قضايا وآراء

ستّون عاماً من الحبِّ والصبر .. قراءة في حياة عبد الرزاق الصافي

وهي تتناوب في (الردّات) وأكفّهم تنزل لاطمة على صدورهم بإيقاع واحد تثير الرهبة والخشوع على حدٍّ سواء ..وحين كانت تجري (التشابيه) وهي أشبه ما تكون بمسرحيّة مفرطة في بكائيتها ومصابها تمثّل ما جرى في واقعة الطف، على أديم أرضية الشوارع والساحات ... كانت تلتمعُ في عينيه الصبيتيّن أسئلةٌ حيرى .. لِمَ يجري كلّ هذا؟  وما السرُّ وراء هذا العقاب الذاتي الجماعي؟  وكيف تمّ الأتفاق على أن تتجمّع عواطف هذه الحشود لتنتظم بإيقاع موحّد للندب والعويل؟ ومن هو الذي جمع كل هذا المصاب بشخصيته؟

وحين أستوعب بوعيه المبكّر الحقيقة بعد حين، وعرف تفاصيل قصة إستشهاد الحسين وذرّيته من أجل نصرة المباديء التي آمن بها .. ترسّخ في وجدانه إن التضحية بالنفس هيّنةٌ أمام تحقيق غاية أسمى كتثبيت دعائم العدل والمساواة بين الرعية ورفع الحيف عن الفقراء، وأكتشف إن ثنائية الظالم والمظلوم ..القاتل والضحيّة، موجودة في كل زمان .

لقد أستفاد عبد الرزاق الطالب في المرحلة المتوسطة  من المغزى الحقيقي لواقعة الطف، فهو بدلاً من يكون فرداً او جزءاً من هذه الحشود المصابة بلعنة الذنب، إختار طريق النضال الأيجابي من أجل قضية معاصرة، وهي تحرير العراق من الهيمنة البريطانية وإلغاء المعاهدات الجائرة التي كبّلته بها، وتحقيق العدالة المجتمعية مسترشداً بموقف الحسين البطولي وتضحياته  التي تواتر نقل أحداثها الفاجعة في الذاكرة الجمعية للناس عبر مئات السنين ... فأصبح كل الشعب الطرف المظلوم والمقهور في المعادلة المتمثّل بمظلومية الحسين تأريخيّاً ..وأصبح الأستعمار وعملائه وأذنابه من الساسة في الداخل الطرف الآخر الذي يتمثّل بيزيد أبن معاوية ورهطه بكل عدوانيته وإستخفافه بالقيم ..

فقرّر إبتداءاً أن يؤدّب النظام لوحده، وهو لا زال طالبٌ في الثانوية، فأنغمر في النشاط الوطني مساهماً في التظاهرات وشاجباً لمعاهدة بورتسموث بكلمة في حفل طلاّبي، حتّى صدرت بحقّه عقوبات إنضباطية كان آخرها تقديمه مع مجموعة من الشباب المتحمّس للمحاكمة أمام المجلس العرفي العسكري ..

وحين تأكّد أن ليس بمقدوره وحده مهما أوتي من قوّة وإصرار أن يغيّر شيئاً، راح يستعرض جميع القوى السياسية المناهضة للسلطة ربيبة الأستعمار القائمة آنذاك، والتي تنسجم أهدافها مع سعيه للتغيير، فلم يجد غير الحزب الشيوعي العراقي، فإنتمى إليه قبل إلتحاقه بكلية الحقوق .. وإبتدأ معه مسلسل المطاردات والاعتقالات والمحاكمات والسجن والفصل من الدراسة .. إلاّ أن إصراره على تكملة مشواره النضالي حتّم عليه أن يبذل المستحيل من أجل أن يتخرّج وهذا ما حصل عام 1954رغم كل المعوّقات والصعوبات، وبعد سنتين ترأّس سرّاً وفد إتحاد الطلبة العراقي العام الى براغ .

أيّد عبد الرزاق الصافي كبقية العراقيين ثورة تموز 1958  وأعتبرها تحرّراً من ربقة الأستعمار والتبعية وإنتصاراً لقوى الخير على قوى البغي والشر، فأندفع بحماسة الشباب المؤمن بصواب عقيدته النضالية أن يؤسّس مع بقية الكوادر المتقدّمة في الحزب منهجاً جديداً في العمل العلني فوق الأرض، ويشارك في تحشيد الجماهير لمناصرة الحكومة الوطنية  ومؤازرتها .. وتتويجاً لجهوده أرسله الحزب الى بلغاريا للألتحاق  بالمدرسة الحزبية العليا هناك .

