قضايا وآراء

الشعر في أبالاتشيا (2): بعد الحرب العالمية الثانية

التي تشترك مع غيرها بنفس النغمة الوجدانية الحزينة، وبالأخص أنها ابنة لعامل مناجم أصيب بالإحباط الاجتماعي وبداء عضال من جراء ظروف العمل في ظروف مهنية قاسية . لقد تحولت القصائد مع أربوغاست من مجرد أنشودة تمدح الطبيعة إلى ترنيمة بصوت حزين ومفجوع لرثاء الأحبة الذين رحلوا وللتفجع على موت الأشياء . وكانت في نفس الوقت تدمج هذه الرؤية الرومنسية للطبيعة والعالم مع موقف سريالي من الماضي. فالفترات المنصرمة بنظرها هي المخزن الذي لا ينتهي لجميع مشاعر الحب الصادق : العالم بجميع أعراقه وأجناسه، والطبيعة باعتبار أنها صورة تعكس الإرادة العامة وصدامها مع الرغبات. إن الطبيعة في الحفنة المحدودة من قصائد كريستال (كما ورد في مقالة لكينير بيكلي) لا تدل على مكان فقط ولكن على ذهن. فهي منطقة تمثل الصراع اليومي بين الأمل بما يمتد وراء المرتفعات الصخرية والواقع الذي يعصف بالمنحدرات والأودية حينما تكون خطوط الأفق مضغوطة جدا وقصيرة. وهذا العمى الوجودي هو على الأرجح الثيمة – الموضوع . وحينما ننظر إلى الخلف من نقطة الذروة في القصيدة لا نرى غير المشاهد العامة، الأحداث الجسيمة سواء لدائرة الخير أو الشر. وكلما أمعنا النظر من خلال هذه الخبرات نكون على الأرجح غير قادرين على التعريف بالحدود، ولا نقاط البداية والنهاية، ولا حتى معناها.

و يبدو أن كريستال كانت بمثابة عزف منفرد. ولم تنضم إلى جوقة ولا إلى طاقم أبلاشيا، باستثناء نقطة واحدة، وهي النظر إلى دورة الحياة العادية بمنطق الأساطير.

ومن هذه النقطة تبدأ رحلة المصاعب لماغي أندرسون، فهي من مواليد مدينة نيويورك، وضمن إطار شعراء أبالاشيا، وتركز في جميع موضوعات قصائدها على هذه المفارقة. إنها لا تعتمد على خبراتها مع الدوائر المجتمعانية لبلاد لها عدة وجوه واتجاهات، ولكن على الأثر، أو المتبقي الذي تتركه المعركة غير المتكافئة مع المخاطر . وهذا يحول كائناتها، سواء الأشخاص والأشياء، إلى نوع من الانطباعات غير اللطيفة والقارسة، وإلى ظلال مجسمة عن حقائق هي على الخط الساخن، أو عند ما يسمى بحدود ثقافة الرعب والشك. بعبارة أخرى : إنها تحول سيرتها الشخصية إلى حديقة جرداء، ولا تزهر فيها غير بذور الشر والندم، وأفكار مخيلة مصدومة بدواليب الحداثة وقوانين مجتمع رأسمالي . وعلى الأغلب تقدم لنا حساسية شعرية متبدلة، من أهم شعائرها وطقوسها : أبطال مهزومون، وليست لديهم قناعات بالتاريخ، بالإضافة إلى قائمة طويلة من الممنوعات وعلى رأسها الحب والإخلاص والمشاركة. أندرسون هي ضمير العالم المعاصر الذي يبتكر أسلحة الدمار الشامل، ولذلك تميل ألوان المشاهد التي ترسمها بالكلمات إلى الطرف الحالك والضبابي وغير الواضح.  

ولا بد لنا من الإشارة، أيضا، إلى الشاعر شارلز رايت الحائز على البوليتزر وجائزة الكتاب الوطنية، فهو ابن أبلاشيا البار بالولادة وبالفطرة وبالثقافة. كان رايت منذ البداية شاعرا سرديا يهتم بالجوانب الروحية لتطور الفن والإنسان، وهذا مهد له الطريق ليتحول من مجرد كاتب قصائد محترف إلى أسطورة فنية مشهورة. وفي السنوات الأخيرة بدأ يقترب شيئا فشيئا من تفاصيل العالم التجريبي، ومن الاهتمام بالآلام الشخصية بما في ذلك سيرة حياته، وأوضاع مسقط رأسه، وشبكة العلاقات الإنسانية لمجتمع محلي متأزم يعذبه الغياب والرحيل والموت، وما إلى ذلك.

