قضايا وآراء

ماري ولستونكرافت: أم الحركة النسوية الحديثة

وقد لاقت كتاباتها استحسان الكثير من القراء الذين أقروا لها بالسبق الفكري.

ولقد زاد إعجاب الناس بولستونكرافت أكثر عندما تبين أنها من ألف "نداء من أجل حقوق الإنسان" وهو بيان نقدي اختارت نشره غفلا من الاسم ردا على الكاتب المحافظ المعادي للثورة الفرنسية إدمون بيركEdmund Burk 

 ظلت ولستونكرافت تدافع عن الثورة الفرنسية وتطالب بالحرية على الرغم مما نالها من الكلام القاسي، فقد وصفها الأديب والسياسي البريطاني هوراس ويلبولHorace Walpole  بأنها "ضبع في ثوب امرأة" عقب توجيهها نقدا عنيفا لماري أنطوانيت Marie Antoinette زوجة ملك فرنسا آنذاك. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد فقد تعرضت ولستونكرافت للترويع في المرحلة الدموية التي أعقبت الثورة الفرنسية بعد تبنيها موقفا رأت فيه أن ما حصل في فرنسا لم يكن سوى إزاحة طبقة أرستقراطية بحكم المولد والمجيء بطبقة ارستقراطية بحكم الثروة والجاه. وقد قوبل كتابها الشهير" نداء من أجل حقوق النساء" برد غير مباشر من أخصامها حمل عنوان" نداء من أجل حقوق العجماوات" وجاء فيه أن "رفض ولستونكرافت الأفضلية بالولادة سيجعل للحيوانات وحتى النباتات حقوقا".

تعرضت ولستونكرافت بعد موتها إلى تشويه سمعتها والحط من قدرها ،وقد تمّ تجاهل أعمالها حتى العام1900. وقد أثّر ذلك الموقف السلبي أن استغرق الاعتراف بمكانتها الفلسفية زمنا طويلا. كما استُبْعد اسمها من موسوعة الفلسفة في طبعتها الأولى وهو المصير ذاته الذي تعرضت له سيمون دي بوفوار. والغريب أن تلك الموسوعة تضمنت اسم زوجها الكاتب وليم جودون William Godwin   على الرغم من محدودية الإقبال على قراءة أعماله، كما تضمنت اسم زوج ابنتها الشاعر المعروف شيلي  Shelley

 

 ولستونكرافت وجون ستيوارت مل

قارن كثيرون ولستونكرافت بالفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت مل  Millالذي يعدّ من جملة وجوه وريثها الفكري. فقد شاطرها الأخير معارضتها الاستعباد وتاق معها إلى الحرية والمساواة وأيدها في وجود رابط بين العبودية والنمط السائد من الزواج على نحو ما جاء في كتابها" نداء من أجل حقوق النساء" وفي روايتها التي لم تكتمل" ماريا" أو "خطايا النساء" التي انتقدت فيها مؤسسة الزواج وإجحاف القانون بحق المرأة.

ومع أن ولستونكرافت وجون ستيوارت مل تشاركا في هذه الأفكار التنويرية إلا أن كلا منهما توصل إليها بطريقة مختلفة. ففيما تلقى مل تعليما جيدا منذ نعومة أظفاره ولقي من والده التشجيع عانت ولستونكرافت في حياتها من تجارب سيئة. فقد كان أبوها عدوانيا ماجنا ظل يجرجر عائلته الفقيرة من مكان إلى آخر مبددا كل ما كان يملك من المال، وهو قليل. أما ثقافتها وشخصيتها الفكرية فقد تشكلت خلافا لثقافة مل بفضل قليل من التعليم الرسمي المحدود وبفضل تتلمذها على أستاذين وسياسيين متميزين أتاحا لها قراءة العديد من الكتب وناقشا معها عددا من القضايا وطورا من قدراتها الفكرية في سن مبكرة حتى إن أحد هؤلاء ويدعى ريتشارد برايس Priceتحول إلى صديق لها شجعها على تحمل ما تعرضت له من نقد قاس على يد بيرك الذي كان سياسيا بريطانيا محافظا ومعاديا للثورة الفرنسية.