ظهر إهتمام الصافي منذ البدأ بالجانب الثقافي والأعلامي والعلاقات العامة لما تتمتّع به شخصيّته من روحيّة صداقية محببّة، وقدرة على التحرّك ورغبة في التأليف والترجمة، ممّا اهلّه أن يلعب دوراً قياديّاً وإشرافيّاً مهمّاً في (إذاعة صوت الشعب العراقي) التي كانت تبث من صوفيا بعد أنقلاب شباط الأسود عام 1963 وساهم بشكل جدّي ومؤثر في تأليب الرأي العام العالمي على حكومة القتلة في بغداد .. ولم يكتفِ بذلك بل عاد سرّاً الى العراق قبل وصول البعث الى السلطة مرّة اخرى عام 1968 بأيّام، وشارك في تحرير طريق الشعب السريّة، ثمّ رأس تحريرها وهي علنية عام 1973 .

أصبح عبد الرزاق الصافي عضواً في المكتب السياسي للحزب، وأبدى شجاعة نادرة بعد إنهيار الجبهة الوطنية التي كانت بمثابة خديعة أرادت بها سلطة البعث كشف تنظيمات الحزب الشيوعي لغرض القضاء عليه، فظلّ الصافي مع قلّة قليلة من القيادة في بغداد بعد أن لجأت الغالبية منهم والكوادر المتقدّمة الى الخارج أو إلتحقت بالفصائل القتالية في شمال العراق، وأستمر بإصرار ومع كادر بسيط إصدار الصحيفة وكشف أكاذيب السلطة والرد على إتهاماتها، وكانت عيون رجال الأمن ملازمة له مثل ظلّه .. حتّى ادّعى يوماً وكعادته في المزاح وحب الدعابة إنه ساهم في تثقيفهم، فلم يبق مسرح أو معرض تشكيلي أو حفل موسيقي الاّ وكانوا من زواّره !

والغريب إنه كان طيلة تلك الفترة الخطيرة والمرعبة وفي ذلك الجو المشبع برائحة الموت وذلك الوجوم الذي يخرقه صدى عواء الذئاب في كل مكان، متماسكاً واثقاً من قدرته على النجاة، وهذا ما حصل صدفة دون تخطيط بعد أن تأكّد له أنهم  يريدون منه أن يبقى رهينة بقبضتهم، وبعد أن ضاق الخناق عليه تماماً، إذ نصبوا خيمة لمفرزة أمنية قرب بيته، فتمكّن من الأفلات من شراك الأذرع الأخطبوطية لنظام القمع، وإلتحق بصفوف المعارضة وقوّات الأنصار، ولعب دوراً مهمّاً في لملمة قوى المعارضة في الخارج وإقامة الأئتلافات لتوحيد الجهود لجعل تأثيرها أكثر في أوساط المجتمع الدولي .

وظلّ يشغل عضويته في المكتب السياسي في الحزب حتى المؤتمر السادس حين منعته ذبحة صدرية حادّة أصابته وهو في دمشق من ان يشارك .. وفي السنوات الأخيرة التي سبقت سقوط النظام الأستبدادي، أستقرّ في لندن بسبب حالته الصحيّة، ومن هناك واصل نشاطه في مجال الكتابة والترجمة وإشاعة مفاهيم العصرنة في الفكر الماركسي وتأكيده على إستغلال المرونة المبدأية بالنظرية الماركسية المبدعة كما يسمّيها والدعوة الى التخلّي عن الثوابت والمسلّمات التي تحكّمت بالكثير من العقليات القيادية التي كانت السبب وراء ما حصل للتجربة الأشتراكية العالمية .

أخيراً .. يبدو ليست مصادفة أن عُرف عبد الرزاق الصافي بكنيته الحزبية (أبو مخلص) ردحاً طويلاً من الزمن، فهو قد ضرب مثلاً للشيوعي المخلص فعلاً.. إذ سجّل حضوراً متمّيزاً ودؤوباً في الحزب .. فقد مضت ستّون عاماً عليه وهو لم يبتعد يوماً عن إداء مهامه بالتنظيم والتوعية والتثقيف، ولم تكلّ قدماه من السير على طريق الكفاح الوعر والشاق والمليء بالمخاطر .. فله كامل الحق أن يعتزّ بتأريخه المشرّف، ولنا كامل الحق أن نفخر بأن زماننا ينتسب الى زمانه .

وفي الختام .. أودُّ أن أذكر أن للصافي أكثر من احّد عشر مؤلّفا يتوزّع على التراجم والمؤلّفات والمذكرات الشخصية، ولا زال متواصلاً بالكتابة مدفوعاً بروحية الشباب التي نتمنّى أن تدوم أبداُ .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1380 الثلاثاء 20/04/2010)

 

 

  

في المثقف اليوم