قضايا وآراء

الشعر والشاعرية في تفسير (التحرير والتنوير)

منهلها ومصدرها النص القرآني ممّا حدا بكثير من الفقهاء والأولياء والعبّاد أن يقولوا الشعر في مواضيع الزّهد،و لم يخوضوا في الأغراض الأخرى إلا لِمامََا نذكر من بينهم عبد الرحمان بن زياد بن أنعم الذي نشأ بالمزاق بإفريقية فأخذ اللغة والقرآن والفقه عن الأفواج الأولى من التابعين الوافدين، وقد وُلد في نحو سنة 74 هـ وبعد التحصيل بالقيروان اِرتحل إلى المشرق حيث ملأ وطابه من ثقافة العصر المتمثلة في القرآن والسّنة فتتلمذ لشيوخ الحجاز والشام والعراق وقد وصلتنا أبيات شعريّة يشتاق فيها إلى أهله وبلده يقول فيها:

ذكرتُ القيروانَ فهاج شوقي

                       وأين القيروان من العراقِ

مسيرة أشهر للعِيس ِ نصًا

                     على الخيل المثضَمّرَةِ العِتَقِ

فَبَلِّغْ أنْعَمًا وبني أبيه

                      ومَنْ يُرجَى لَنَا وَلَهُ التّلاَقي

بأنَّ الله قد خلّى سبيلي

                       وَجَدَّ بِنا المسيرُ إلى مزاقِ

أما في القرن الثاني فإن الإمام سحنون المولود سنة 160 هـ والذي نقل في مدونته عن الإمام مالك أصول مذهبه فقد كان كثيرا ما يَتَمثّل بقوله:

   كُلّ شيءٍ قد أراه نُكْــــرًا

                غير ركز الرّمح في ظهر الفرسْ

 وقيامٍ في حناديس الدّجى

               حارسًا للقوم في أقصى الحرسْ

 

و من أولئك الفقهاء الذين برعوا في الشعر أيضا نذكر أبا الفضل ابن النحوي صاحب قصيدة المنفرجة الذائعة الصيت:

      اِشتدّي أزمة تنفرجــي *** قد آذن ليلك بالبلـــــــج

           وظلام الليل له سُرُج *** حتى يغشاه أبو السُّـــرُج

 

وتُنسب إلى العديد من الفقهاء والأولياء في تونس وإفريقية أشعار قليلة أو كثيرة ولم يخالف هذه الوتيرة حتى اِبن عرفة واِبن خلدون بل يمكن أن نعدّ البعض من أولئك الفقهاء والأولياء من الشعراء البارزين في عصورهم مثل الوليّ مُحرز بن خلف الذي عاصر القرن الرابع والخامس الهجري ومثل الشيخ إبراهيم الرياحي الذي عاصر القرن التاسع عشر الميلادي

ولعل آخر تلك السلسلة التي جمعت بين القرآن والشعر تتمثل في الشيخ الحبيب المستاوي المتوفّى سنة 1975 صاحب ديوان ـ مع اللّه ـ وقد اِقتفى أثر أولئك الأعلام جميعا العلامة حسن حسني عبد الوهاب خاصة في كتابه ـ مجمل تاريخ الأدب التونسي ـ وفي مصنّفه الكبير  ـ كتاب العمر ـ الذي سجّل فيه بدقة آثار الذين حملوا لواء اللغة والأدب والفقه على مدى أربعة عشر قرن في تونس ولم يخالف الشيخ ابن عاشور سُنّة أولئك السابقين في قول الشعر من حين إلى آخر فكتب قصائد عديدة تنمّ عن شاعرية مرهفة وصنعة بديعة كتلك القصيدة التي أرسل بها إلى صديقه الشيخ محمد الخضر حسين في منفاه والتي يقول فيها:

