكنا أن هذا الصيغة قد لا تكون مقبولة عند دوركايم بسبب رغبته في الوصول إلى تمييز واضح لعلم الاجتماع عن علم النفس.

وعلى ما يبدو فإن الواقعية الفلسفية عند دوركايم قادته إلى جعل"علم النفس الجمعي" موضوعيا مثل "الوعي الجمعي" أو "الفكر الجمعي". وهو موقف لم يتعاطف معه علماء الاجتماع في نهايات القرن العشرين. وليس هذا المقال مخصصا للبحث في هذه المسألة.

 وعلى الأرجح فإن ما يكشفه الباحثون في سعيهم إلى فهم الجطتمع هو الواقع الاجتماعي بحيث يكون حصيلة بحثهم مفهوما لزملائهم، هذا على افتراض أنهم متفقون على ما يكتشفونه وأن اتفاقهم هذا سيدوم على مر الزمن. ومع أنه يصعب القول إن الواقع الاجتماعي مستقل عن النشاط المشترك لعلماء الاجتماع إلا أنه مستقل عن هذا الباحث أو ذاك.

 

فيبر: أصول الرأسمالية الحديثة

لم يشعر ماكس فيبر خلافا لدوركايم بشرعية دراسة الجشتمع من خلال تأسيس هويته كعلم منفرد (على الأقل إن كان المقصود أنه علم نموذجه علوم الطبيعة) ولهذا جاء منهجه في دراسة الجنتمع أقرب إلى منهج علماء التاريخ منه إلى منهج علم الإناسة أو الانثربولوجيا دون أن يكون منهجا وصفيا خالصا. فهو لا يعد علم النفس من العلوم، بل يعتبره ضربا من التعاطف مع العالم الفكري للناس الذين يعيشون في عصور وأماكن مختلفة. وبفضل ما تحصل لنا نحن القرّاء- من معرفة العالم من تجربتنا الخاصة ومن قدرتنا على أن نفكر ونتخيّل- صار بإمكاننا أن نفهم وصف فيبر للعالم كما رآه الناس في مجتمعات أخرى وفي مجتمعنا في الماضي. فالواقع الاجتماعي من وجهة نظر فيبر هو واقع إنساني لا يمكن فصله عن الخبرة الإنسانية. صحيح أنه لا يمكن إغفال ضرورة التفاصيل الاقتصادية والتاريخية لفهم الجاتمع في الزمان والمكان المحددين، إلا أن الأهمية الحقيقية لهذه التفاصيل تكمن في الكيفية التي خبر بها الناس هذه الأمور وعاشوها. وما هو تصورهم عن عالمهم وعن أنفسهم وكيف أوصلهم ذلك إلى قراراتهم وأفعالهم وكيف شكل أساليب حياتهم. ومع ذلك فإن هذا المنهج الذي يقترحه فيبر لا يعتبر منهجا أدبيا بحتا لأنه يستخدم "النموذج المثالي" كأداة توضيح كما سيتبين لنا لاحقا.

يتساءل ماكس فيبر في كتابه "المذهب البروتستانتي وروح الرأسمالية": كيف ظهر الشكل الحديث للرأسمالية في الغرب خلال القرون القليلة؟ وهو سؤال ليس مهما فقط بالنسبة إلى علماء التاريخ فحسب بل لنا نحن الغربيين الذين نعيش في مجتمع رأسمالي متقدم شكلت تداعياته حياتنا وقيدتها. ولهذا فإن إدراكنا لظهور الرأسمالية الحديثة يساهم في إدراكنا لأنفسنا وإدراك القيود المفروضة على حريتنا.

 تعني الرأسمالية- من منظور الإدراك المادي- بلوغ الحد الأقصى للثراء والرفاهية والبناء عليهما أكثر وأكثر في سعي نحو تحقيق المتعة والسعادة. وهي حالة سبق أن عرفتها- قبل الحضارة الغربية- مجتمعات أخرى منذ دهر من الزمان. لكن الذي يميز روح الرأسمالية الحديثة هو ذلك "السلوك الذي يسعى إلى تحقيق الأرباح والمكاسب بطريقة عقلانية ومنظمة". وقد انتشرت هذه العقلنة حاليا في كافة الج تمعات الغربية ما عدا الهامش. وللدقة فإن أولئك الذين يؤمنون بأنهم يتحكمون في سير الجاتمع قد حاولوا فرض هذه العقلنة على دول الهامش باسم "التقدم" بالرغم من المعارضة التي أظهروها حفاظا على حريتهم.

