قضايا وآراء

خالدة خليل .. البيان الشعري الجديد .. قراءة غير متأخرة في مجموعة .. شرنقة الحمى

لا بمعنى الترسيخ والشخصنة لواقع الفروض المحمولة على الطوارىء في قول ما لايلزم، لكنها تتجسد حتما ببيان التعارف المتبادل، والذي يجب أن يكون جسر تواصل حميم بين شاعرين، ولدا من رحم الموهبة الواحدة والخارجين الى دنيا الإبداع بولادة طبيعية، وتتقدم كل ذلك المعرفة القرائية المحضة على الأقل، كتعرفة حرفية أولى، وكشاهد بيان للتفاهم والفهم والكشف والإكتشاف، فالعملية الشعرية مهما تشعبت وكبرت مساحة اتساعها هي واحدة، تفصح عن كون النص يعبر عن موقف إنساني واسع، وهي عملية متكاملة العناصر تقوم على ندية ابداعية تبادلية في السلب والإيجاب، يكون الراشح منها البحث على تقييم حقيقي بعيدا عن (الأنا) وما يلتحق بها من رواسب المنفعة والمنفعة الحدية أو الندية بشكل أدق .

 

للحقيقة خالدة خليل .. هزتني بجد وجدوى حين قرأت لها أول مرة، وبقيت كالمأخوذ بالخسرانات المتلاحقة المقترنة بسرقة الزمن، الزمن الذي لا ينتظر أحدا في قطار الإبداع السريع فحزنت على ضياعي، ووجدت ذات الحزن قائما عند الشاعرة مفصحا وقادحا لأدلو بدلوي عنها.. إن ذات الحزن يتلبسني في توق حزنها ..

يا حزني..../كن كبرمودا الذي لا يأبه بالأنوا /ء واسكبني في فم الكون ألوان طيف

سأترك سفني طعما لزرقة البحر في عينيك /كيما تصطادني من أعماق المخيلة

أيها الحزن القادم من كهف الحمى /إشرخ سكون جزري /وافطم وعدي

 

 إن السرد المشعرن، يكاد أن يكون أحد علائم نصوص الشاعرة، وبصور تتشابه أوتختلف حسب ما تحشّده من رؤى وما تريد بثه كنقطة انطلاق، لذلك تجدها تطرق التقريرية أحيانا كحلقة صلة بين مترادفين أو متعاكسين يأخذ بالوصف سبيلا له ..

 

على سجادة صمت /في ارض الطوفان والحرائق /تركع أحلامي /فيما يزرع الحزن أناشيده

مثل جوقة لا تعرف الملل

ويظل التساؤل قادح الألم في بيان حزنها العميق وفي قلقها الدائم .. بأنها تبحث عن إجابات يكتنفها الشك الذي يذبحها في عدم بلوغ اليقين وهذا حال الشعر كونه يقوم على الشك صوب يقينيات يتقصاها ويقصدها ولا يبلغها إلا في شك مضارع أخر ..

 

تدثري أيتها الأوراق /تدثري /بضوئي /أشمسا أكون لأدثرك /أم قمرا يحتضن قوام الضوء

أيها الزمن /أنلعب جلادا وضحية ؟! / أو أدوارا وأقنعة ؟!

 

لنلاحظ المعادل الشعري في بوحها كيف يقترن بحيرتها المنفعلة، الحيرة المستمدة من قلق تساؤلاتها المحمومة، هي الواقعة تحت آسرات عديدة أبرزها غربتان .. غربة الروح وغربة المنفى، حيث سطرها الأخير ..

 

تقرأ سطرها الأول /تشطب سطرها الأخير /وتعلقنا على كراسة ذهول /هكذا لنبدأ من الهمزة

وننتهي عند تخوم الصفر

 

المخاطب في جل نصوص خالدة خليل، شاهدها في جاحم لوعتها، وهو مخاطب مقصود في الروح والجسد وفصيلة الدم، وما فتيء يؤرقها في أدق تفاصيل حياتها، والكتابة عنه ما يجسد حقيقة السعي في الهروب منه _ اليه، لا ضالة لها إلا الولوج في حمى شرنقة السؤال لدرجة الإيغال والإصرار في البحث عن ماهية ما وراء التسبيب في خسراناتها البائنة .. فسخراناتها تتمظهر بإشكال وصور شتى وإن تحاول لاهثة الى سبل إبطانها، لكن يبقى للجسد نصيبه الأكبر والأمثل ..

أن أكون ..يعني : /أن تكون لغة الجسد أكثر دهاءً /حيث الشعر فياغرا الخطيئة /والصمت سماد

لفاكهة الجسد

 

خلافا لما قد قرأت من دراسات عن " شرنقة الحمى" أجد أن هناك ثمة أسرار تنطوي عليه هذه المجموعة لم يتم إضاءتها بالدراسة والتقييم، .. تلك المتعلقة بمزايا شعر خالدة ابتداءا بالعنونة وما تفضي اليه، وفي ثيم النصوص، وخصائص مداميك البناء، ومقدار الشعرية التي انطوت عليها .. ناهيك عن سرائر المجموعة في تقييم جماليات المعنى، وسنأتي على ذلك في نهاية هذه القراءة .

 

إن الذي أحزنني كثيرا، بأن الحكم عليها جاء بشيء من التسطيح والتقييم العائم، وكأن من كتب عنها دار حواليها لا فيها أو أخذ ما يتسع لمدارك بحثه فهما وتقييما وترك الحبل على الغارب..

 

صحيح أن هالة الحزن طافحة وضاربة بأعماق غالبية النصوص، لكن هناك من الجمال أيضا ما يغني في تصوير رؤى الحزن ، والتعرض اليه بكثير من الإزدراء والتمرد عليه وعلى القوى الكابحة لحرية الإنسان ولو بوعي الشعر وهذا أضعف الإيمان ..

أي شريعة تبيح اغتيال شفتي /وحبيبي خلف قضبا/نالوعي المقدس

أنت يا قلب فك أزرارك /كي أحصي عدد رصاصات الغدر /كي أسدد الفواتير

إذ لم تعد تكفيني مصارف الحزن

كما أن للحلم الجميل صوته_ حلم الأنثى _ النابض من خلف قضبان الليل، فما هناك من مستحيل أمام دفق دماء هذه الإنسان الشاعرة المطاردة بالنار ..

 

تحت ترس المحال يزهر حلمي...................

لست ملاكا /يا شرنقة الحمى /بل /أنا /امرأة /من /ناااااااااااااار

ونساء /يعلقن شهواتهن أقراطا /في أذني الريح

 

نلاحظ أن لخالدة لغة خاصة تدل عليها، في معايير اختيار مفرداتها وحتى في استعاراتها التي لا تبدو جديدة أو مستحدثة، برغم محالات الإبتكار التي جاءت أقرب الى لغة السرد منها الى لغة الشعر لكنها تتقصد ذلك ربما لأيصال بثها دون تشفير، وهذا ليس عيبا بل هو كالتجريب المأمول بالسعي الجادة صوب البرهنة الراكزة ..

مم تخاف؟ / من سُكْري الهادر في فنجان عرافة / أم من ظلك النابت في /زمن مسكون بحمى الغدر،

والمخاطب هنا بائن المزايا وظاهر التعريف وهو حبيبها على الذي تصفه بأنه شاعر، لكنه ناكل على ما يبدو وغادر أيضا ..

شاعر يجيد رسمي على خزف حلم /ويعد بألواني شفاه الوهم

 

أنني أجد استعارة المرآة في كتابة الأنثى، وفي أغلب ما قرأت هي استعارة ذات حدين سلبيين في باعث التعبير عنها، في الأولى تحمل الندم على ماض ٍ بكل ما يحمله من أسى وفي الثانية رثاء ما غادر من شرخ الشباب الذي تراه دون عودة، لذلك ستظل المرآة تلاحقها أكأديبة وتدون نفسها بشيء من حمى الذاكرة السلبية

في المرآة /يحترق الظل /لم تعد تزمر في ناي القصيدة أمنية /او تفرش ألوانها /فوق وسائد انتظار

****

اما أنا /فلا املك غير عيدان /كبريتها فاسد /ربما أبيعها عند أرصفة عجز

أو أقايض بها حزنا بحزن

 

أنني ودون أدنى مبالغة أجد في مجموعتها "شرنقة الحمى" بيانا أخر جديدا في ما نسميه بالوعي الشعري المتجاوز الذي تختلف به خالدة خليل عن بنات جنسها بلغتها وهيئة كتابيتها وحتى في أدق تفاصيل المعنى، فشعر هذه الشابة يكتنز الجمال بانسيابية تدفقه بعفوية ووعي يتخارج أحيانا عما ألفناه في قصيدة النثر المصاب بعضها بالترهل والشلل ..

أجل .. خالدة خليل، بصمة جديد في قصيدة النثر، فهذه الشاعرة تبصم بالذهب على صدر الشعر، فشعرها يبعث على الإبهار والإنبهار معاً ودائما .

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1367 الاربعاء 07/04/2010)

 

 

في المثقف اليوم