قضايا وآراء

معروف الرّصافي..النصّ الآخر

والقصيدة مهما كانت جيدة وقوية فهي تخون الحالة الشعرية والشاعر في كلّ مرة يسأل نفسه ونصه الشعري بين يديه يكاد ينكره..أهذا الذي كان يعتمل في صدري ويسكن العظام؟!

 

لعله قبس منه أو غيض من فيض لا يرضى عنه تمام الرضى وإنما يقبل به بلاغا لما هو أفضل وعربونا للقصيدة القصيدة.

وهكذا دواليك حتى يأتيه اليقين..وقد يجد الشاعر في النثر حرية وانطلاقا لا يجدهما في الشعر.. فلا يسهر باحثا عن شوارد القوافي وإنما يطلق لقلمه العنان متأملا باحثا محللا طارحا الأسئلة بأسلوب لا يخلو من التشويق والطرافة والتركيز والعمق ولعله لا يخلو من الشّعريّة على اعتبار أنها لم تعد حكرا على الشعر وصارت قاسما مشتركا بين سائر الفنون رسما ورواية وموسيقى وسينما..وهو ما يجعل الأعمال النثرية تجد طريقها وتتبوأ مكانتها ضمن أعمال كبار الشعراء شرقا وغربا وتجد إقبالا لا يقل عن الأعمال الشعرية بل لعلها أحيانا تصبح مفتاحا لمغاليقها ودليلا لغوامض معانيها وتأريخا لحياة الشاعر وتطوّره والأحداث التي أثرت فيه والمحطات المهمة التي تميّز مسيرته حتى تغدو بمثابة المرسم الذي يشتغل فيه الرسام التشكيلي..وإذا أردت أن تفهم فنانا فانظر إلى الأجواء التي يعمل فيها..هناك مكمن السرّ وهناك العلبة السوداء..

 

خلّف الشاعر معروف الرّصافي إلى جانب ديوانه الضخم الذي طبع زهاء عشر مرات ومؤلفاته المطبوعة الأخرى عددا من الكتب المخطوطة التي لم يكتب لها أن ترى النور ولم يطلع عليها سوى نفر قليل من أصدقائه ومحبيه ومريديه ولعل بعضها سينتظر مدة طويلة حتى يجد طريقه إلى النشر فيخرج للناس.

ولعل أهم مؤلفات الرّصافي المخطوطة وأخطرها كتابه:«الشخصية المحمدية أو حل اللغز المقدس»وهو بحث تحليلي لشخصية الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كان حصيلة دراسة طويلة وعميقة لكتب السيرة النبوية، وفيه كثير من النظرات الجديدة والآراء الجريئة، كتبه خلال إقامته في الفلوجة بين سنتي 1933 و1941 (أصدرته منشورات الجمل بألمانيا) ومن أطرف ما كتب الرّصافي وبقي مخطوطا ضمن أعماله المجهولة التي لم تنشر مقال تحت عنوان:«الموسيقى الآلية والصوتية» جاء فيه ما يلي:«وأحسن ما سمعته من الموسيقى الصوتية (بعد استثناء أم كلثوم طبعا) الأغاني التونسية التي سمعتها من المحطة القومية في تونس فإنها بلهجتها المطبوعة العربية الخالصة تمثل روحا عربية ناصعة وهي مع ذلك جد رائعة وهكذا يجب أن تمثل الموسيقى لسامعها روح أمتها بكل معانيها المعلومة».

ومقال آخر تحت عنوان:«الموت والحياة» وقد وردت فيه هذه الأسطر:«هما وليدان شقيقان لأب واحد وأم واحدة... أما الحياة فنعمة من الله سابغة وهي أم العجائب كلها وأعجب ما فيها أن صاحبها يتحمل لأجلها من المشاق ما يطاق وما لا يطاق وإنها محجوبة وهي مكشوفة، ومحبوبة وهي غير معروفة، إذا وزنت آلامها بلذاتها رجحت الأولى وخفّت الثانية غير أن صاحبها يفتدي أقل لذة منها باحتمال ألف من آلامها وأما الموت فهو رحمة من الله واسعة ..».

هذه عينة من الأعمال النثرية المجهولة للشاعر معروف الرصافي القائل:

«تنظمنا الأيام شعرا وإنما

ترد المنايا ما نظمن إلى النثر

فمنّا طويل مسهب بحر عمره

ومنّا قصير البحر، مختصر العمر»

كما نقرأ له إجادات وردت في وصيته التي جاءت فيها هذه الشكوى الحزينة الدّالة اللافتة التي تشبه صرخة استغاثة..:«أراهم يهيّجون عليَّّ العوامّ باسم الدين ولا أظنهم يتركونني حتى يعدموني الحياة وليس لي من ألتجئ إليه سوى الله وكفى بالله حافظا وحسيبا وليس لي من الأقارب من أعهد إليه بوصيتي سوى معارفي من الأصدقاء الأحرار من أهل البلاد..أنا- والحمد لله - مسلم، مؤمن بالله وبرسوله محمد بن عبد الله إيمانا صادقا لا أرائي فيه ولا أداجي، إلا أني خالفت المسلمين فيما أراهم عليه من أمور يرونها من الدين، وليست هي منه إلا بمنزلة القشور من اللباب ولا يهمني من الدين إلا جوهره الخالص ».

أعمال الرصافي النثرية جسور الفكر الحر والقلم المستقل التي تصل القارئ بجوهره المشرق ولا تبتغي على ذلك جزاء ولا شكورا سوى متعة القيام بأمانة القلم وتبليغ رسالة الفكر وأعظم بها من أمانة وأكرم بها من رسالة..

أأرى الصباح ولا أغرّد شاديا

إني إذن حجر من الأحجار

أنا بلبل أنشودتي أغرودتي

أشدو بها، ويراعتي منقاري

لو لم أكن ذا لحية وسدارة

لحسبتني طيرا من الأطيار

وللرصافي الآن تمثال يقف منتصبا في ساحة الأمين في قلب عاصمة العراق الحبيب بغداد الخالدة الأبيّة ولو استطاع التمثال أن ينطق لردّد قول الشاعر:

إني رأيتك بعد الموت تندبني

وفي حياتي ما زوّدتني زادي!؟

وقد قال زميله التونسي علي الدوعاجي  (بالدّارجة التونسية):

عاش يتمنّى في عنبه

كيمات علّقولوا عنقود

ما يسعد فنان الغلبة

كان من تحت اللحود.

 

محسن العوني

 

........................

شاعر غنائي وكاتب مسرحي وقاص

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1378 الاحد 18/04/2010)

 

في المثقف اليوم