 بَعُدْتَ ونفسي فـي لقـاك تَصيــــدُ

 فلم يُغِنِ عنها في الحنـان قصيـــد

وخلَّفتَ ما بين الجوانـح غصــــــة

 لها بين أحشاء الضلـوع وقـــــــود

وأضحتْ أماني القرب منك ضئيلةً

 ومـرُّ الليالـي ضعفهـا سيزيــــــد

أتذكـر إذ ودَّعْتنـا صبـحَ ليلـــــــــةٍ

  يموج بهـا أنـسٌ لنـا وبـــــــرودُ

وهل كان ذا رمزاً لتوديع أنسنـا

وهل بعد هذا البين سـوف يعـود

ألم ترَ هذا الدهر كيـف تلاعبـت

أصابعـه بالـدر وهـو نضيــــــــد

إذا ذكروا للود شخصـاً محافظـاً

تجلى لنـا مـرآك وهـو بعيـــــدُ

إذا قيل:مَنْ للعلم والفكر والتّقـى

ذكرتُـك إيقانـاً بأَنْـكَ فـريـــــــد

فقل لليالي: جَدِّدي مـن نظامنـا

فحسبك ما قد كـان فهـو شديـد

 

وللشيخ شغف جمّ باللغة والشعر الذي نراه يستشهد به كلما وجد سياقا مناسبا له من دون أن يجد في البعض منه حرجا كما في مجال تعليقه على باب الرَّمَل في الطواف من كتابه ـ كشف المغطّى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطا ـ (موطأ الإمام مالك) ـ حيث يقول مستطردا في هذا الباب :

 

الاِرتجاز عادة قديمة عند العرب يخففون به عن أنفسهم مشقة العمل فكانوا يرتجزون عند القتال وعند المتح على الآبار وقد جاء في الحديث اِرتجاز النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين عند حفر الخندق وارتجازه يوم حنين بقوله

 أنا النبيّ لا كذب *** أنا ابن عبد المطلب

 

والاِرتجاز في الطواف وارد عن أهل الجاهلية، وطافت اِمرأة عريانة على حسب دين قومها فقالت:

 اليوم يبدو بعضه أو كله *** وما بدا منه فلا أحله

 

وكذلك اِرتجز عروة بكلام صالح في تسبيح الله تعالى وورد مثله عن الحسن البصري. 

وكذلك مثلما اِستشهد بيت أبي تمام عند تفسيره لسورة القيامة التي اُفتتحت بالقسم :

 وثناياك إنها إغريض *** ولآلٍ تُؤمٌ وبرق وَميض

 

فالصورة الغزلية الواضحة في هذا البيتين فلم تجعله يستنكف من ذكرهما وهو في مقام شرح سياقات الحج أو القيامة وسواء عند تفسيره للقرآن أو الحديث.

ونرى الشيخ اِبن عاشور يتعرض في تفسيره ـ التحرير والتنويرـ  إلى مسألة تنوعت فيها الآراء وتعددت منذ القديم تتمثل في وجه الشبه ومدى تراوحه بين الاِئتلاف والاختلاف بين القرآن والشعر فيرى الشيخ أن القرآن ليس شعرا وذلك في سياق تفسير لآية (وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين) من سورة يس حيث يقول:

ـ (وكيف يكون القرآن شعرا والشعر كلام موزون مقفى له معان مناسبة لأغراضه التي أكثرها هزل وفكاهة، فأين الوزن في القرآن، وأين التقفية، وأين المعاني التي ينتجها الشعر، وأين نظم كلامهم من نظمه، وأساليبهم من أساليبه) ـ

وهو يعتبر أن القرآن فائق على شعر العرب في محاسنه البلاغية وليس هو في أسلوب الشعر بالأوزان التي ألفوها بل هو في أسلوب الكتب السماوية والذّكر، رغم ملاحظته أن في القرآن عديد الآيات قد وردت على نسق بحور الشعر: 