وبصرف النظر عن هذه الاختلافات فقد عارض مل وولستونكرافت الأدوار التقليدية للرجل والمرأة والتراتبية الاجتماعية التقليدية. أما في المستوى الشخصي فكان كل منهما على حافة الانهيار؛ إذ عانى مل من اكتئاب حاد في العقد الثالث من عمره وعانت ولستونكرافت طوال مرحلة البلوغ والنضج من المرض نفسه. ومن المعروف أن ولستونكرافت حاولت الانتحار مرتين في المرحلة التي سبقت وفاتها بسنتين وهي بعمر التاسعة والثلاثين وهي المرحلة ذاتها التي شهدت علاقتها الغرامية مع زوجها الثاني جودونGodwin .

على أن  ولستونكرافت كانت أقل نجاحا من مل في مواجهة الطعنات التي وجهها  إليها المتزمتون في حياتها وحتى بعد مماتها. ومن يقرأ مذكرات جودون زوجها الثاني الذي ارتبطت به- بعد عودتها من فرنسا- يجد نفسه مصدوما عندما يعرف أنها ارتبطت بعلاقة حب مع الكاتب الأمريكي Gilbert Imlay  في منتصف الثورة الفرنسية. وأن ثمرة تلك العلاقة كانت ابنتهما الأولى فانيFanny وأنهما لم يتزوجا فعلا بل أجبرا على تسجيل زواجهما اسميا في السفارة الأمريكية في باريس لحماية ولستونكرافت من العداء الذي أضمرته الثورة الفرنسيين ضد الانجليز لاسيما بعد أن تبين لها لاحقا أن علاقتها به لم تكن كما توقعت وأن عشيقها سيتخلى عنها وعن ابنتها بعد مدة قصيرة جدا.

 

ولستونكرافت وجان جاك روسو

 تعاطفت ولستونكرافت مع روسو في دعوته إلى تعليم الصغار من الذكور لتخليصهم من القيود المصطنعة المفروضة عليهم  لكنها اختلفت معه في اعتقاده بأن أهمية تعليم البنات تنبع من جعلهن متناغمات مع الرجال. فرأت أن هذا النوع من التعليم يخلق نساء كالدمى، مريضات ومتذمرات، صديقات للرجال مملات. والأسوأ من ذلك أنه يجعلهن أسرى لمظهرهن والرأي الشائع عنهن فيتحولن إلى مخلوقات لا تفهم معنى الأخلاق ولا القدرة على خوض غمار الحياة المستقلة ولا التحول حتى إلى أمهات وزوجات صالحات. وما ذاك إلا لأن الحقيقة والفضيلة والتعليم كما رأت صفات للمرأة والرجل سواء بسواء.

لقد عاشت ولستونكرافت وروسو حياة غير اعتيادية، فهي تبعت قلبها في العديد من العلاقات وظلت تفترض خطأ أنها مسؤولة عما لحق بها وبعائلتها وبأصدقائها وعائلات أصدقائها. أما روسو فقد ازدرى ومعلمته التقاليد والقواعد الجنسية للمجتمع آنذاك. فكتب عن التعليم المثالي لطفل متخيل يتخلى عنه أبوه الحقيقي الذي أنجبه بشكل غير مشروع (وهو على الأرجح في عمر الخامسة) ليودعه ملجأ أيتام. وقد صور روسو هذا دون أن يشعر أن سمعته ككاتب في خطر.

خلاصة

على أن هناك أشخاصا ممن كتبوا سيرة حياة ولستونكرافت شككوا فيما نسب إليها من ريادة في نقد نمط التعليم السائد والوضع القانوني المجحف بحق المرأة. ويرى هؤلاء أن ما كتبته وولستوكرافت جزء من مسار فلسفي امتد من الكتابة النسوية ابتداء من القرن الخامس عشر الميلادي. ومع أن ولستونكرافت لم تكن على دراية بما سبق من كتابات في هذا الخصوص فقد استطاعت أن تضع استراتيجية مستقلة من أجل إيجاد نمط من التعليم ينطوي على قدر أكبر من المساواة بين الرجل والمرأة. وهي دافعت بالحجج عن موقفها الناقد للقوانين والأعراف السائدة بما في ذلك ما اتصل منه بالميراث والزواج والتراتبية الطبقية كما يحسب لها دعوتها إلى الإقرار للمرأة بحقوقها في الدولة كما في البيت انطلاقا من نظرتها إلى تقارب المرأة والرجل في الموقع والمكانة فقد ظلت ترفض اعتبار الرجل مقياس كل شيء.

*Lnda, Bell, Wollstonecraft, in: a Companion to the Philosophers, edited by Robert Arrington, 1999.

    

 

 

 

في المثقف اليوم