قضايا وآراء

الكنيسة والاستغلال الجنسي للأطفال

تلك الأعمال التي تبين أنها امتدت على مدى ثلاثين عام (1975-2004) من عمر هذه الكنيسة والتي ارتكبها الرهبان بحق الأطفال وفق ما يعرف بـ(الخدمة الرعوية للأطفال) وتشعبت المشكلة وتوسعت بعد أن أقرت لجنة التحقيق المشكلة لهذا الغرض والتي عرفت باسم (لجنة ميرفي) في تقريرها الذي نقلته وكالة رويتر للأنباء في11/12/2009 : إن الكنيسة أخفت بشكل مبالغ فيه انتهاكات تعرض لها الأطفال، وإن جميع كبار أساقفة دبلن الذين كانوا محل مسؤولية خلال المدة التي خضعت للدراسة كانوا على علم ببعض الشكاوى لكن الأبرشية كانت تهتم بحماية سمعة الكنيسة أكثر من اهتمامها بحماية الرعاية الاجتماعية للأطفال ووجه التقرير انتقادات قوية ضد ارشيدوقية دبلن الكاثوليكية لإخفاقها في التعامل مع قساوسة اتهموا بأنهم كانوا يغتصبون أطفال الكنيسة. ووجه اللوم إلى تراث طويل من الكتمان والتغطية والإخفاء مارسه قادة تلك الكنيسة لحماية مؤسستهم.

المشكلة أن تقرير لجنة ميرفي لم يكن التقرير الوحيد من نوعه فقد سبقه بستة اشهر تقرير مماثل تحدث عن الجلد والسخرة وحفلات الاغتصاب الجماعي للأطفال في المدارس التي تديرها الكنيسة الايرلندية خلال القرن العشرين. وقد رافق ذلك حديث عن وجود حالات اعتداء شاذ على الأطفال من الجنسين لما يزيد على خمسين عاما.

وقد سارع الفاتيكان بعد صدور التقرير لاحتواء الأزمة وقال كبير أساقفة دبلن (ديارمويد مارتن) بعد أن عقد هو وزعماء الكنيسة الايرلندية اجتماعا طارئا مع البابا: اعتقد أننا نتطلع إلى إعادة تنظيم كبيرة جدا للكنيسة في ايرلندا وان البابا سيكتب إلى الشعب الايرلندي بخصوص ألازمة وخطة العمل المقررة .

 كما أن البابا بنديكت عبر في بيانه الفاتيكاني عن مشاعر الغضب والخيانة والعار  إزاء تعرض الأطفال لاعتداءات جنسية على يد الكهنة في ايرلندا. وقال انه يشارك الكثير من المؤمنين في ايرلندا الشعور بالغضب والخيانة والعار ويشاركهم الصلاة في هذا الوقت العصيب في حياة الكنيسة.وعبر عن أسفه العميق إزاء أفعال بعض أفراد الكهنوت الذين خانوا وعودهم المقدسة للرب بالإضافة إلى خيانة الثقة التي منحها لهم الضحايا وعائلاتهم والمجتمع عامة.

المشكلة لم تقف عند  هذه النقطة بل تطورت حتى بعد الاعتذار الرسمي الذي قدمه البابا حيث شكل ذووا الضحايا والضحايا القدماء أنفسهم جمعيات للدفاع عن حقوق المتضررين منها واحدة برئاسة (مايف لويس) وهو احد الضحايا القدماء تعرف باسم (واحد من بين كل أربعة) للتدليل على أن واحدا من بين كل أربعة أطفال تعرض للاعتداء، وأخرى برئاسة (جون كيلي) الذي هو الآخر أحد ضحيا اعتداءات الكهنة وطبعا تبين من رسالة البابا أن الكنيسة الايرلندية مارست الاعتداء الجنسي ضد الأطفال عقودا طويلة وليس في المدة التي حددها تقرير اللجان المعنية ولذا يرى المعارضون والمنتقدون أن رسالة البابا جاءت دون طموح الضحايا لأنه اكتفى بالقول: لقد عانيتم كثيرا وأنا آسف حقا وان الكهنة ورجال الدين المتهمين بالاعتداءات على الأطفال يجب أن يحاكموا على جرائمهم أمام محاكم يتم تشكيلها بصورة مناسبة. لأنه تمت خيانة الثقة، وانتهاك الكرامة.

هذا وقد أعلن البابا أن الفاتيكان سيتدخل مباشرة لاستعادة الثقة، وسيجري تحقيقا رسميا في الأبرشيات الأيرلندية من أجل استعادة الاسم الجيد للكنيسة الأيرلندية.