  فمن بحر الطويل آية فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر

 ومن بحر المديد آية واِصنع الفلك بأعيننا

 ومن بحر الوافر آية ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين

 ومن بحر الكامل آية والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم 

 ومن بحر الرجز آية دانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا

 ومن بحر الرمل آية ورفعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك

 ومن بحر المنسرح آية إنا خلقنا الإنسان من نطفة

 ومن بحر الخفيف آية أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم

 ومن بحر المضارع آية يوم التناد يوم تولون مدبرين

 ومن بحر المقتضب آية في قلوبهم مرض

 ومن بحر المتقارب آية وأملي لهم إن كيدي متين

و للشيخ ابن عاشور في تفسيره ـ التحرير والتنوير ـ عدّة إلماعات شاعرية قلّما نجد مثلها في ما سبق من التفاسير وقد أمكن له رصد هذه الإلماعات لما في شخصيته من حسّ شعري مرهف وذوق رفيع حتى لكأنه وهو يفسر بعض الآيات إنما يرصد ما توحي به تلك الآيات من أبعاد المعاني فيرسمها لوحات موحية بيراعه ذي الأسلوب البديع وقد تجلى هذا في مثل تفسيره لآية ـ الله نور السماوات والأرض...، من سورة النور حيث رأى ـ بعد الشرح التفصيلي ـ  أنّ كل جزء من أجزاء الهيئة المشبهة مشابها لجزء من الهيئة المشبه بها فالمشكاة يشبهها ما في الإرشاد الإلهي من اِنضباط اليقين وإحاطة الدلالة بالمدلولات دون تردد ولا اِنثلام، وحفظ المصباح من الاِنطفاء مع ما يحيط بالقرآن من حفظه من الله بقوله (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)

ومعاني هداية إرشاد الإسلام تشبه المصباح في التبصير والإيضاح، وتبيين الحقائق من ذلك الإرشاد.

وسلامته من أن يطرقه الشك واللبس يشبه الزجاجة في تجلية حال ما تحتوي عليه كما قال (ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات)

والوحي الذي أبلغ الله به حقائق الديانة من القرآن والسنة يشبه الشجرة المباركة التي تعطي ثمرة يستخرج منها دلائل الإرشاد.

وسماحة الإسلام واِنتفاء الحرج عنه يشبه توسط الشجرة بين طرفي الأفق فهو وسط بين الشدة المحرجة وبين اللين المفرط.

ودوام ذلك الإرشاد وتجدده يشبه الإيقاد.

وتعليم النبي صلى الله عليه وسلم أمّته ببيان القرآن وتشريع الأحكام يشبه الزيت الصافي الذي حصلت به البصيرة وهو مع ذلك بين قريب التناول يكاد لا يحتاج إلى إلحاح المعلم.

وانتصاب النبي عليه الصلاة والسلام للتعليم يشبه مسّ النار للسراج وهذا يومئ إلى اِستمرار هذا الإرشاد.

و لله درّ الشيخ محمد الطاهر بن عاشور عند توصّله لهذه اللمحة الدقيقة والإشارة الرشيقة التي لا يدرك كنهها إلا الراسخون في العلم من الذين جمعوا ووعوا فاِستنبطوا حيث يقول إن قوله تعالى ( من شجرة ) يومئ إلى الحاجة إلى ضرورة اِجتهاد العلماء على مرور الأزمنة لأن اِستخراج الزيت من ثمر الشجرة بتوقف على اِعتصار الثمرة وهو الاِستنباط.

و للشيخ إلماعات طريفة عديدة أخرى خطرت له بفضل ما يمتاز به  من شاعرية يرسم بها بعض سور القرآن صورا على غاية من التمثيل والرمز كتفسيره لأول سورة الشمس التي اُبتدئ فيها بالشمس، ففي مقام ذلك تشبيه وتنويه بالإسلام لأن هديه كنور الشمس لا يترك للضلال مسلكا، وفيه إشارة إلى الوعد باِنتشاره في العالم كاِنتشار نور الشمس في الأفق، واِتبع بالقمر لأنه ينير في الظلام كما أنار الإسلام في اِبتداء ظهوره في ظلمة الشرك ثم ذكر النهار والليل معه لأنهما مثل لوضوح الإسلام بعد ضلالة الشرك وذلك عكس ما في سورة الليل.

