قضايا وآراء

حديث العشّ... حديث الطائــر

شاهدت وتأمّلت عُشا وجدته أمامي وقد أصبت بالدهشة واستغرقت في التفكير من فرط ما رأيت فيه من الإتقان والإحكام والجمال والإبداع... نعم إنها العبارة...الإبداع الذي أنتجه طائر بما استودع من الأسرار والاستعداد، وقد اتفق أن كانت معي نشرية "اللاجئون" التي تصدرها مفوّضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين التي تحتفل بالذكرى الخمسين لإنشائها وقد صدّرت الصفحة الأولى بعبارة ليوريبيديس (431 ق.م) "ليست هناك حسرة على ظهر الأرض أعظم من فقدان الفرد وطنه" ولعل القارئ الكريم يتساءل عن العلاقة بين عُشّ الطائر سالف الذكر ونشرية المفوضية، وتساؤله في محله وجوابه بين السطور كامن وفي الضمير مضمر...معجم الطبيعة لا تبلى مفرداته ولا تنقطع بدائع كائناته..

بنى الطائر عشه بمقدرة فائقة وتصميم يدلّ على ذكاء وفطنة وإحساس...فقد جعل الأعواد الغليظة اليابسة في ظاهر العشّ ثم عمد إلى تغليف هذا الظاهر بأعواد أرقّ وألين وقد قام بتسديتها بشكل متقن ثم عمد إلى تبطينها بالصوف والقطن وبذلك اكتمل العشّ وقد جمع بين القوّة والصلابة في خارجه والنعومة واللطافة والدفء في داخله...لعلّ الاجابة بدأت تتضح ولعل المعنى بدأ يتجلّى...فقد رأيت في العشّ مثال الوطن في قوته ومناعته وصلابته في عيون أعدائه وخصومه ولطافته ونعومته ودفئه وحنانه وسعة صدره وكرمه مع أبنائه وأحبابه، وإذا كان الطائر قد توفّق في بناء عشّه بذلك الشكل المحقّق للغاية منه فلماذا لا  يتوفق الإنسان في بناء وطن أسكنه بين الأحداق من فرط محبته؟!...لعلّه يتوفق في ذلك بشكل أو بآخر...وطن تتحقق فيه جميع المواصفات التي تجعل منه عشا يأوي إليه الجسد والروح ويُشبع ما بينهما...إنه الوطن المنشود الذي يحلم به المهاجر والمقيم على السواء...وطن يُعدّ الإيمان بتحققه في يوما ما – مجرّد الإيمان بذلك – بلسما لجميع الجراح الغائرة في جسد الاغتراب...وطن حرّ يبنيه أبناؤه الأحرار، آلاف وملايين من الرجال والنساء والشباب والأطفال يحرّكهم العزم ويوجههم الأمل بعد أن تدفقت الدماء في عروقهم ودعاهم إليه شوق الحياة.

الطائر يبني عشه وعُدته في ذلك منقاره وما اختزن في كيانه من استعداد فطري وهو ينجح في ذلك أما الإنسان فهو يبني بعقله ووعيه ومهارته واستعداده ورغبته وإرادته وظروفه قبل أن يبني بيديه ولذلك فنجاحه متوقف على تحقق جميع ذلك وقبله معونة الله وتوفيقه...

إذا لم يكن من الله عون للفتى ** فغالب ما يجني عليه اجتهاده  - الطائر مخلوق نشيط منتبه حذر يقظ حتى أن أحد الحكماء نصح ولده قائلا : كن كالطائر يأكل الحبّة بحذر غير منغمس وهو دائما على أهبة الطيران والتحليق.. وقد ورد في الحديث الشريف "لو تتوكّلون على الله حق التوكّل لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا"

والإنسان تغلب عليه الغفلة وتستهويه المتع فينغمس فيها فإذا ملأ منها بطنه قعدت به فيعجز عن النهوض بعظائم الأمور إلا من عصمه الله فألجم نفسه وألزمها سبيل الخيرات "ولكل وجهة هو مولّيها فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا".

أحبّ البحار التي سأحبّ  / أحبّ الحقول التي سأحبّ/ ولكن قطرة ماء على ريش قبّرة

في حجارة حيفا تعادل كل البحار/ وتغسلني من ذنوبي التي سوف أرتكب/ أدخلوني إلى الجنة الضائعه/

سأطلق صرخة ناظم حكمت: آه... يا وطني!...

شعر محمود درويش

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1381 الاربعاء 21/04/2010)

 

في المثقف اليوم