قضايا وآراء

مبدأية الفن .. قراءة نقدية في تجربة جبار مجبل

سأستعين بما علق بذاكرتي من مشاهدات لأعماله قبل أنقطاع مواكبتي لتطوّر تجربته، وأعتبرها مادتي الرئيسية التي سأعتمدها في قراءتي التحليلية  السريعة لفنه .

ينتمي الفنان جبار مجبل الى الجيل الذي أعقب مباشرة الجيل الأكاديمي الذهبي المتمثّل بصلاح جياد وفيصل لعيبي ووليد شيت ونعمان هادي، ويعتبر مع فناني دفعته محمد فرادي وناظم حامد وحسام عبد المحسن وآخرين، من الصفوة النادرة التي تتلمذت على يد الرائد الكبير فائق حسن، حيث ورثت عنه القدرة الأكاديمية الفائقة، والبراعة في التحكّم بنسب الكتل والفراغات وتوزيع بقع الظل والضوء وبما يحقٌّق أعمالاً متوازنة ومدروسة بإتقان .

فهو بالأضافة الى كونه فناناً أكاديمياً من الطراز الأّول، إلاّ إنه ذهب بعيداً في مهارته لأقتناص الأشكال المعاصرة العصيّة واللحظات القلقة الهاربة التي غالباً ما تمرق مسرعة من أمام مخيّلة المبدع، وأستطاع فرض شخصيّته المستقلّة على قماش اللوحة لينتج عملاً ذو طابع خاص به، وهذا لعمري من أهم ما يطمع إليه الفنان .

إن أهم ما يميّز جبار مجبل عن سواه هو براعته في التخطيط الحر و ولعلّ إشتغاله كرسّام في الصحافة ردحا طويلاً من الزمن، مكّنه من إستيعاب لغة الخطوط وفك ألغازها وطلاسمها، لتصبح طوع يديه، يعبث بها كما يشاء، ينشأ منها حيوات وهياكل وأبدان تارة ويطيح بأبراجها تارة اخرى، فهو حتى في أعماله المنفّذة بالألوان، يسحب الرائي الى منطقة الأعتقاد بأن هذه الأعمال ما هي الاّ كتل بؤريّة وليدة شرنقة كثيفة من الخطوط تتوزّع بشكل مدروس على فضاءات كالتي تحيط بالنصب والتماثيل العامة ... وبأعتقادي إن مجبل يؤسّس أعماله على (إسكيتشات) أوليّة، وليس كما يفعل الكثير من الفنانين انصاف الموهوبين حين يمسكون بفرشاتهم ويشرعون بضرباتهم الأولى والتي ستقودهم بالتالي الى إعتماد الملامح التي ستظهر لاحقاً ليؤسّسوا عليها بقية العمل .. إن مجبل يواجه القماشة البيضاء بشجاعة ودراية وكأن ما سيضعه عليها مرسوم في ذاكرته أولا وعلى ورقة صغيرة تمثّل (إسكيتشاً) تمهيديّاً ثانياً .

إن التربية الفنيّة الأكاديمية التي نشأ عليها ومهارته في النقل الحكائي لمفردات الواقع المرئي وإعتماد التشخيص المختزل كمفردة أساسيّة في اعماله، جعلت حتى اعماله الحداثوية المعاصرة التي تبدو وكأنها تنتمي الى الأعمال التجريديّة المحضة، تشعرنا بأن هناك شخوصاً وكائنات متمرّدة تنبض بالحياة مقيدّة بأغلال التكوينات الكتلية التي غالباً ما تبدو غائمة ورمادية السحنة، لكنّها تحاول الفكاك من أسرها بعناد .

إن جبار مجبل  فنان ملتزم .. هو إبن الحدث .. ذاكرته مرآة تعكس ما يمور ويتفاعل حتى في الزوايا المعتمة من قاع مدينته التي أدمتها الحروب وترسّخت في وعيها السلبي ثقافة الموت والقتل المجاني، إذ لا أذكرُ إنّني قد شاهدتُ لوحة لمجبل ذات ألوان حارة وصاخبة، وهذا يدلّ على أمانته في تجسيد واقعنا المأساوي الذي أمتد لأكثر من أربعة عقود مريرة مطفأة الألوان .

لقد شكّل جبار مجبل ومحمد فرادي ثنائياً جميلاً  طيلة الفترة التي قضياها معاً بالعراق، وقد أقاما أكثر من معرض مشترك، فهما يقتربان من بعضهما كثيراً، فكلاهما مبدأي يحمل هموم وطنه وناسه، وكلاهما ينظر للحياة من نفس الزاوية، حتى اقتربا كثيراً في ألوانهما ورؤاهما، فأصبح لا يذكر جبار مجبل حتى يذكر فرادي وبالعكس، لكنهّما ثنائيّاً واعياً وليس تماثلياً تقليدياً مكرّراً .

أخيراً ... سيبقى جبار مجبل خارج التوصيفات النقديّة المحدّدة، فهو طائرٌ سابحٌ في سماوات التشكيل، لا تكلُّ جناحاه ولا تهبطان للوهاد، وستظل عيناه لا ترى سوى الأعالي من أجواء الفن السامية .

 

[email protected]

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1377 السبت 17/04/2010)

 

 

في المثقف اليوم