و نرى الشيخ اِبن عاشور وقد ترقى به الشاعرية أحيانا حتى تسمو به معاني القرآن إلى مافيها من دلالات بعيدة لا تحدها أو تقيدها التفاسير السطحية تلك التي لا تتجاوز ظاهر الكلمات خاصة عند ورود أخبار

وقصص حولها، فنراه يتركها جانبا لينطلق من المعنى المحدود حتى يصل إلى الأبعاد غير المحدودة كمثل تفسيره لسورة الشرح التي يرى أنها بدأت باِستفهام تقريري على النفي (ألم نشرح لك صدرك ووضعناعنك وزرك) وهذا التقرير مقصود به التذكير لأجل أن يراعي الرسول هذه المنّة عندما يخالجه ضيق صدر مما يلقاه من أذى قوم يريد صلاحهم وإنقاذهم من النار ورفع شأنهم بين الأمم،ليدوم على دعوته العظيمة نشيطا غير ذي أسف ولا كمد.

فيذهب الشيخ اِبن عاشور إلى أن حقيقة الشرح هي فصل أجزاء اللحم بعضها عن بعض، ومنه الشريحة للقطعة من اللحم، والتشريح في الطب، ويطلق على اِنفعال النفس بالرضى بالحال المتلبس بها، وظاهر كلام الأساس أن هذا إطلاق حقيقي، ولعله راعى كثرة الاِستعمال، أي هو من المجاز الذي يساوي الحقيقة لأن الظاهر أن الشرح الحقيقي خاص بشرح اللحم، وأن إطلاق الشرح على رضى النفس بالحال أصله اِستعارة ناشئة عن إطلاق لفظ الضيق وما تصرف منه على الإحساس بالحزن والكمد قال تعالى (وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز) فجعل إزالة ما في النفس من حزن مثل شرح اللحم وهذا الأنسب بقوله (فإن مع العسر يسرا) وتقدم قوله (قال رب اشرح لي صدري) في سورة طه. فالصدر مراد به الإحساس الباطني الجامع لمعنى العقل والإدراك، وشرح صدره كناية عن الإنعام عليه بكل ما تطمح إليه نفسه الزكية من الكمالات وإعلامه برضى الله عنه وبشارته بما سيحصل للدين الذي جاء به من النصر.

فالشيخ اِبن عاشور يمضي في تفسيره إلى المرامي والغايات ولا ينغلق في المعنى الظاهر للكلمات والآيات مثلما نلاحظه أيضا في تفسيره لآية الكرسي من سورة البقرة التي يرى فيها ـ أنه ليس المراد في الآية حقيقة الكرسي إذ لا يليق بالله تعالى لاِقتضائه التحيّز فيتعيّن أن يكون المراد به غير حقيقته ـ

ونرى الشيخ في أكثر من سورة وآية يستنكف من الاِعتماد على الروايات والأخبار التي لا تتفق مع المعقول وتناقض الأحداث التاريخية كتفسيره لآية (إنا نحن نحي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين) من سورة يس حيث يرى بجواز أن يكون الإحياء مستعارا للإنقاذ من الشرك، والموتى: اِستعارة لأهل الشرك، فإحياء الموتى توفيق من آمن من الناس إلى الإيمان كما قال تعالى ( أفمن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ) ويرى أيضا أن المراد بكتابة ما قدموا،الكناية عن الوعد بالثواب على أعمالهم الصالحة والثواب على آثارهم التي يرى أنها آثار الأعمال وليست عين الأعمال والمقصود بذلك ما علموه موافقا للتكاليف الشرعية أو مخالفا لها  كذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أعمالهم شيئا ).

و نلاحظ أن الشيخ اِبن عاشور يعود إلى حيثيات نزول هذه الآية ليؤكد صحة رأيه فيها الذي يخالف فيه السابقين فيقول :  وقد ورد عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن بني سلمة أرادوا أن يتحولوا من منازلهم في أقصى المدينة إلى قرب المسجد وقالوا: البقاع خالية، فقال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم  يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم  مرتين رواه مسلم. ويعني آثار أرجلهم في المشي إلى صلاة الجماعة.

 وفي رواية الترمذي عن أبي سعيد زاد: أنه قرأ عليهم (ونكتب ما قدموا وآثارهم) فجعل الآثار عاما للحسية والمعنوية، وهذا يلاقي الوجه الثاني في موقع جملة (إنا نحن نحي الموتى). وهو جار على ما أسسناه في المقدمة التاسعة. وتوهّم راوي الحديث عن الترمذي أن هذه الآية نزلت في ذلك وسياق الآية يخالفه ومكيتها تنافيه.