لقد ركز رايت في نتاجه المتأخر على العلاقة الضمنية بين الشاعر والبيئة. وكما ذكر الناقد الأدبي جورج غارنيت: إنه حاليا يرتب قصائده بأسلوب معقد يعكس قابلية العالم والروح للانكسار والعزلة. ويعتمد لتحقيق ذلك على تراكيب ذهنية ليس لديها منافذ للنجاة أو الخلاص. وتعمد أيضا أن يدمج بشكل غامض ومبطن التراث المتمرد لوالت ويتمان مع تقاليد إميلي ديكنسون .

لقد كانت هناك عدة فواصل بين طبقات الشعراء في أبلاشيا، أهمها الفروق في التراكيب والصياغة . وكلما ابتعدنا عن القرن العشرين سوف نلاحظ العلاقة العضوية بين الشاعر والبيئة. إن الشاعر في النهاية هو ابن بيئته. لذلك تميل القصيدة الطليعية للتخلص من الغنائية بشكل مباشر وللدخول في دائرة من الظلام وأحلام اليقظة والتخبط، وإلى التعبير عن الخبرات النفسية ليوم عمل طويل وشاق وكئيب بما أمكن من التكاتف مع الأسلوب وباختصار.

لقد اختصر شعر أبناء هذا الحزام الجغرافي من الولايات المتحدة كل الخطوط الأساسية لفن الشعر الحديث وهي:

1 - البحث عن مصادر النور والحرية والعدالة والتي تركزت بؤرتها بين أبناء الطبقة السوداء، ولا سيما الذين كانوا يرتبطون عاطفيا بحركة التحرر من الرق .

2 - ثم الاعتزاز بالماضي والتعلق بالأرض ولا سيما شعراء السكان الأصليين .

3 - وبعد ذلك الأصوات التي تعزف على وتر التحديث وإعادة بناء أمريكا المعاصرة ولا سيما من لهم أصول أنغلو - ساكسونية.

و لكن يجب التنويه أن مثل هذه الفروقات قد انصهرت بعد الحرب العالمية الثانية في بوتقة حضارية واحدة للتعبير عن إرادة فنية تتشابه وتعكس الوجه الجديد لأمريكا مع التركيز على الهم الفني والحضاري العام. 

إجمالا، لم يكن هناك بد لشعراء أبلاشيا " المتحدة " من كسر ثمرة البندق للتوصل إلى جوهر وحكمة الحياة ومشاكل ثم هموم المرحلة الراهنة.

 

المختارات الشعرية

- كريستال أربوغاست

Crystal Arbogast 

 

1 - ذكريات

أقص أثر الطريق الذي يمتد من هنا إلى هناك

سهول "" ميدويست " المنبسطة، الآن هضاب لطيفة خضراء

ثم ساحات لصلبان بيض

هذا " يسوع مخلصنا "

و سديم مشرق يلقي التحية وأنا أشق الطريق

في دروب ملتوية، تصعد نحو سفوح الهضاب، في النهاية منصة

تقف هناك، وحدها

و أرجوحة فارغة في الخلف، ذكرى

عن ضغط الألم والعزلة

القبعة لا زالت معلقة قرب الباب

و الساعة تزحف بخطوات لها إيقاع منسجم كالوقت

و دائما، بسكويت وطعام طيب

و حوار من

لحظات دامعة

ربما أتخلص من صمت الذكريات

و من صدى ضحكاته

ها أنا أحمل القهوة إلى المنصة

و أجلس في مقعده.

 

2 - ذكر?ات لا أستط?ع أن أتخطا?ا

بنت بعمر ست سنوات تبكي و?ي تمد ?د?ا

و المعلمة تضرب?ا بالمسطرة

شذا الشوكولا في الصالون ح?نما ?صبون? بالمغرفة

من أجل الذ?ن لم ?تغ?بوا أبدا

ابن عمي كارل ?صرخ عبر الجدول في وج? الل?ل

و والده ?ستلقي م?تا ب?ن أذرع الجدة

و بعد سنوات، كارل ?غرق في الن?ر

في محاولة لإنقاذ أعز صديق لديه

تسوّق الوالد?ن في أع?اد الم?لاد والأولاد في الس?ارة

?راقبون?ما ?فحصان ال?دا?ا والوالد ?عد ما لد?? من نقود

ثم يعود إلى المخزن

و يشتري لي الدمية التي طلبتها

كلاب الحراسة تنطلق وراء قوارض أمر?كا

المختبئة في جذوع جوفاء

و الب?جة المرسومة على وجوه الرجال

ح?ن الافتراس

إوزة كند?ة محاصرة في ت?ار من ?واء الأتوستراد

و أجنحت?ا الضخمة ترفرف

و تسقط على أرض الطر?ق

ثم تتلاشى تحت عجلات الس?ارات.  