ولكن كيف ظهرت الرأسمالية؟ يرى فيبر أن الرأسمالية ذات منشأ ديني، وأنه قد يكون للرأسمالية الحديثة- التي لم تكترث للمبادئ الروحانية- أصل ديني. وعلى الرغم من أن تصديق ذلك يبدو لأول وهلة مستحيلا إلا أن فيبر نجح في جعل هذا الادعاء قابلا للتصديق. ومن أجل فهم محاولته تلك علينا أن نتبع فيبر في وصفه العالم العقلي للبروتستانتية المتزمتة.

يقدم فيبر في الفصل الرابع، القسم الأول من كتابه أخلاق المذهب البروتستانتي، ما سماه "النموذج المثالي" الخاص بالاعتقاد الكالفيني فيقول: "نأمل في إدراك أهمية الكالفينية أو (الأفكار الدينية المختلفة لهؤلاء الناس) من خلال البحث في أكثر أشكالها التعبيرية منطقية وترابطا" (ص.??)

إن الأساس الروحاني للرأسمالية الحديثة كما يرى فيبر يكمن في الكالفينية بشكل خاص أكثر من كمونه في البروتستانتية ككل وهذا ينطبق على الإيمان بالقضاء والقدر الذي بمقتضاه يكون مصير الإنسان النجاة أو الهلاك منذ نفخ الروح حيث لا سبيل لتغيير القضاء والقدر بالعمل أو بطاعة الكنيسة.

يقول فيبر إن ذلك الاعتقاد خلق"الشعور بوحدة الفرد بشكل لم يسبق له مثيل"(ص104) "فالرب بعيد، والمعاملة الحسنة لإخوتنا" لا علاقة لها بخلاص الإنسان أو هلاكه، كما أن المشاركة في الأسرار المقدسة في المسيحية(ممارسة لها تأثير سحري في الاعتقاد الرسمي) هي ممارسة غير ذات معنى. أما السؤال المسيطر على تفكير الإنسان يومها فهو التالي: هل سيكون مصير النجاة أو الهلاك؟ وأنى للشخص أن يعرف؟

  لم يكن هناك- كما جاء في تعاليم كالفن- طريقة تجعل الإنسان يعرف إن كان مصيره النجاة من خلال أعماله، لكن كان هناك بعض الأفعال التي تشير بكل تأكيد إلى أن مصيره سيكون الهلاك. وكانت دلالة حرمان الإنسان من النجاة فشله في إتباع تعاليم الكالفينية وسلوكه اللأخلاقي. لكن وحده الإنسان الذي كان يكافح في حياته في طاعة الرب يمكنه أن يأمل بعد الممات بأن يعرف أنه كان من الناجين.

 أدى ذلك إلى عقلنة الخلاص أي إلى التخطيط الواعي لأفعال الشخص يوما بيوم بهدف تعظيم الأمل بأنه من الناجين. وكان الخيار الثاني أفظع من أن يحتمله العقل بالطبع:

يقول فيبر في وصف الأسلوب المثالي للفكر الكالفيني:

"خلق الرب العالم من أجل طاعته وحده. وخلق المسيح المختار في العالم لعبادة الرب من خلال طاعة أوامره ما استطاع. ولكن الرب يحثنا على تحقيق التواصل الاجتماعي لأنه يريد أن ينظم الناس في مجتمع يمتثلون عبره لأوامره التي تهدف إلى تحقيق غايته من الخلق" (ص.???)

إذن، فالعمل عبادة والعباد مأمورون بالقيام بهذه العبادة. ومن هنا جاءت فكرة "الدعوة" بمعنى"المهنة" أو بعد ذلك بمعنى " الاحتراف" فلا يعمل المسيحي المنصف بجد ليطيع الله بأحسن ما يستطيع بل يفكر بشكل جاد ومستمر بأن يقوم بواجبه بأحسن وجه. وراح الزهد البروتستانتي يشدد على"استغلال هذه الرغبة للعمل (جاهدا) من أجل النجاة، وبهذا فسّر النشاط التجاري لأصحاب العمل على أنه نداء أو دعوة" (ص.???)

ويسعى صاحب العمل البروتستانتي إلى أن يعمل موظفوه بجد وفعالية أيضا وأن يدركوا أن الله يدعوهم إلى ذلك. "فمعاملة العمل -باعتباره دعوة- تصبح واحدة من خصائص العامل كسلوك مواز لتلقي أوامر رجل الأعمال" (ص.???)

و"من أجل ضمان الخلاص ينصح بالنشاط المركز باعتباره أفضل وسيلة. فهي وحدها تمحو الشكوك الدينية وتمنح المغفرة"(ص.???)