يلاحظ هنا أن المتضررين وأطرافا أخرى يعتقدون أن البابا كان متهاونا في موقفه تجاه الاعتداءات الجنسية منذ الثمانينات حيث قال محرر البي بي سي للشؤون الدينية: أن (يوزف راتيسنجر) أسقف ميونيخ الذي أصبح لاحقا البابا، لزم دائما مبدأ الصمت ووافق في 1980 على نقل كاهن اعتدى جنسيا على أطفال، إلى أبرشيته للخضوع للعلاج. ومع ذلك واصل هذا الكاهن انتهاكاته إلى أن تمت إدانته بتهمة التحرش الجنسي بأطفال والحكم عليه في حزيران عام 1986 بالسجن لمدة ثمانية عشر شهرا مع وقف التنفيذ.

وهو الموضوع الذي قال عنه خبير آخر في شؤون الفاتيكان هو (جون ألين) من (ناشونال كاثوليك ريبورتر) في محضر دفاعه عن البابا: إن البابا (بنديكتوس السادس عشر) انكب على الملف بعد توليه منصبه من خلال سحب الأب (ماسييل) المتهم بارتكاب اعتداءات جنسية والذي كان ملفه قد ظل مهملا لسنوات في الفاتيكان.

وفي سياق الاعتراف عن الجرائم كان احد الكهنة قد اعترف بالاعتداء على أكثر من 100 طفل. واعترف كاهن آخر انه مارس الاعتداء على الأطفال بمعدل كل أسبوعين لمدة 25 عاما. واعترف تشارلز سيكلونا مسئول الفاتيكان المكلف بملاحقة الكهنة الذين ارتكبوا جرائم جنسية خطيرة أنه منذ عام 2001 ورد حوالي 3000 تقرير من قبل المسئولين في الفاتيكان يتهمون فيها كهنة بالاعتداء على الأطفال.وتضمنت هذه التقارير تجاوزات من قبل كهنة الأبرشية، والكهنة العاديين وبعض التجاوزات التي ارتكبت على مدى السنوات الخمسين الماضية.وأضاف يمكننا القول إن حوالي 60 ? من الحالات كانت لأشخاص من نفس الجنس و30 % خاصة بعلاقات بين الجنسين، أما النسبة المتبقية وهي 10 ? فكانت مرتبطة بحالات الانجذاب الجنسي نحو الأطفال قبل سن البلوغ.

ويرى المنتقدون والمعارضون للرسالة البابوية وموقف البابا والكنيسة:

1.   أن الرسالة البابوية هي أول وثيقة للكنيسة حول الاستغلال الجنسي للأطفال، يوقعها البابا الذي أنهى في السنوات الأخيرة الصمت عن هذه الجرائم.

2.   كما أن تحرك البابا جاء بعد تراجع مرتادي الكنيسة والمؤمنين بها في أنحاء أوروبا، وتقلص عدد الساعين للتحول إلى الرهبنة مما جعل مستقبل الكنيسة معلقا بالميزان.

3.   وأن تحرك البابا لم يكن بدافع الحرص على الأطفال والأخلاق العامة للمجتمع المسيحي وإنما جاء بسبب الخسائر المالية التي سببتها هذه الاعتداءات حيث اضطرت الكنيسة الأمريكية في عام 2008 إلى دفع تعويضات للضحايا تقدر بأكثر من 436 مليون دولار. حيث تبين أنه تم لحد الآن تعويض 15 ألف ضحية ولا يعرف عدد الضحايا الذين ينتظرون دورهم بالتعويض

4.   وجاء تحرك البابا لأن هذه الفضيحة أثرت سلبيا وبقوة على سمعة الكنيسة الكاثوليكية في العالم.

5.   وهو لم يتناول جوهر مشكلة الفضيحة الجنسية التي تعاني منها الكنيسة الكاثوليكية والمتمثل بوجود حماية منهجية على أعلى مستويات للمتورطين بهذه الاعتداءات وبالتالي تعريض مزيد من الأطفال لهذه المخاطر.

6.   إن رسالة البابا لا تتحدث عن تبني الكنيسة لسياسة جديدة في هذا الشأن.