 

-     ماغي أندرسون

Maggie Anderson

 

1 - الأنطولوجي

هذا سوف يكلفك غاليا.

لو رغبت حقا بالإصغاء

لهمسات البلاد، يجب أن تصيخي السمع

جيدا، بمستوى صوت الخيط والإبرة .

لا يمكن أن تهربي هكذا.

كل شيء مفصّل بالحنين.

لو أنك تسيرين وراء صافرة قطار ما،

لا يمكن أن تتعلقي بأي شيء بهذه الطريقة.

و حينما تبحثين عما فقدته

كل شيء هو علامة.

و لكن يجب أن تكوني جاهزة عند الكلمة

التالية لتسحبي الشيء

الذي كنت ترغبين به، عليك أن

تمتلكيه، وليس بمقدورك أن تعيشي من غيره.

عزيزتي، سوف تفقدين جمالك

و وسامتك الأنيقة، هذا الأنين،

هذا الغضب، الشخص الذي أرسلت من أجله

ببوطك الجلدي وغيتارك.

المصاعب الوحيدة من الأسلاك الشائكة التي

تربطينها حول قلبك هي النقود الورقية.

يا عزيزتي، يجب عليك أن تسددي فاتورة الحساب.

 

- شارلز رايت

Charles Wright

 

1 - المساء هادئ، والفجر بعيد بمقدار ألف ميل

تهبط الأفراس إلى طعام المساء

باتجاه المروج المعشبة.

و أشجار صنوبر تميل مع رياح لا نراها.

بعضها يترنح، وبعضها لا يترنح.

و قلب العالم منبسط ومفتوح، ويتسرب، ويدق بخيوط من أشعة الشمس

لدقيقة أو ما شابه.

الأفراس تطمر رؤوسها في الأرض.

و الأشجار تطمر رؤوسها في السماء الزرقاء.

غرابان يدوران ويبرمان.

و على تخوم الفردوس يتدفق النهر بمياه نقية للحظة قصيرة أخرى.

 

 2 - عودة الإبهام

الآن يصل إلينا الصيف، المياه صافية، والغيوم ثقيلة وتبكي .

الأعشاب الطويلة لها عروق من الفضة.

و بركة صغيرة من خيوط الشمس تتجمع

في أماكن منخفضة بعيدا في الغابات.

و نبات الترمس وأوراق الشيطان (1) تجلس في أوكار الأعشاب الغريبة،

و الصنوبر مثل صدأ منقوش على سفوح الجبال.

لا يوجد ضوء على الخط الفاصل بين الأشياء.

و أبراج الحظ تدور في السماء،

و تخطط لهجوم مزيف في برج التوأم.

 

3 – نهاية صغيرة

الأطباق العميقة تستقبلنا،

و ترمي في عيوننا ذرات من خدوش سوداء.

فيما بعد، عند الشوكة الكبيرة في طريق لا يمكن أن نلمسه،

لا يكون مهما إلى أين وصلنا.

نحن لا نحمل الصلوات، ونحن لا نحمل أي ملحقات،

و شخص ما سيقبض على أيدينا،

و شخص آخر سيقدم لنا المأوى،

لندور نحو اليسار وندور نحو اليمين.

 

هوامش:

1 – أوراق الشيطان : نوع من الأعشاب الضارة والطفيلية التي تعرف بعدة أسماء منها عشبة الشياطين، العشبة الهندية، عفن التين، وغير ذلك..

 

المصدر:

رسائل شخصية متبادلة بين الشاعرة  Crystal Arbogast وصالح الرزوق بتاريخ 10 نيسان 2010 وما بعد .

 

سوريا – حلب / الولايات المتحدة الأمريكية – سانت شارلز

2010

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1376 الجمعة 16/04/2010)

 

 

في المثقف اليوم