ويخلق الكالفيني قناعة لخلاصه من خلال "السيطرة الذاتية المنظمة" في كل لحظة يقف فيها أمام المصير المنتظر، الاصطفاء أو اللعنة." (ص.???)

وكانت الكاثوليكية تمارس السيطرة الذاتية المنهجية لكن تلك الممارسة شاعت بشكل أساسي في الرهبانية عندما اتجهت إلى الانسحاب من العالم. وقد حذت الكالفينية حذو الرهبانية في تطبيق السيطرة الذاتية المنهجية في العالم وشددت على ضرورة ضمان خلاص الفرد من خلال سلوكه في العالم."

تعتقد الكالفينية أن وجود الإنسان في هذا العالم الدنيوي هو فقط لطاعة الله. أما بالنسبة إلى الزهد البيوريتاني فهو الفضيلة لأن المتعة بالماديات هو التقصير بالطاعات. وهو استغلال أناني لما هو ملك لله وحده.

"إن الانغماس في الملذات يؤدي إلى الانحراف عن أداء العمل وعن الطاعات الدينية وهو عدو للرهبانية العقلانية"(???) تلك هي القوة التي منحت رجال الأعمال البرجوازيين الوقار والضمير الحي والعمّال الكادحين المتشبثين بالحياة من أجل طاعة الله".(ص.???)

 وبينما تزيد البروتستانتية نسبة نجاح المؤمنين بها من خلال ممارستها العقلنة والسيطرة الذاتية المنهجية في العالم الدنيوي -كما تم قياسها في النجاحات التي تم تحقيقها في الأعمال-تطالب الرهبانية بعدم التمتع بالمكاسب بل بإعادة استثمارها من أجل "تقدم العمل" وتحقيق نجاحات إضافية. ويتم تحقيق "حصص السوق" تدريجيا بواسطة الوسائل العقلانية بحيث يكون الهدف في النهاية هو تحقيق السيطرة على العالم الخارجي، التي تعكس بدورها السيطرة على العالم الداخلي. ويعتبر الولع بالسيطرة إحدى خصائص مجتمع الرأسمالية الحديثة بحيث يحاول القادة السيطرة على الناس والمصادر الطبيعية واستغلال فعاليتهما.   

لا يفكر رواد الصناعة الحديثة بأسلوب مشابه لتفكير المتزمتين(بالرغم من أن مذهب التزمت يتقدم ببطء في الديانة المدنية في مجتمع الولايات المتحدة الأمريكية) وما حاول فيبر أن يوضحه هو الكيفية التي قدم بها الفكر المتزمت أحد الشروط الأساسية لظهور الرأسمالية الحديثة. ولأنها أصبحت تسيطر على الجبتمع لم يعد هناك حاجة إلى دعم الزهد الديني لها. لكن المواقف الفكرية التي أوجدت هيمنة الرأسمالية الحديثة تصر على ادعاءاتها الباطنية؛ كالقول مثلا إن العمل الجاد فضيلة، وأن الثراء المادي من سمات الرجل الرفيع، وأن من لا يرغب في العمل – سواء أكان العمل المتاح مضجرا ً أو غير مجد – يستحق التوبيخ، وهو تماما ما قال به المتزمتون الأوائل بالنسبة لمن يفشل في أداء واجبة نحو ربه. إذ يقول فيبر على لسان المتزمتين: " إن دُعينا للعمل لحظة الأمر، فنحن مجبرون على الطاعة." (ص. ???)

يصف فيبر الزهد بأنه قاد أحد الأدوار في بناء العالم الفسيح للنظام الاقتصادي المعاصر، بحيث ترتبط ديمومتها في يومنا هذا بالأوضاع الاقتصادية والفنية للإنتاج الصناعي، التي تحكم جميع أرواح البشر من الذين ولدوا تحت ظل حركتها دون أن تقتصر فقط على ذوي العلاقة المباشرة بالمكاسب الاقتصادية.

و بهذا يروي لنا فيبر تلك القصة التي تنير بصيرتنا حول حقائق حياتنا، وكيف تتأصل جوانب تلك الحياة في جذور التاريخ. وهي ليست أصولا أسطورية وإنما حقيقة يمكن التثبت منها إذا أعرنا اهتماما للمصادر التاريخية التي اعتمد عليها هذا العالم (قليل منا لديه الوقت والمهارة الكافية للقيام لذلك).

و يعدّ وصفه للمجتمع الرأسمالي الحديث واقعيا ً، إلا أن إدراك هذا التصور كما فعل فيبر يتطلب فهما ً واسعا ً وعميقا ً يندر أن يوجد لدى معظمنا

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1362 الجمعة 02/04/2010)

 

 

في المثقف اليوم