 

فالشيخ اِبن عاشور نراه يراجع ويصحح البعض مما كان سائدا في التفاسير وذلك بالاِعتماد على المقارنة والاستنباط والعودة إلى السياقات التاريخية وأسباب النزول فيترك جانبا الأخبار والروايات التي لا تستند على اليقين كمثل تفسيره لسورة الفجر حيث وضع القصاصون حول قوله تعالى (إرم ذات العماد) قصة مكذوبة فزعموا أن (إرم ذات العماد) مركب جُعل اِسما لمدينة باليمن أو بالشام أو بمصر، ووصفوا قصورها وبساتينها بأوصاف غير معتادة، وتقوّلوا أن أعرابيا يقال له: عبد الله بن قلابة كان في زمن الخليفة معاوية بن أبي سفيان تاه في اِبتغاء إبل له فاِطلع على هذه المدينة وأنه لما رجع أخبر الناس فذهبوا إلى المكان الذي زعم أنه وجدوا فيه المدينة فلم يجدوا شيئا. وهذه أكاذيب مخلوطة بجهالة

ومن تخريجاته اللطيفة التي يتجاوز فيها ظاهر دلالة اللفظ الحرفية إلى معانيه البعيدة التي تنسجم مع المقاصد الجوهرية للشريعة ما أورده في مقدمة تفسير سورة ـ الرحمان ـ أن قول الرسول عليه الصلاة والسلام فيها : ( لكل شيء عروس وعروس القرآن سورة الرحمان) فالظاهر أن لكل شيء عروس، أي لكل جنس أو نوع واحد من جنسه يزينه تقول العرب ـ عرائس الإبل ـ لكرائمها فإن العروس تكون مكرمة مزينة مرعية  من جمع الأهل بالخدمة والكرامة، ووصف سورة القرآن بالعروس تشبيه بما تحتوي عليه من ذكر الحبرة والنعيم في الجنة بالعروس في المسرة

والبذخ، تشبيه معقول بمحسوس ومن أمثال العرب ـ لا عطر بعد عروس ـ أي تشبيه ما كثر فيها من تكرير ـ فبأي آلاء ربكما تكذبان ـ بما يكثر على العروس من الحلي في كل ما تلبسه.

ومن إلماعات الشيخ اِبن عاشور البديعة تفطّنه إلى أن طريقة قراءة النص القرآني قد تتدخل في تحديد المعنى فبلاغة الكلام لديه لا تنحصر في أحوال تراكيبه اللفظية، بل تتجاوز إلى الكيفيات التي تؤدي بها تلك التراكيب عند القراءة من ذلك أن سكوت المتكلم البليغ في جملة سكوتا خفيفا قد يفيد من التشويق إلى ما يأتي بعده، فبيّن عند تفسير أول سورة البقرة (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) أننا إن وقفنا على كلمة ـ ريب ـ كان من قبيل إيجاز الحذف أي لا ريب في أنه الكتاب فكانت جملة ـ فيه هدى للمتقين ـ اِبتداء كلام وكان مفاد حرف ـ في ـ اِستنزال طائر المعاندين أي إن لم يكن كله هدى فإن فيه هدى. وإن وصلت ـ فيه ـ كان من قبيل الإطناب وكان ما بعده مفيدا أن هذا الكتاب كله هدى.        

فإذا كانت طريقة قراءة النص القرآني ـ بما فيها من وصل وفصل ـ ذات أثر واضح في التأثير على المعنى مثلما أشار الشيخ اِبن عاشور، فإن السكوت هو كذلك عند كلمة وتعقيبها بما بعدها يجعل ما بعدها بمنزلة الاِستئناف البياني فيعطي السكوت بذلك معنى آخر أو يضفي حالة أخرى على المتقبّل، ومثال ذلك آية (هل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى) فإن الوقف على قوله ـ موسى ـ يحدث في نفس السامع ترقّبا لما يبيّن حديث موسى، فإذا جاء بعده ـ إذ ناداه ربه ـ حصل البيان مع ما يحصل عند الوقف على كلمة موسى من قرينة من قرائن الكلام لأنه على سجعة الألف مثل قوله ـ طوى، طغى، تزكى...