كما قال(جون كيلي)  رئيس جماعة  مدافعة عن الضحايا والذي كان هو نفسه ضحية لاعتداء جنسي كهني: إن رسالة اعتذار البابا تركت العديد من الأسئلة دون أجوبة مثل هل سيقوم المتورطون بهذه الاعتداءات والذين تستروا عليهم بتسليم أنفسهم للشرطة للتحقيق معهم ومواجهة الإجراءات القانونية؟.كما انتقدت هذه الأوساط عدم دعوة البابا لرئيس الكنيسة الكاثوليكية في ايرلندا للاستقالة وعدم الاعتراف بمسؤولية الفاتيكان عن هذه الانتهاكات.والظاهر أن تكرار الاعتداءات في كنائس دول أخرى كان محفزا للمعارضين حيث أفادت تقارير جديدة أن البابا تستر على قس أمريكي اعتدى جنسيا على عدد من الأطفال الذين كانوا في عهدته،  ونقلت صحيفة نيويورك تايمز عن وثائق للكنيسة حصلت عليها إن القس المذكور اعتدى جنسيا على حوالي 200 طفل يعانون من الصمم. ولذا ترى أن المعارضين وتقرير لجنة ميرفي كلاهما يتهمان الكنيسة الايرلندية بتجاهل مصالح الأطفال الموضوعين تحت رعايتها والذين تعرضوا لتلك الإساءات، وعملوا على إبقاء الفضيحة بعيدا عن أعين الشرطة.

من جانب آخر يرى المناصرون لموقف البابا  أنه منذ فضائح الاعتداء الجنسي على الأطفال خلال العقد الأخير في الكنيسة الأمريكية دأب البابا على التنديد بما أطلق عليه (الجرائم الشنيعة) وقال (ماركو بوليتي) المحلل الخبير في شؤون الفاتيكان انه خلال السنوات الـ15 الماضية حدث نوع من الثورة الكبيرة داخل الكنيسة. لعقود كانت الكنيسة تخفي الأمر لأن هدفها الرئيسي كان الدفاع عن مقام المؤسسة، اليوم أصبح البابا نفسه يشجع على فضحها.

وقال المتحدث باسم الفاتيكان فيديريكو لومباردي إن هناك جهودا عدوانية تهدف لتوريط البابا في القضية ومن الواضح أن هذه المحاولات قد باءت بالفشل.ومن جانب آخر صرح المدعي العام للكرسي الرسولي لراديو الفاتيكان إن اتهام البابا الحالي بالتستر على حالات الاعتداء باطل وأن الاتهامات الموجهة للبابا بالتستر على الكهنة كانت بغرض التشهير وهناك من يحاول بطريقة عدوانية في ريجينسبرج وميونيخ البحث عن طرق تورط البابا بطريقة شخصية في قضية التجاوزات. كما صرح (تشارلز سيكلونا) مسئول الفاتيكان المكلف بملاحقة الكهنة الذين ارتكبوا جرائم جنسية خطيرة لصحيفة لافينيري الإيطالية إن  الاتهامات بأن البابا قد ساعد في تغطية الاعتداء الجنسية "كذب وافتراء لان البابا تعامل بحكمة وحزم مع حالات الاعتداء عندما كان رئيسا للقسم المسئول عن الانضباط في الكنيسة لمجمع عقيدة الإيمان لمدة أربع سنوات قبل أن يصبح بابا للفاتيكان.وحول الاتهامات الموجهة للفاتيكان بعرقلة سير العدالة عن طريق إخفاء تقارير عن اعتداءات جنسية أكد أن الكنيسة خلال مرحلة التحقيق عملت على حماية السمعة الجيدة لجميع الأشخاص المعنيين وأولهم الضحايا أنفسهم، ثم الكهنة المتهمين الذين لديهم الحق المكفول للجميع بالدفع ببراءتهم حتى تثبت إدانتهم . بل أن البي بي سي يوم 4/4  نشرت موضوعا جاء فيه أن كبير واعظي الفاتيكان (رانيرو كانتالاميسا) ألقى اللوم على الضحايا أنفسهم أو على لجان الدفاع عن الضحايا وفي هذا اكبر دليل على استمرار العمل بمبدأ حماية الكنيسة أولا وعدم الاهتمام بأوجاع الأطفال وباقي المتضريين الآخرين

الجدير بالذكر هنا أننا لا نتحدث عن حالات اعتداء أحادية متفرقة شاذة بل نتحدث عن منهجية ثابتة لدى رجال الكنيسة كانت ولا زالت فاشية بين القساوسة والكهنة عبر التاريخ بما فيها حالات الاغتصاب الجماعي، وكانت الكنيسة الكاثوليكية الايرلندية قد اعترفت في تقرير صدر عنها بأنها تكتمت على إساءات جنسية قام بها القساوسة ضد الأطفال لعقود طويلة  مما يعني أن هناك أجيالا من الأطفال نشأوا وترعرعوا على هذا المنهج الخاطيء بما يجعلهم ينكفئون عن الدين ويبتعدون عن الكنيسة ويتحولون بالتالي إلى دعاة لعبادة الشيطان أو لاعتناق الأديان الشركية الأخرى مع حقد متزايد على كل ما هو ديني حتى بالنسبة للأديان الأخرى ومنها الإسلام ولاسيما أن حالات الاعتداء شملت أغلب الكنائس في الدول الغربية بما فيها أمريكا وألمانيا وإيطاليا وفرنسا وأستراليا وباقي الدول الأخرى، ويقول المختصون: لقد جاءت رسالة البابا بعد تكرار مثل هذه الفضائح الجنسية في عدد من الدول منها ألمانيا التي جاء منها البابا. وكان الأسقف (روبرت تسوليتش) رئيس المؤتمر الأسقفي الألماني قد اعتذر عقب لقاءه بالبابا للضحايا الذين تعرضوا في الكنائس الألمانية للتحرش الجنسي وقال أنه تم تعيين أسقف مرجعي خاص لقضايا التجاوزات الجنسية بحق القاصرين داخل الكنيسة وإقامة مركز لتنسيق التحقيقات الخاصة بحالات التحرش الجنسي.

إن مجرد إنشاء هذا المركز وتعيين أسقف مرجعي خاص لقضايا التجاوزات الجنسية بحق القاصرين يؤكد أن العمل بهذه الخطيئة لا زال متفشيا في الكنائس الغربية، وأن المسألة أكبر مما يصورها الفاتيكان بكثير، وأنها تدل على وجود منهجية كنسية خاطئة تحتاج إلى علاج جذري، ومسيرة كهنوتية خاطئة تحتاج إلى التصحيح، وأديان باتت تحتضر وتحتاج إلى دعم المؤمنين بها أكثر من حاجتها للقائمين على إدارة شؤونها.

فقط أجد أن هناك إشارة خطيرة يجب عدم إغفالها وهي أن في الأديان الأخرى ممارسات تشبه ممارسات الكهنة، والمتسببون بها لا يقلون خبثا عن الكهنة المتورطين في جرائم الاعتداء الجنسي على الأطفال، فقد أوردت البي بي سي يوم 2/1/2010  خبرا مفاده أن الشرطة الأسبانية ألقت القبض على (إمام مسلم) بشبهة الاعتداء جنسيا على فتيات كن يحضرن دروسه الدينية، حسبما أعلنت شرطة مقاطعة كرتاخينا التابعة لإقليم مرسية جنوب شرقي أسبانيا. وذكرت وكالة الأنباء الفرنسية نقلا عن قائد شرطة كرتاخينا (رفاييل كونثاليس توبار) أن (الإمام) المعتقل سوف يخضع للاستنطاق .وذكرت التقارير أن خمس فتيات كن يحضرن الدروس الدينية في مسجد الغار الذي افتتح قبل سنة، اتهمن (الإمام) البالغ من العمر 48 سنة بمحاولة الاعتداء عليهن جنسيا.وقد حاول (الإمام) الذي وصل من المغرب في شهر أيلول من العام الماضي، الفرار لأنه علم بأنه متابع حسبما نقلت وسائل الإعلام الأسبانية المحلية عن (محمد رضا القاضي) أمين سر اتحاد الجماعات الإسلامية في أسبانيا.

ولذا أرى أن الأديان في جوهرها وعقيدتها ليست مسئولة عن هذه الجرائم القذرة سواء كان مرتكبها مسلما أم مسيحيا، بل إن بعض القائمين على إدارة شؤون المؤسسات الدينية هم المذنبون لأنهم لم يضعوا قواعد مهنية للعمل الديني واستنبطوا مناهج معتقدية فيها الكثير من البعد عن جوهر الأديان ومنها مثلا ما موجود في النهج الكنسي من حرمان الكهنة من الزواج وإقامة أسر وما موجود في أغلب مفاصل العمل التبليغي  الديني فيما يخص الاستهانة بمسألة انتقاء الأجدر والأفضل والأكثر إيمانا لإدارة شؤون التبليغ الديني والمؤسسات الدينية، وعدم وضع مراقبة محايدة على أداء المشرفين على عمل المؤسسات والذين يحملون في أغلب الأحيان رسالة شخصية للكسب المادي والمعنوي أكثر منها رسالة إيمان حقيقي، وهم بالتالي لا يهمهم نوع الضرر الذي يصيب العقيدة ومعتنقيها، ونوع الضرر الذي يلحق بالمجتمع الإنساني من سوء هذا الأداء.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1372 الاثنين 12/04/2010)

 

 

في المثقف اليوم