فلَعَمْري إن مثل هذا الرأي الحصيف لا يصدر إلا عن فكر ثاقب ومعرفة معمّقة باللغة وبمختلف دلالات ألفاطها ضمن مجالاتها وسياقاتها التاريخية والاِجتماعية المتنوّعة شعرا وخطابة وأمثلة وقرآنا وحديثا فيأخذ منها بالمناسب بما لديه من خبرة وتمحيص وذوق رفيع...

والشيخ محمد الطاهر بن عاشور لا يستنكف من النقد الذاتي فيراجع رأيه لينفي ما ذهب إليه سابقا ويثبت الرأي الأصح كما فعل عند تفسيره لجملة (لا تأخذه سنة ولا نوم) في آية الكرسي من سورة البقرة حيث اِستشهد ببعض الأبيات الشعرية من بينها بيت لبشار بن برد وهو:

و ليل دجوجي تنام بناته *** وأبناؤه من طوله وربائبه

 فاِستدرك الشيخ قائلا في الحاشية أنه كتب في نسخة ديوان بشار ـ هوله ـ بهاء في أوله وطبع كذلك وبدا له بعد ذلك أنه تحريف وأن الصواب ـ طوله ـ بطاء عوض الهاء لأنه المناسب لقوله تنام.

إن الشعر في ـ تفسير التحرير والتنوير ـ يمثل الرافد الأكبر والمرجع الأول مما يجعل من هذا المصنف الجليل ـ أيضا ـ  كتاب أدب باِمتياز فأُنظر إليه مثلا عند تفسيره لقوله تعالى (غضب على غضب) من الآية 90 في سورة البقرة كيف يراوح بين القرآن والشعر عندما يقول : والظاهر أن المراد بغضب على غضب الغضب الشديد على حد قوله تعالى (نور على نور) أي نور عظيم وقوله (ظلمات بعضها فوق بعض) وقول أبي الطيب: أرق على أرق ومثلي يأرق، وهذا من اِستعمال التكرير باختلاف صيغه في معنى القوة والشدة كقول الحطيئة:         

  أنت آل شماس بن لأي وإنمـا *** أتاهم بها الإحكام والحسَب العَدّ

 أي الكثير العدد أي العظيم

 وقال المعري: بني الحسب الوضاح والمفخر الجم 

أي العظيم

 

إن الشيخ محمد الطاهر بن عاشور موسوعة للثقافة العربية الإسلامية بما كتب فيها من مصنفات جليلة سواء ضمن تحقيقاته المتميزة كالتي تبدو من خلال نشره لديوان النابغة ولديوان بشار بن بُرد وقد أخرجهما من غير حذف لكلمة واحدة أو تغيير، مُراعيا الأمانة العلمية، أو من خلال تعليقاته الدقيقة وشروحاته العميقة كما في تحقيقه لكتاب ـ الواضح في مشكلات شعر المتنبي ـ وكتاب ـ قلائد العقيان ـ غير أن سماحة تفكيره وشمولية معارفه اللغوية والدينية إضافة إلى إلماعاته الشاعرية، تتجلّى بصفة أوضح في تفسيره الموسوعي الضخم ـ التحرير والتنوير ـ الذي أبحر فيه بروح من الاِنطلاق والتحرر والاِستقلالية تنمّ عن سعة اِطلاع ودقّة اِستنتاج وقُدرة على التمييز والنقد مع وجدان يرشح بالشفافية وحسّ يرفرف باللطف والجمال ممّا يجعل الشيخ محمد الطاهر بن عاشور أحد أهمّ العلامات البارزة في القرن الرابع عشر الهجري الموافق للقرن العشرين الميلادي تلك العلامات التي تؤسس لفكر رحب يقوم على الاِجتهاد والتجديد والمراجعة والتطور ليكون القرآن بحقّ تحريرا للإنسان وتنويرا للعقل والوجدان وشريعة سمحة تنشد الخير والسعادة مهما اِختلفت البلدان وتباعدت الأزمان .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1366 الثلاثاء 06/04/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم